سيرة الاغتراب: حفريات في جسد المنفى

سيرة الاغتراب: حفريات في جسد المنفى.


**”سيرة كوردي في زمن العدمية”**
> “هذا ليس مقالًا، بل نشيدٌ جنائزيٌّ للوطن الذي نحمله فينا، ونخاف أن يموت قبلنا.”
حسين خوشناو _أستراليا_
## البداية: سيرة التشظي
كُتبت هذه الكلمات بيدٍ ترتجفُ مِن سَكَرات الذاكرة، وقلبٍ ينزفُ كوردستانَ كلَّما همسَ له صوتٌ مِن شقلاوة.
ثلاثونَ عامًا وأنا أحفرُ في صخور المنفى، أبحثُ عن بصمةٍ لي في عالمٍ لا يعترفُ إلا بالغرباء.
وُلِدْتُ بين بساتين الكروم التي تُغنّي لأجدادي، وشبعتُ مِن رائحة الشاي التي كانت تُحمصُ على نار الحطب، حينما كان صوتُ حجر الرحى يُشبه أنشودةَ الخلود.
أكتبُ هذه السطورَ بيدٍ تترنحُ تحت وطأة ثلاثينَ عامًا مِن التشظِّي، وكأنما أحفرُ بأظافري في جدران الزمن.
وُلِدْتُ بين أحضان بساتين وجبال شقلاوة، حيث تُغنّي أشجارُ الجوز لحنًا قديمًا لكلِّ مَن يمرُّ بها، وتتنفَّسُ الأرضُ قصصَ الأجداد مع كلِّ نسيمٍ يعبرُ حقولَ القمح في “دشتي هولير” و”هرير”.
تنفَّستُ هواءَ هولير، المدينة التي لا تُشبه غيرَها، حيثُ تَعانَقَ عَرَقُ التاريخِ وَدَمُ الحُروبِ فوقَ مَقاهي الشّاي.
في قهوة “مَجكو” تحتَ ظلِّ القلعةِ التي وقَفَتْ في وَجهِ هولاكو، يَلُفُّ الدخانُ حِكاياتِ الأجدادِ كأشباحٍ تَتَهادى بَينَ الأكواب.
هذهِ القلعةُ التي تَحملُ تاجَ المَجدِ، تَخبئُ تحتَ أحجارِها دَمَ العُشّاقِ وَغُبارَ الثّورات.
وفي المئذنةِ العاليةِ، حيثُ كانَ الحاجُ لقلقُ يُنسّقُ هِجراتِه كسطورٍ مَنسيّةٍ في دَفتَرِ الزمنِ، صارَ عُشُّهُ التّذكاريُّ – بَعدَ رَحيلِه العَبثيّ – وَسماً أزرقَ على جَبينِ السّماءِ.”

## الفصل الأول: اغترابٌ وجوديٌّ
المنفى: موتٌ يوميٌّ في عالم مارتن هايدغر.
لم أكن أعلم أن الغربةَ ستكون جريمةً وجوديةً بهذا الوضوح.
كان هايدغر محقًّا حين وصف الاغترابَ كفقدانٍ للانتماء إلى «العالم-الحياة» (Lebenswelt، مصطلح إدموند هوسرل).
يقول الفيلسوف: “الوجود الإنساني هو وجودٌ مُلْقًى به في العالم”.
لكن ماذا لو كان «العالمُ الذي أُلْقِينا فيه» لا يتحدثُ بلغة القلبِ بل بلغة الأرقام؟
الغربة هنا ليست مجرد بُعدٍ جغرافيٍّ عن كوردستان، بل انفصامٌ عن “الذات” التي تشكَّلت في حضن الوطن.
الفيلسوف الوجودي سورين كيركغور يصف هذا الألم فيقول: “أعمق أشكال اليأس هو أن تفقدَ نفسك… وتدركَ أنك غريبٌ حتى عن ذاتك”.
في غربتي — فقدتُ نفسي، وفقدتُ الروابطَ التي تُعطي الحياةَ معنًى:
صوتَ الأمِّ في بساتين شقلاوة، ضحكةَ الإخوة والأصدقاء في سوق هولير القديم، حنانَ الأبِ وصراخَه، ضجيجَ الأطفال، غناءَ السكارى، دخانَ المطاعم، صوتَ “شالور” وماءَ “دنكارة”، حتى رائحةَ الترابِ بعد مطر كوردستان و أولادي وعائلتي وفوقَ هذا كلِّه، فقدتُ “نوروز” ونارَها الأزلية المقدسة.
قيل لي يومًا: “أعمقُ اليأس أن تفقدَ ذاتَك”.
لكنهم لم يخبروني أنَّ فقدانَ الذاتِ يبدأُ بفقدانِ رائحةِ خبزِ الأمِّ في الصباح.
الفيلسوف ألبير كامو يرى في الغربة تعبيرًا عن العبثية:
“الإنسانُ غريبٌ في كونٍ لا صوتَ له يردُّ على صراخه”.
يشير كامو إلى أن الجسدَ هو “الحقيقة الوحيدة المؤكدة” في مواجهة غياب المعنى.
لكن عبثيةَ كامو باردةٌ، أما غربتُنا فمحشوَّةٌ بذاكرةٍ دافئةٍ تزيدُ مِن قسوة الألم.
هنا، في ضواحي سيدني، صرتُ شبحًا بين لغتين: الكورديةُ تموتُ في حلقي مثل طائر ، والإنجليزيةُ جافةٌ لا تحملُ رائحةَ التينِ مِن بستان جدي.
«الوجودُ في العالم» كما وصفه هايدغر، لم يعد ممكنًا لي هنا.
تحوَّلَ المنفى مِن مجرَّد مسافةٍ جغرافيةٍ إلى انكسارٍ وجوديٍّ.
اللغةُ الكورديةُ تختنق في حلقي كطائر محبوس كلَّ يوم، فليس هناك مَن يسمعُها.
طقوسُ الصباحِ فقدت قداستها: قهوةٌ سريعةٌ مِن ماكينةٍ بدلًا مِن ذلك الطقسِ المقدَّس حيث كان أبي يعدُّها.
في أستراليا، حتى شايُ الصباحِ لا يُشبه شاي أمي في شقلاوة.. تلك التي كانت تُحمصُ على نار الحطب، وكُنا نسمعُ صوتَ رنين الاستكان كأنه أنشودةٌ للوطن.
الغربةُ هنا ليست نقصًا في المواطنة، بل هي اغترابٌ وجوديٌّ كما يعرفه هايدغر:
فقدانٌ للانتماء إلى «العالم-الحياة».

## الفصل الثاني: جسد المنفى
، في أرضٍ لا تعرفُ طعمَ الرمان الكورديِّ، أصابني السُّكَّري ..
الأطباءُ يقولون: “قلِّلْ مِن السكر”، لكنهم لا يفهمون أن المرضَ ليس جسديًّا فقط.
سُكَّري الروحِ أقسى من الجسد: عطشٌ إلى ترابٍ لم أعد أستطيعُ لمسَه. حتى ضغطُ الدمِّ يرتفعُ كلَّما سمعتُ نشيدًا وطنيًّا.
لأطباءُ يقولون إن السببَ وراثيٌّ، لكنني أعرفُ أن للاغترابِ يدًا في ذلك.
سُكَّري الروحِ فلا دواء له وهو أشدُّ قسوةً مِن سُكَّري الجسد.
إنه عطشٌ لا يُرْوَى، حنينٌ إلى ترابِ الوطنِ الذي لم أعد أستطيعُ لمسَه.
في المستشفيات الأسترالية، يعاملونني كآلةٍ مكسورةٍ: “مستوى السكر 250، خُذْ إبرةَ الأنسولين”!
لكنّ لا احد يستطيع ان يعالجُ ذلك الألمَ الذي ينخرُ روحي.
في عيادات سيدني، أتذكَّرُ مقولةً قديمة: “ذاكرةُ الوطنِ كندبةٍ في الجسد”.
نعم، كلُّ ندبةٍ في جسدي تُعيدُ رسمَ خريطةِ شقلاوة.
(غاستون باشلار: «ذاكرةُ الوطنِ كندبةٌ في الجسد»).
لكنني أرى أن المرضى في المنفى هو شاهد حي على جريمة الغربة”.
المرض الجسدي – كما أعانيه – يضاعف وحدة الروح.
الفيلسوف “فريدريك نيتشه” الذي عانى الأمراض طويلًا كتب كثيرا عن الامراض بمعنى ان:
“المرض يجعل العالم سجنًا، والجسد قضبانًا”.
لكنني أضيف: المرض في الغربة سجن بلا نوافذ لمحكوم بريء بالإعدام.
في كوردستان، كان المرضُ طقساً جماعياً، أمٌّ تضعُ يدها على جبين المريض، جاراتٌ يأتين بالحلوى، أصواتُ الدعاءِ تملأ الغرفة والمراقد تهتز.
### الفصل الثالث: خيانة الساسة الكورد.
لم أكن أعلم أن الخيانة ستأتي مِن الذين قاتلتُ مِن أجلهم.
أيها الزعماء الكورد بجميع ألوانكم وأصنافكم وانتماءاتكم، لقد نسيتُمونا! وطويتمونا في سجل النسيان!
لقد حوَّلتم دمَنا إلى عملةٍ في سوقِ النخاسةِ السياسية.
سُجِنتُ وعُمري ستةَ عشرَ عاماً ، وتعرَّضتُ للتعذيب لأنني رفضتُ أن أنكرَ هويتي… مثل آلافٍ مِن خيرة شباب قوميتي.
قدَّمتُ دَمي وحياتي لأجل قضية كوردستان، خَدمتُ ضمن صفوف البيشمركة… تَغَرَّبتُ… تاركًا وَطني وأهلي وحياتي.
ثلاثون عامًا وأنا أرى وجوهَكُم تُزيّنُ شاشاتِ الفضائيات… بينما عظامُ رفاقي تُزيّنُ المقابرَ والمنفى.
المفكر **”اللورد آكتون”** يقول: *«السُّلطة تُفْسِد… والسُّلطة المُطْلَقَة تُفْسِدُ بشكلٍ مُطْلَق»*.
قبل ثلاثون عاما وانا لوحدي في الغربة أسَّستُ أولَ صحيفةٍ كورديةٍ في أستراليا باسم “الكورد”، أطلقتُ أولَ إذاعةٍ كورديةٍ في جنوب أستراليا “صوت الكورد”.
وفي نيسان ، يوم سقوطِ صَنَمِ الطاغية ، أصدرتُ صحيفةَ “الفرات” بثلاث لغاتٍ (الكوردية، العربية، الإنجليزية)، لأُوثِّقَ أن الهويةَ لا تُقتَل، وأن كوردستانَ لا تُدفَنُ تحت أنقاض التاريخ.
منذ ثلاثون ربيعا وأنا أُمسكُ بِحرفٍ كورديٍّ أخضرَ في برية الغربة…
صحيفتان يولدان مِن دمي، وإذاعةٌ تَصُدحُ بصوتٍ يعبرُ المحيطات، ومقالاتٌ تُحوِّلُ آلامي إلى خريطةٍ للوجود.
كتبتُ عن البيشمركة و الشهداء والابطال و جبال زاغروس وسفين وخواكورك و عن كركوك وهي تُنزفُ دمَها الأسودَ في سجلات التاريخ…
عن رجالٍ رفعوا أسم كوردستانَ على أطراف الرماح، فصارت قبورُهم شواهدَ على أرضٍ لا تعترفُ إلا بالأرقام.
“ كتبت عن حبِّ الوطن، وعن الغربة التي تأكل الروح، وعن شعبي الكوردي الذي لا يزال يُذبَحُ على مذبح الجغرافيا السياسية
أريدُ أن أقولَها بِمَرَارَةٍ: لقد خانني السِّياسيون الكورد قبل أن تخونني الغربة!
نعم، أولئك الذين رفعتُ صوتَهم في الإذاعات والصحف التي أسَّستُها، وكاتبتُ زعماء العالم مِن أجلهم، نَسُوني كأنني غُبارٌ على جبين التاريخ.
والان الصحفَ صارت أوراقًا تأكلها النيرانُ في ساحات الدبلوماسية، والإذاعاتَ صارت صرخاتٍ تختنقُ في زجاجاتِ السياسة الفارغة.
اليوم، وأنا أُساقُ إلى سجنٍ أكبرَ: سجنِ النسيان و الانكار .
قد تنسونني، لكن التاريخ سيذكر أن رجلاً واحدًا في المنفى صنع إعلامًا للقضية بينما كنتم تصنعون لنفسكم قصورًا.
تعلمون ما هو جُرْمي؟
أنني لم أنتمِ إلى سياستهم ضدَّ بعضهم، ولم أكتبْ ضدَّ الذين عارضوهم واختلفوا معهم.
وكلما طلبتُ دعمًا لأيِّ شيءٍ يُخفِّفُ مِن معاناة الغربة… قالوا:
*«لا نُمَوِّلُ المَنافي!»* بينما اشتروا فيلاتٍ وعقاراتٍ وفنادقَ في مدنِ وسواحلِ أستراليا بعشرات الملايين مِن دولاراتِ المسروقة من قوت شعبِ كوردستان المظلوم.
اليوم، وأنا أموت وحيدًا، لا أحد منهم يتذكَّر أن رجلاً كورديًّا في أستراليا دافع عنهم يوم كانت أستراليا تجهل حتى اسمَ “كوردستان”.
حولتُ دمي إلى حبرٍ في صحفٍ صارت وقودًا لسياساتهم
جُرْمي أنني آمنتُ بِـ “كوردستان” التي تَجمعنا، لا بالزعيم الذي يُفرِّقنا. دافعت عن وطن لا املك شبرا من أرضها.!.
### الفصل الرابع: محاولات البقاء
اخترعتُ طقوسًا للبقاء:
اخترعتُ طقوسًا لأسرق الحياةَ مِن فَكِّ الغربة:

> – أسمعُ نشيدَ *”ئەی رەقیب”* كلَّ صباحٍ… كأنِّي أردِّدُ مع الأبطال: *”لا تُسلَبوا كوردستانَ منّا مرتين: مرةً بالحدود، ومرةً بالنسيان والخيانة”*.
> – أشربُ شايَ الصباحِ مع تينٍ مجفَّفٍ من بستان جدي… كي لا تذوبَ آخرُ بصماتِ التربةِ التي مشيتُ عليها حافيًا.
> – أصابعي تتجوّلُ على خريطةِ أربيلَ المُتهالكة… كأنما ألمسُ وجهَ أمٍّ نسيَتها عيوني لكنّ قلبي لا يزال يُناديها.
> – قصائدُ *”الهيراني”* تتدفّقُ مِن شفتيَّ قبل النوم… فتُعيدُ للّغةِ الكوردية نبضَها في عروقي كـ *”نهرٍ يبحثُ عن منبعه”*.
> – أنامُ على صوت *”طاهر توفيق”* يُناجي: *”شيرين بهاره… شيرين أنها الربيع واتذكر ملامح ابي المسكين وهو يردد كلماتها”*… فأحلمُ بأنَّ الغربةَ مجرَّدُ كابوسٍ.
ربما لم تُغنِ هذه المحاولاتُ عنّي وَحشةَ المنفى…
لكنّها صنعتْ لي وطنًا مؤقتًا: حروفٌ تُشبهُني، تُولدُ كلَّ صباحٍ مِن رماد الذاكرة.
### مقارنة رمزية بين الماضي والحاضر:
«في كوردستان ، كنتُ أطارد الفراشات في حقول القمح وأشمُّ رائحةَ تبنِ “كارة” المُعتَّقِ تحت أشعة الشمس**، وعندما يُثقِلُ التعبُ جفوني، ألقي بنفسي في احضان الأرضِ كطفلٍ ينام في حضنِ أمه، “أسمعُ همسَ حجرِ الرَّحى يطحنُ القمحَ كأنه يُناجي الأجداد”.
أحلمُ بفراشةٍ ذهبيةٍ تحملني إلى حيثُ **رائحةُ “الشيلان” تختلطُ بأنفاسِ النهرِ القديم**…
أما هنا، فأجري خلف مواعيد الاطباء وأضيع في مترو سيدني وفي شوارعها الضيقة كمتشردٍ يبحث عن ظلٍّ لجرحه، أو كمجنونَ هربَ من مصحَّةٍ لا تعالجُ إلا الأجسادَ وتقتلُ الأرواح”*.
*”ألتفتُ. من حولي مفزوعا… أشباحٌ… عيونٌ بلا نظرات، وأجسادٌ تتحركُ كآلاتٍ نُزعت أرواحُها”*.
لقد عَلِمتُ يومًا أن الأولى كانت حُريةً… والثانية سجنٌ مُذهَّبٌ يُعلِّمُك أن **صوتَ آلةِ المصنعِ أغلى مِن ضحكةِ طفلٍ**».
*”كنت أحلمُ بأن أبني مدرسةً في شقلاوة تُعلِّم الأطفالَ كيف يقرأون نبضَ الأرضِ قبل الحروف، ويَسألون عن سرِّ موت الفراشاتِ أكثرَ مِن سُرعةِ الإنترنت”*.
لكنّ الغربة جعلتني ترسًا في ماكينةٍ لا تعرفُ إلا صريرَ الإنتاج.
*”كما لو أن ماركوز كان يخاطبني شخصيًّا: «أنت في المصنع مجرد ذاكرةٍ مشوَّهةٍ لطفل كان يرقصُ مع الفراشات!»”*.
**”هربرت ماركوز”** (مِن مدرسة فرانكفورت) يُعلِّق: *« **”الأنظمة تختزلنا إلى أرقامٍ في جدولٍ إكسيل، بينما تدفنُ أحلامَنا تحت ركام الإنتاج، فتقتل فيه روح الإبداع»*.
“في شقلاوة أسمعُ في الليلِ صوتَ ماء “دةنكارة” يهمسُ بأسماء أصدقائي المفقودين والمعدومين، اما هنا أستيقظُ على رائحةِ دخان واصوات السيارات ُنذرُ بيومٍ آخرَ بلا معنى.
الغربةُ ليست مكانًا.. بل رائحةٌ تختنقُ بها الروح، وصوتٌ يقطعُ أوتارَ الذاكرة.
“في المنفى، حتى الروائحُ تخونك.. رائحةُ التينِ الكرديِّ تموتُ في أنفك، ليحلَّ محلَّها عطرُ مُعقّماتٍ تقتلُ جرحَ الذاكرة وتعمق الضياع.
في “كريكور” (شقلاوة) كان صوتُ خرير ماء (زندور) يُهدهدني كأغنيةٍ لم تكتمل،**”أما في سيدني، فصوتُ القطارِ يُشبهُ أنينَ روحٍ تُحاكيها آلةٌ بلا قلب”.**
في “تم تم” كنت أشمُّ رائحةَ الترابِ بعد مطرٍ عابرٍ ، فتختلطُ بي ذكرياتُ أمي وهي تُعَلِّقُ الغسيلَ بين أشجار الجوز.
أما هنا، تَلتصقُ بي رائحةُ البلاستيكِ كجلدٍ ثانٍ تُذكّرني بِخِيانةِ الزمن”.
لقد سرقت مِنّي الغربةُ شبابي وأولادي وصحتي…
الوحدة في الغربة ليست اختيارًا، بل قدرًا مفروضًا حين ينقطع حبل التواصل مع الماضي.
الفيلسوفة حنة أرندت تقول: “أسوأ ما في المنفى أن الآخرين لا يسمعونك، أو يسمعونك لكنهم لا يفهمون”.
هذا ما حدث مع أولادي، فالحضارة الغربية علمتهم الفردية والأنانية، لكنها نسيتهم أن الإنسان جذور وكوردستان وانا جذورهم.
“سيمون دي بوفوار”** تصف هذا الضياع: *«الشيخوخة ليست عدد السنوات… بل الفجوة بين مَن كُنتَ ومَن أصبحتَ»*.
وتقول أيضًا: *«لو عَرَضَ المرءُ نفسَهُ صفحةً مقروءةً أمام غيره بكل نزاهةٍ… فإن الجميعَ تقريبًا سيجدون أنفسهم متورطين»*.
فيا تُرى… مَن هم المتورطون معي؟!
“أحيانًا أسأل نفسي: هل أنا الخائن لأني تركت كوردستان؟
فيجيبي صوتٌ من أعماقي:
بل أنت الضحية.. ضحية حدودٍ رسمها المستعمر، وشتّتت شعبًا كان يجب أن يكون دولة” و وقع تحت حكم الاخوة الاعداء الفاسدين.
: اعترافات منفيّ
“حلمتُ…
عدتُ طفلًا في كوردستان.
أركضُ حافيًا في بستان أبي.
آكلُ الترابَ فرحًا…
أسقطُ.
يختلطُ دمي بالتراب.
أستيقظُ.
صوتُ إنذار السكري يصرخ:
«هذا ليس وطنك!».

أعترفُ:
أنني لم أعد أتذكرُ وجة أمي بوضوح، وأنني بدأت أخلطُ بين أسماءِ إخوتي وأنسى أسماءَ الأزقةِ في أربيل،ولا أعرفُ كيف أتعاملُ مع مَنْ حولي” ،لكنني ما زلتُ أعرفُ كيف أبكي بالكوردية وارقص عطشاً كطير “القبج” المذبوح الذي ضحى بحياته من اجل انقاذ جنسه من القفص …..
ربما أموتُ هنا قريباً، في هذه الأرض البعيدة.
لكنّي سأطلبُ أن يُكتب على قبري:
“هنا يرقدُ كورديٌ حفر اسمَ وطنه على صخور الغربة..
فهل تسمعونه أخيراً؟”
ربما لن تنتهي غربتي بموتي، بل بموت آخر يتذكر كوردستان كما عرفتها.
سأظل أحفر في جسد المنفى، ليس بحثًا عن بصمة لي، بل عن بصمة للوطن في .
وعندما أعلم أن صوت حجر الرحى سيختفي يومًا، وأن رائحة شاي أمي ستتبخر من ذاكرتي.
حينها، سوف اصبح غريبًا حتى عن ذاتي ولن اتذكر حتى أسمي…
لكن اليوم، ما زلت أستطيع البكاء بعيون الشهداء… وما زلت أصرخ: ها هي ذي كوردستان — ليس فقط في الجغرافيا والخرائط المزيفة، بل في الجرح الذي احمله في اعماق روحي الذي لا يندمل, حتى الطائر المحبوس قد يغرد ذات صباح هنا كوردستان.
الخاتمة: رسالة إلى أبنائي.. وإلى كل شابٍّ….
جرحٌ يكتب نفسه
“أيها الأبناء…
لا تبيعوا ذاكرتكم كما باعوا دمي.
سأموت هنا غريبًا، لكنّ حروفِي ستظلُّ تُنزفُ اسمَ كوردستان على جدار الغربة.
(محمود درويش كان محقًا: المنفى هو آخر الأماكن… والوطنُ أولُّها.
لا تبيعوا ذاكرتكم في سوقِ الغربِ الرقميِّ.
الوطنُ ليس أرضًا فحسب… بل رائحةُ شايٍ تُرافقُ الموتَ في المنفى.
سيقولون لكم: “المستقبلُ هناك”.
لكن اِعلَموا أنَّ المستقبلَ سرابٌ…
إذا نسيتم أنَّ الماضيَ ينزفُ في عروقكم.
لا تنخدعوا ببريق الغرب، ولا بخطابات السياسيين الفارغة.
الغربة خيانةٌ مزدوجة: خيانةٌ للوطن الذي غادرتَ، وخيانةٌ للذات التي فقدتَ».
كما كان إدوارد سعيد محقاً حين قال: “المنفى هو المكان الذي يأتيك فيه البريد السياسي.. لكنه لا يأتي أبدًا من الوطن”.
أما أنا اصبحت كشجرة الدلب الكوردية (الشانة) التي تُقتلع من جبال زاغروس لِتُزرع في أرض غريبة..
تظل حية، لكن أوراقها تذبل، ولا تُزهر إلا حين تهمس لها الرياح بلغة كوردستان”.
“كما قال جبران خليل جبران” محقاً: “الغربة صمتٌ يابسٌ.. تشرب ماءه فلا يرتوي الظمأ”.
أعيشُ على “حقن الأنسولين” وذكريات الماضي، لكنني سأظلُّ أحذّركم:
لا تبيعوا عمركم في سوق الغربة.. فالشباب لا يعود، والأحلام إذا ماتت لا تُعود.
“سأموت غريبًا و وحيدا… لكن حروفي ستظل تنزف اسم كوردستان على جدار الغربة”
.. كتبتُ كي لا أموت.. وبقيتُ أموت كي أكتب….
***********
*هوامش فلسفية وأدبية:
مارتن هايدغر:
“الوجود الإنساني هو وجودٌ مُلقى به في العالم”
سورين كيركغور:
“أعمق أشكال اليأس هو أن تفقد نفسك.. وتدرك أنك غريبٌ حتى عن ذاتك”
ألبير كامو:
“الإنسان غريب في كون لا صوت له يردُّ على صراخه” ” اسطورة “سيزيف”
اللورد أكتون:
“السلطة المطلقة تُفسد بشكل مطلق”
نعوم تشومسكي:
“السياسي الفاسد كالثعبان.. يلدغ حتى يدافع عن نفسه”
بول ريكور (الذاكرة، التاريخ، النسيان):
“الذاكرة هي آخر ملجأ للهوية حين يُنهب الوطن”
غاستون باشلار:
“ذاكرة الوطن تظل كندبة في الجسد، تُؤلم كلما اقترب المطر”
هربرت ماركوز:
“الأنظمة تختزل الإنسان في كونه مُنتجًا ومستهلكًا فقط”
سيمون دي بوفوار:
“الشيخوخة ليست عدد السنوات، بل الفجوة بين من كنتَ ومن أصبحت”
جبران خليل جبران:
“الغربة صمتٌ يابسٌ.. تشرب ماءه فلا يرتوي الظمأ” .
محمود درويش:
“المنفى هو هذا المكان الأخير.. الوطن هو هذا المكان الأول”
حسين خوشناو :
كتبتُ كي لا أموت.. وبقيتُ أموت كي أكتب. انين الغربة.
هوامش اخرى:
– اي رقيب (بالكوردية: «Ey Reqîb» أو «ئەی ره‌قیب») قصيدة كتبها الشاعر الكوردي دلدار أثناء وجوده في أحد المعتقلات في كوردستان إيران في 1938، ولحّنها حسين البرزنجي. المعنى الحرفي لعنوان النشيد «أيها الرقيب» إذ يخاطب الشاعر رقيب الذي سجنه .
اتخذت هذه القصيدة نشيداً وطنياً لجمهورية مهاباد التي نشأت في شمال غرب إيران واستمرت 11 شهراً.
وهي كذلك النشيد الوطني في إقليم كوردستان وتعتبر من مقداسات الشعب الكوردي في العالم.
. نوروز (Newroz/نەورۆز)
رأس السنة الكوردية: يُحتفل به في 21 آذار/مارس.
الطقوس: إشعال النيران (رمزًا للنور والانتصار على الظلم)، والرقصات الفلكلورية، وارتداء الملابس التقليدية.
الرمزية: يرتبط بأسطورة كاوا الحداد الذي انتصر على الطاغية ضحّاك، وفق الميثولوجيا الكوردية.
في النص: عبَّر الكاتب عن حزنه لفقدان نوروز في المنفى، كجزء من اغترابه الوجودي.
– شقلاوة (Şeqlawe/شەقڵاوە)
الموقع: مدينة صغيرة تابعة لمحافظة أربيل في إقليم كوردستان ، تقع على شمال شرق مدينة أربيل، عند سفح جبل سفين.
السِّمات: تشتهر ببساتين الجوز والكرز، وشلالاتها الطبيعية، وجبالها المغطاة بأشجار الصنوبر.
الثقافة: تُعتبر مركزًا للتراث الكوردي، حيث تُقام فيها مهرجانات شعرية وفنية. ذُكرت في النص كمهد الكاتب الذي ارتبط بذكريات طفولته.
. هولير (Hewlêr/هه‌ولێر)
الاسم الكوردي لمدينة أربيل: عاصمة إقليم كوردستان ، وتُعد من أقدم المدن المأهولة في العالم (يعود تاريخها إلى 6000 ق.م).
المعالم: تشتهر بقلعتها التاريخية (قلعة أربيل) المُدرَجة على قائمة اليونسكو للتراث العالمي.
في النص: عبَّر الكاتب عن حنينه لرائحة المدينة التي تختلط فيها “رائحة الشاي بِدَمِ الحروب”، إشارة إلى تاريخها المليء بالصراعات والأمل.
دةشتي هولير (Dashtî Hewlêr/دەشتى هه‌ولێر)
المعنى: “سهل أربيل” بالكوردية.
الموقع: سهل واسع يحيط بمدينة أربيل، يُستخدم لزراعة القمح والشعير.
الأهمية: يُعد مصدرًا رئيسيًّا للحبوب في كوردستان، ويرمز إلى الخصوبة والعطاء في الأدب الكوردي.
– هرير (Herîr/هەریر)
منطقة زراعية: تقع في محافظة أربيل، تشتهر بحقول القمح الممتدة.
في النص: ذُكرت كرمز للذاكرة الزراعية الكوردية التي تربط الإنسان بالأرض.
. جبال زاكروس (Zagros/زاجرۆس)
أطول سلسلة جبال في كوردستان: تمتد من إيران عبر العراق وتركيا.
الأهمية: تُعتبر رمزًا للهوية الكوردية ومقاومة الشعب الكوردي عبر التاريخ.
في النص: ذُكرت كخلفية لقصص الأجداد وكرمز للصمود.
. سفين (Sefîn/سفين)
جبل في شقلاوة: يُشكل معلمًا طبيعيًّا بارزًا، تُحيط به غابات صنوبر وبساتين فاكهة.
في النص: ارتبط بذكريات الكاتب عن طفولته في أحضان الطبيعة والوطن والنضال.
. خواكورك (Xwakurk/خواكورك)
جبل قريب من شقلاوة: يشتهر بتضاريسه الوعرة وينابيع المياه العذبة.
– جبل كارة يبلغ ارتفاع قمة جبل كاره 2151 م، عن سطح البحر وتقع شمال شرق مدينة دهوك. تعتبر قمة جبل كاره موقعاً سياحياً طبيعياً , وهي من اجمل جبال المنطقة.
الأهمية: ارتبط اسمه بالتراث الكوردي، حيث تُروى حوله حكايات شعبية عن الشجاعة والصمود.
في النص: ذُكر كرمز للذاكرة الجبلية التي تُمثِّل هوية الكورد
. دنكارة (Dengare/دەنگارە)
نهر ينبع من جبل سفين: يمر عبر شقلاوة، ويُستخدم لري البساتين.
في النص: ذُكر كرمز لـ “صوت الطبيعة” الذي كان يُهدهد الكاتب في طفولته.
. زندور (Zendûr/زەندۆر)
جدول ماء في شقلاوة: يتفرع من نهر دنكارة، ويجري بين بساتين الجوز.
الثقافة: ارتبط بصوت خرير المياه الذي يصفه الكورد بـ “أنشودة الطبيعة”.
. كريكور وتم تم (Krikor & Tem Tem/کریکۆر و تەم تەم)
منطقتان سكنيتان في شقلاوة: يُعتقد أن أسماءهما تعود إلى عائلات أرمنية عاشت في المنطقة تاريخيًّا.
التاريخ: خلال الحرب العالمية الأولى، هاجر العديد من الأرمن إلى كوردستان، وتركوا بصمتهم في أسماء الأماكن.
– مجكو” باللغة الكوردية ” مەچکۆ” مقهى أو “چايخانة “مجكو” تاسست في عام 1940م على يد مجيد إسماعيل المعروف بـ (مجكو)، تجاوزت”مجكو” في أربيل دورها كمجرد مكان تجمع لقضاء أوقات الفراغ وتناول المشروبات، لتختص بنشاط سياسي وثقافي موازٍ لدورها الأساسي، وتتحول إلى رمز يفوح منه عبق التاريخ ويجسد روح أربيل التاريخية.
تفصيل أدبي: ورد في النص أن والد الكاتب عمل في مقهى “مەچکۆ” (مجكو) التاريخي في أربيل خلال الخمسينيات.
. طاهر توفيق (Tahir Tawfiq/تاهر تەوفیق)
فنان كوردي: مغنٍّ وملحّن كوردي (1930–1998)، يُعتبر أحد أعمدة الغناء الكلاسيكي الكوردي.
أشهر أغانيه: “شيرين بهاره” (شيرن انها الربيع)، التي ذُكرت في النص كجزء من طقوس الكاتب للبقاء في المنفى.
التأثير: ارتبطت أغانيه بذاكرة جيل كامل من الكورد المناضلين الذين شاركو في تاسيس جمهورية مهاباد وانتكاسة 1974 ، حيث تجسّد الحنين إلى الوطن والنضال والحرية ضمن اغنية سياسية .
. صافي الهيراني (Safi Hirani/سافى ھەیرانی)12ز م
شاعر كوردي صوفي من هيران – شقلاوة، عُرف بجمعِه بين الروحانيات والرومانسية. ينتمي إلى عائلة دينية أرستقراطية حملت لقب “كاك” (السيد)، وكانت رائدة في نشر الطريقة القادرية الصوفية. تُغنّى قصائده في المناسبات الدينية والاحتفالات، وتحوّلت بعضها إلى أغانٍ خالدة بأصوات فنانين مثل طاهر توفيق. وعدنان كريم يُعتبر رمزًا للهوية الكوردية التي تقاوم النسيان عبر الكلمة والموسيقى.
النص الثاني **التشظي تحت جسر الزمن**

**المقدمة**
أكتب بحبر الذاكرة المتكسرة، روحي تترنح بين أنقاض المنفى، أبحث عن ظل كوردستان تحت جسر هابر في سيدني، حيث ضجيج السيارات حزن يهمس في الظلام.
وطن البلوط، مسقط رأسي، ينام في وادٍ بين سفين وسورك، حيث أشجار الجوز تهمس بالخلود، ورائحة الشاي المحمص كانت صلاة الأجداد. اليوم، قلبي يرتجف في غربة قاسية، جسدي مثقل بالسكري وضغط الدم، يجر نفسه كمكنسة أمي التي نكست أزقة الذكريات.
رأسي مصباح متصدع، يضيء ذكريات كالرصاص، وساقاي تتعثر تحت ندوب غير مرئية.
زنزانة صدام، تلك المرآة السريالية، حفرت في جسدي خريطة من كرستالات متوهجة، سياطها شوهت نقاء طفولتي، لكن نار نوروز أعادت النور إلى قلبي. أنا روح مشطورة كزجاج، كما قال هايدغر: “الوجود مُلقى به في العالم”[1].
ابن عربي يهمس: “الإنسان مرآة الكون، لكنها تكسرت في عينيه”[2].
في المنفى، صرتُ شبحًا يحمل نار كاوە، أحلم بشجرة رمان تنزف نجومًا، وخرير دەنکارە يروي ظمأ الروح.

في “مائة عام من العزلة”، كتب ماركيز: “كانوا يعيشون في عزلة لم يكن لها دواء، لأنها سبقت الوجود نفسه”[3]. هكذا أعيش، محاصرًا بصمت المنفى، قنبلة وجودية تنفجر في الظلام، حيث الزمن سكين يحفر الذاكرة حتى تنزف.

**الضياع: رقصة الظل في أنفاق الزمن**

تحت جسر هابر، أجر قدمي كطفل فقد حضن أمه، أنظف شوارع المنفى بجسد مثقل بالمرض، أبحث عن شجرة بلوط كوردستان.
الزمن سلسلة ترن في الظلمة، يحيل اللحظات رمادًا.
شوارع سيدني تذوب في سيريالية مرعبة:
كهف شاندر، عند سفح برادوست، ينبثق من الضباب، جدرانه المثلثة مرايا الأبدية، تحمل أنفاس النياندرتال الذين دفنوا موتاهم مع الزهور قبل سبعين ألف عام، كأنها أناشيد الحياة تحفر خريطة الروح[34].
أتخيل نفسي بينهم، أضع زهرة جبلية على قبر طفل نياندرتال، كأنني أودع شهداء الزيتونة.
السماء ستارة ممزقة تكشف فراغًا. نيتشه يصرخ: “إذا طال نظرك إلى الهاوية، تنظر إليك”[4].
أنظر، لكن لا أرى سوى تشظي نفسي.

بلبل رمادي الريش يغرد على شجرة ميتة، صوته وجع ينبض كقلب الأرض من دەنکارە يسأل:
لماذا يستمر الكون؟
عيناه قلوب متصدعة كالصخر تلومني، كأنني خذلت أطفال الشهداء. وجوههم تطفو في مياه ساقية زندور، أيديهم الشفافة تمتد من الضباب. شيركو بيكس يكتب:
“في المنفى، أنا شجرة بلا جذور، أغصاني تذوب في الحلم”[5].
محمود درويش يضيف: “أحمل وطني كجمرة تحرق يدي، لكنني لا أتركها”[6]. أحتضن البلوط في خيالي، لكنه ينهار رمادًا، كأنه يرفض عزلتي.

**أم مصطفى: صمت يعوي كذئب في ظل الأنفال**

في شيخوسان، قرب باليسان النائمة تحت سفين، عاشت أم مصطفى، عجوز فقدت بصرها في قصف كيماوي عام 1988. نيران صدام أحرقت قراها، وغازاته أذابت أطفال باليسان كشمع تحت سماء صفراء. في منزل ابنها مصطفى، كان بكاؤها ودعاؤها يملأ الليل، يخترق جدران غرفتي في شقلاوة، يطرق روحي المعذبة.
شاب يحمل ندوب السجن والتعذيب، أغرق في تخيلاتها:
أرواح بريئة، محترقة بالظلم، تطفو كظلال تنفجر في صمت المنفى.
السياط في زنزانة صدام شوهت نقاء طفولتي، جدرانها الرمادية كضحكة جلاد، سلاسلها جوقة عبثية، لكن صوتي: “نعم، أنا كوردي!” كان نار كاوە تتحدى الظلمة.

صمتها يحفر ندوبي، يعيدني إلى أنفاس المعذبين كصلاة لا تنتهي. كامو يقول:
“في قلب الظلم، يولد التمرد”[7].
لكن أم مصطفى لا تمرد، فقط تبكي، وأنا أشاركها الحزن عبر جدار الليل. ماركيز يكتب:
“الأحياء يحملون موتاهم في قلوبهم، لكنهم لا يعرفون كيف يودعونهم”[8]. أحمل وجعها، لكنني لا أجد عزاء لروحها أو روحي. أمراضي وغربتي—امتداد لتلك الزنزانة، لكن روحي، كنار إبراهيم، برد وسلام.

**استيقاظ الشهداء: طقوس العشاء الأخير**

كل ليلة، حين يغرق وادي شقلاوة في الظلام، تستيقظ أرواح مقبرة الزيتونة في شقلاوة[9].
ثلاثة وعشرون شهيدًا، بينهم أبناء “دايكة” حليمة الأربعة، ينهضون كظلال شفافة، أجسادهم تنزف ضوءًا باهتًا تحت سماء ممزقة.
يسيرون عبر بساتين الجوز والتوت المنسية لأم “روشن”، متجهين إلى مزار شيخ وسو رحمان، “ربان بيا” الكهف المقدس في سفوح سفين، ملاذ التقوى للمسيحيين والمسلمين عبر أزمنة مضت[10].
تحت الكهف، بئر محفور من الصخر ينفث ضباب الزمن، وفي قلبه شجرة جوز عتيقة، عمرها قرون، جذورها تنبض بحياة أرض الجبال.
أرواح الشهداء تلامس أغصانها، تضع زهورًا جبلية كما فعل النياندرتال في كهف شاندر، كأنها تودع أحلام الوطن الجريح.

في الكهف، يجتمعون حول مائدة ضبابية، في طقوس تشبه “العشاء الأخير”، وحدة روحية تجمع الأديان:
خبز من ذكريات، كأس من دموع. يتلوون صلوات زرادشتية، ينادون بالنور ضد الظلام[11]،
لكن أصواتهم تذوب في صمت وجودي.
ريبين، ريناس، وسروك، أبناء الشتات، يظهرون في الخيال ككرستالات متوهجة: ريبين نجمة زاغروس، ريناس أنفاس دەنکارە، سروك شمعة المستقبل.
ماركيز يكتب: “لم يكن أحد يتذكرهم، لأن الزمن ألقى عليهم غبار النسيان، لكنهم عاشوا في عالم سري لا يموت فيه الأموات”[12].
شهداء الزيتونة يحيون هذا العالم، لكن طقوسهم تذكير بالظلم.
الرومي يهمس:
“النور يدخل من الندبة”[13].
ندوبهم، محروقة بالرصاص، تتراقص كظلال في الكهف.

**زرادشت على سفين: لوحة النار المقدسة**

على قمة جبل سفين، حيث الريح تهمس بأناشيد الأجداد، يقف زرادشت في لوحة سريالية مرسومة بحبر الذاكرة.
تحت ظل “جووتە دار”، شجرتي بلوط متلاصقتين كتوأم مقدس، مرجع القبلة للصلاة[14]، يرتفع زرادشت كمنارة نور، عباءته البيضاء ترفرف كجناحي نسر جريح، عيناه ناران تتحديان درو الظلام.
حوله، ثلاثة وعشرون شهيدًا من مقبرة الزيتونة، يرتدون أثوابًا بيضاء متوهجة، أجسادهم شبه شفافة، ندوبهم ككرستالات تلمع بنور أهورا مازدا.
في وسط اللوحة، شجرة جوز عتيقة، جذورها تمتد كخريطة كوردستان، أغصانها تحتضن أرواح الأنفال.
زرادشت يوقد نارًا مقدسة، كتلك التي أشعلها كاوە الحداد ضد الظلم، ويرسم بها على قماش السماء: جبال زاغروس، مياه دەنکارە، ودماء نوروز. ينادي: “قاوموا الظلام، فالنور يولد من الألم!”[15].

الشهداء يرفعون أيديهم، كأنهم يصلون لأهورا مازدا، أصواتهم أناشيد كاويس آغا تتردد في الوادي.
حزن أم مصطفى ينسج خيوط اللوحة، كأن دموعها حبر ينحت خريطة الوطن.
نيتشه يهمس: “يجب أن تحمل فوضاك لتلد نجمًا راقصًا”[16].
لكن نجمي محترق، كأطفال باليسان.
زرادشت ينظر إلي: “أين شعلتك؟”
أرفع يدي، لكنها مثقلة بندوب السجن.
جسدي لوحة من كرستالات، كل ندبة قصيدة تنبض بهوية كوردستان، لكنني أهمس: “كوردستان ليست حلمًا، بل نار لا تنطفئ.”

**الشوق: أنشودة الروح في حضن الأجداد**

الشوق نار تحرقني، لا تحييني.
تحت جسر هابر، أتذكر شجرة بلوط كوردستان، أهمس: “أنتِ ملاذي”. حاجي قادر كويي يكتب:
“يا وطني، ندبة في دمي”[17].
غرفتي في سيدني تتحول وهمًا: جدرانها تنهار، تصبح سفوح سفين ومياه دەنکارە، حيث جدي جلس تحت شجرة رمان تنزف نجومًا، غليونه يرسم خريطة كوردستان.
الرومي يقول: “خارج الصواب والخطأ، حقلٌ سألقاك فيه”[18].
لكن لا حقل، فقط أطفال الشهداء، أصواتهم صمت يعوي كذئب يطالب بحكايتهم. و أبناء الشتات، يحملون أحلام آبائهم كمشاعل.
ماركيز يكتب: “الأموات لا يعودون، لكنهم لا يغادرون”[19].
أطفال الشهداء أشباح في قلبي، يغنون مع كاويس آغا لكوردستان الحرة.

لاو تسي يهمس: “الوجود في التخلي”[20].
لكن كيف أتخلى عن كوردستان، دەنکارە، أسبينداره، حزن أم مصطفى؟ أنا سائل من الحياة، أحمل عزلتي كصليب.

**اللغة: جسر الروح إلى الوطن**

الكوردية ملاذي. “دار بەڕوو” ندبة تنطق تعيدني إلى أرض الجبال، “شەو” صلاة الضائعين. شيركو بيكس يكتب:
“لغتي وطني، أحملها في عظامي”[21].
أنطق الكوردية تحت جسر هابر، لكن صوتي يذوب في الضجيج. أقول “سەفین”، فأرى بلبلًا يغرد، صوته وجع يخترق الصمت.
بختيار علي يكتب:
“اللغة جسر من خيال”[22].
لكن الجسر ينهار في المنفى.
عبدالله بةشيو يضيف: “كلامنا نار، تحرقنا قبل أن تضيء”[23].
حبري دمي، كلماتي أناشيد كاويس آغا، أكتب بالكوردية لأحيي كوردستان، لأن الكتابة مقاومة، كما قال درويش:
“على هذه الأرض ما يستحق الحياة”[24].

أكتب قصيدة على صخور الغربة:
> في المنفى، ظلٌ بلا جسد،
> أحتضن البلوط، لكنه ينزف،
> لغتي نار، تحرقني،
> كوردستان جرح يتنفس.

**راعية الغنم: أنشودة الحنين المفقود**

في بساتين حلبجة، كانت راعية الغنم تغني عند عين الماء. صوت القبج دعاء، مواعيد العاشقين زهور الجوز، وخرير الماء أسرار الحياة. لكن الصمت اليوم قنبلة وجودية.
أين راعية الغنم؟ أين القبج؟ أين خرير الماء؟ الزمن سرق الأغنية، حولها وجعًا ينبض كقلب الجبال. أكتب أغنيتها، صلاة لأرض الجبال المفقودة:
> راعية الغنم، صوتها ندبة،
> أين القبج عند عين الماء؟
> أين مواعيد العاشقين؟
> أين خرير الماء؟
> الصمت شبح، يذيب الحلم.

نيتشه يقول: “من فقدان ما نحب، نجد أنفسنا أو نضيع”[25]. أنا ضائع في صمتها، أبحث عن صوتها في ظلال أسبينداره، حيث شجرة الرمان تنزف نجومًا.

**الطقوس: تمرد الروح على العبث**

طقوسي درعي ضد العزلة. أعد الشاي في كوب زجاجي، أضيف التين المجفف من بساتين شقلاوة، أقرأ لبيرميرد: “الغربة حلم يلبس ثوب اليقظة”[26].
شمس التبريزي يقول:
“في كل نفس، ابحث عن الحق”[27].
لكن الشاي مر، والحق غائب.
أتتبع كوردستان:
نار نوروز، أناشيد الجبال، صوت كاويس آغا يغني للحرية.
سارتر يقول: “الإنسان محكوم أن يكون حرًا”[28].
لكن حريتي سجن، أكتب أرض الجبال في كل رشفة، أحفر سفين في قلبي. أسمع “ئەی رەقیب”، نشيدًا يوقظ نار كاوە، كأنني أزرع بذور نوروز في شوارع الشتات.

ماركيز يكتب: “العالم كان حديثًا لدرجة أن أشياء كثيرة افتقرت إلى أسماء”[29].
في المنفى، أسمي وجعي: كوردستان.

**الذاكرة: لوحات سيريالية في قلب المنفى**

الذاكرة لوحة سيريالية: أركض في بساتين كوردستان، لكن الأشجار تنزف. أتذكر مقبرة الزيتونة في شقلاوة، 23 شهيدًا، و”دايكة” حليمة التي فقدت أبناءها. جذور البلوط تمتد في قلبي، لكنها تنهار غبارًا.
ليلى قاسم تغني في خيالي، صوتها ألم يحترق كنار كاوە.
شيركو بيكس يكتب: “ليلى تغني في جبالنا”[30].
أتذكر النزوح، القصف، أمي تحملني بين أنقاض الذكريات، أبي يقرأ من كتب المكتبة العامة كأنها بوابة إلى عوالم الفلسفة.
زنزانة صدام تعود:
السياط حفرت خريطة كوردستان على جسدي، ندوبي كرستالات متوهجة، كل ندبة لحن نوروز.

زرادشت يقول: “اختر طريقك، فالنور والظلام فيك”[31].
أختار الذاكرة، فتختارني سجنًا.
كامو يكتب:
“نتصور سيزيف حزينًا، لكنه متمرد”[32].
أحمل ذكرياتي كصخرة سيزيف، أصعد بها جبل المنفى.

**الخاتمة: رقصة الروح في فضاء الميتافيزيقا**

في المنفى، أقف على حافة الوجود، شبحًا يحمل خريطة من كرستالات، كل ندبة نجم ينبض في سماء كوردستان.
الزمن ليس نهرًا، بل سلسلة ترن في الظلمة، تحبس الروح في مسرح عبثي. لكنني، كما علّمني هايدغر، أُلقي به في العالم، أختار أن أكون، أن أقاوم درو المنفى بنار أهورا مازدا.
كوردستان ليست أرضًا، بل فضاء ميتافيزيقي، حيث الذاكرة لوحة سريالية، واللغة نشيد نوروز، والندوب أناشيد كاوە.
نيتشه يهمس:
“من فوضى الألم، يولد نجم راقص”[33]. ل
كن نجمي ليس راقصًا، بل مشعل يضيء لأبناء الشتات الذين يحملون نار الوطن.
الرومي يختم: “ما تبحث عنه يبحث عنك”[34].
أبحث عن كوردستان، فتجدني في شظايا المنفى، في دماء الشهداء، في صوت ليلى قاسم، في ظل شجرة الرمان.
أنا لست المنفي، بل المنفى نفسه، مسرح وجودي ينحت فيه الألم هوية لا تموت.

> أنا المنفي، كوردستان قبري،
> أطفال الشهداء ظلالي،
> أم مصطفى حزني،
> زرادشت صوتي، يتلاشى،
> أنا التشظي، أنا الحرمان،
> لكنني أغني: “ئەی رەقیب ھەر ماوە قومی کورد زمان”.

“لم انتهي بعد
… فانا ولدت لكي اكتب …و اموت لكي اكتب ….وكتبت لكي لاموت”
حسين خوشناو

الهوامش:
[1] هايدغر، مارتن. الوجود والزمان، ترجمة فؤاد كامل، (بيروت: دار الكتاب الجديد، 1988)، ص 174. يشير مفهوم “الملقى به” إلى وجود الإنسان في العالم دون اختيار مسبق.
[2] ابن عربي، محيي الدين. فصوص الحكم، تحقيق أبو العلا عفيفي، (بيروت: دار الكتاب العربي، 1946)، ص 50. استعارة المرآة تُستخدم لتصوير الإنسان كانعكاس للكون.
[3] ماركيز، غابرييل غارسيا. مائة عام من العزلة، ترجمة صالح علماني، (بيروت: دار المدى، 2000)، ص 45.
[4] نيتشه، فريدريك. هكذا تكلم زرادشت، ترجمة علي مصباح، (بيروت: دار التنوير، 2005)، ص 89.
[5] بيكس، شيركو. ديوان شيركو بيكس، (أربيل: دار آراس، 2002)، ص 134. اقتباس معبر عن تجربة المنفى في شعره.
[6] درويش، محمود. في حضرة الغياب، (بيروت: دار الريس، 2006)، ص 23.
[7] كامو، ألبير. الإنسان المتمرد، ترجمة محمد سعد الدين، (دمشق: دار الحصاد، 1990)، ص 55.
[8] ماركيز، مائة عام من العزلة، ص 112.

[9] مقبرة الزيتونة: مقبرة في شقلاوة تضم رفات 23 شهيد تم اعدامهم من قبل نظام الدكتاتور صدام عام 1986 ،.
[10] مزار شيخ وسو رحمان (ربان بويا ووسو رحمان): كهف مقدس في جبل سفين، شقلاوة، يُحترم من المسيحيين والمسلمين. .
[11] أشا ودرو: مصطلحان زرادشتيان يعنيان “الحقيقة” و”الكذب/الظلم” على التوالي. انظر: بويسي، ماري. الزرادشتية: ديانة إيران القديمة، (لندن: دار روتليدج، 1989)، ص 19.
[12] ماركيز، مائة عام من العزلة، ص 201.
[13] الرومي، جلال الدين. المثنوي، ترجمة إبراهيم الدسوقي، (القاهرة: دار الحديث، 2003)، ج2، ص 45.
[14] جووتة دار: شجرتان بلوط متلاصقتان في أعلى جبل سفين، تُعتبران مقدسة ومرجعًا لاتجاه القبلة في شقلاوة.
[15] إشارة إلى تعاليم زرادشت التي تدعو إلى مقاومة الشر (درو) بالنور والحقيقة. انظر: بويسي، الزرادشتية، ص 25.
[16] نيتشه، هكذا تكلم زرادشت، ص 17.
[17] كويي، حاجي قادر. ديوان حاجي قادر كويي، (أربيل: دار سؤال، 1998)، ص 67.
[18] الرومي، المثنوي، ج1، ص 123.
[19] ماركيز، مائة عام من العزلة، ص 189.
[20] لاوتسي. تاو تي تشينغ، ترجمة محمد حبيب، (بيروت: دار العودة، 1995)، ص 34.
[21] بيكس، ديوان شيركو بيكس، ص 189.
[22] ، بختيار. آخر الرمان، (دمشق: دار ورد، 2006)، ص 45.
[23] ، عبد الله بةشيو. ديوان عبد الله بةشيو، (السليمانية: دار سردم، 1990)، ص 78.
[24] نيتشه، هكذا تكلم زرادشت، ص 112.
[25] بيرميرد، محمد. ديوان بيرميرد، (بغداد: مطبعة الشعب، 1970)، ص 45.
[26] التبريزي، شمس الدين. المقالات، تحقيق محمد علي موحد، (طهران: دار خوارزمي، 1990)، ص 67.
[27] سارتر، جان بول. الوجودية مذهب إنساني، ترجمة عبد المنعم الحفني، (بيروت: دار الآداب، 1967)، ص 23.
[28] ماركيز، مائة عام من العزلة، ص 11.
[29] بيكس، ديوان شيركو بيكس، ص 201.
[30] إشارة إلى تعاليم زرادشت حول الاختيار بين النور والظلام. انظر: بويسي، الزرادشتية، ص 30.
[31] كامو، ألبير. أسطورة سيزيف، ترجمة علي مقلد، (بيروت: دار التنوير، 1980)، ص 89.

[32] بختيار علي ، آخر الرمان، ص 78.
[33] الرومي، المثنوي، ج3، ص 56
————————————————
النص الثالث
جذور الذاكرة: اليمامة وشجرة التوت


جغرافية الوجود الضائع:

شقلاوة لم تكن مكانًا، بل كانت جرحًا دائريًا في جسد الزمن.
كل شارع فيها يشبه شريانًا ممتدًا من طفولتي، وكل حجرٍ في أزقتها القديمة يحمل بصمةً من بصمات العدم.
كنتُ أسير بين بيوتها المتداعية كشبحٍ يبحث عن جسده، بينما كانت أشجار الجوز العتيقة تمتد كأذرعٍ نحو السماء، وكأنها تحاول لمس كينونة مفقودة.
كل وجه يمر هو شبحٌ من شواخص الطفولة، وكل نسمة هواء تحمل همسًا من ذاكرة غائبة. هنا، حيث يذوب الواقع في ضباب الحنين، يصبح الماضي كائنًا حيًا يسكن الحاضر مثل ظلٍ طويل.
الشتاء في شقلاوة كان كائنًا حيًا ينزف ضبابًا أبيض.
أتذكر كيف كان البرد يخترق جسدي النحيل وأنا في طريقي إلى المدرسة، كأنه سكينٌ جليدي يُذيب حدود الجسد والروح.
القميص الأبيض الملطخ بالطين كان أشبه بعلم استسلام لمعركةٍ خسرتها قبل أن أبدأها.
كنتُ أمشي، شفتاي تتراقصان من البرد، أحمل كتبًا ممزقة كأجنحةٍ مبللة، وأتساءل في سري: هل أنا موجود حقًا، أم أنني مجرد ظلٍ مرسوم على جدار الزمن؟
شقلاوة لم تكن مجرد مدينة، بل كانت فضاءً ميتافيزيقيًا حيث الوجود نفسه يتشظى، وكل خطوة هي حوار مع العدم.
في تلك الأيام، كنتُ أعتقد أن الطفولة هي المكان الوحيد الذي لا يموت. كنتُ أسير بين أشجار الرمان، أضع يدي على جذوعها المتشققة، فأسمعها تهمس بأسماء كل الذين مرّوا هنا قبل أن يصيروا ترابًا.
حتى العصفور الذي دفنته ذات ظهيرة—جسده الصغير ينبض بأسئلةٍ لا جواب لها:
أين تذهب الأرواح عندما تفقد براءتها؟
كنتُ أحفر له قبرًا بإصبعي، أغطيه بأوراق الخريف، وأقول في سري: “لو عرفت أنني سأكبر، لما دفنتك.” كنتُ أدفن جزءًا مني لم أعد أعرف كيف أحمله، وكأن الطفولة جنازةٌ لا تنتهي.

الحفلة الجماهيرية: تيه الفرح…

في ربيع السبعينيات، حين كنتُ طفلًا لا يتجاوز الثامنة، تحولت “بەستۆرە”” إلى لوحة حية تنبض بألوان كوردستان. تحت سفوح جبل سفين “سري بلند”، امتدت آلاف العوائل كسجادة منسوجة من الأحلام، تفترش الأرض احتفالًا بذكرى اتفاقية 11 آذار.
كانت التلال تنحدر كأنها تحتضن الربيع، والهواء مشبع بعبق العشب الندي، ممزوجًا برائحة الكباب المشوي والخبز الطازج.
أصوات الزغاريد ترتفع كأصداء من الجبال، تتشابك مع أنغام الدبكات الكوردية، كأن الأرض نفسها ترقص.
الملابس الزاهية، كقوس قزح، تتماوج مع الريح: الأحمر الناري يحاكي نار نوروز، والأصفر الذهبي يعكس شمس كوردستان، والأخضر يهمس بأسرار الغابات.
في قلب الحفل، ارتفعت خيمة عظيمة كمعبد للموسيقى، يتردد فيها صدى أعظم أصوات تلك الحقبة.
“شمال صائب”، بصوته الذي يوقظ الجبال، كان يغني “ئەرێ لەیلى”، ويردد “فواد أحمد وتحسين طە” معه: “هاوار لەيلى!” كأن الأغنية نداء من قلب كوردستان.
المكبرات نادت قلبي الصغير، فأركض باتجاه الخيمة، أترك عائلتي خلفي، غارقًا في لوحة مارك شاغال حيث الأحلام تطير دون أجنحة.
نزلتُ إلى الوادي، حيث الحشود ترقص، والألوان تتشابك كأنها لوحة لا نهائية.
لكن وسط الزحام، ضعت… !
آلاف العوائل، وأنا لا أعرف أين تجلس أمي، “دايك”، أو أين يقف أبي.
حاولتُ العودة، لكن الدبكات ابتلعتني، والأغاني أغرقتني.
كنتُ طفلًا تائهًا، لكن قلبي كان يرقص.
لم أخف، فكيف أخاف وكوردستان تحتضنني؟
أمسك بي أناس طيبون، رفعوني إلى المنصة حيث كان “شمال صائب وفواد أحمد وتحسين طە” يغنون كأن أصواتهم نار زرادشت.
أعلنوا: “هذا الطفل ضائع!” تخيلتُ نفسي أمسك المكبر بيدين مرتجفتين، لكنني لم أفعل.
قلت في قلبي: “أنا طفل ضائع، لكني فرح لأني بينكم!”
أصبحت روحي جزءًا من نوروز وكوردستان، كما قال محمود درويش: “الحياة هناك، حيث نغني معًا.”
الجموع هتفت، والزغاريد ارتفعت كأجنحة تحملني إلى السماء.
رجل عجوز بلحيته البيضاء رفع عصاه وقال: “هذا ابن كوردستان!” امرأة بثوب أحمر ألقت وردة، وأطفال ركضوا نحو الخيمة يلوحون.
شعرتُ أنني جزء من نسيج هذا الشعب، كحبة توت في بستان شقلاوة.
اليوم، وأنا في سيدني، أتخيل أبنائي—ريبين، ريناس، سروك—يرقصون دبكات “بەستۆرە”، يحملون إرث الفرح.
تلك الزغاريد كانت نشيدًا ينسج نفسه مع “ئەمرۆژی ساڵی تازەی نەورۆزە هاتەوە”، كأن الجميع يغني لنوروز، للحياة، لكوردستان.
سمعتُ صوت عائلتي ينادي، أصواتهم تتردد بين الزغاريد، كجزء من نشيد “حسن زيرەك”.
تخيلتُ النداء كطير قبج يحلق فوق جبل سري بلند.
أمي اندفعت نحوي، عيناها تلمعان بالدموع والفرح، تهمس: “كوردستان لن تتركك تتوه!” جدتي”دایکە حبيبة” قالت: “مثل كاوە الحداد، رقصتَ مع النار!” تلك اللحظة كانت لوحة لبيكاسو قبل “غيرنيكا”، حيث الألوان نابضة بالحياة.

طقوس نوروز: نار الحياة..

في نوروز، كانت النار تتراقص على تلال شقلاوة، وكأن زرادشت يبارك الربيع. كما كتب نيتشه: “عليك أن تصبح رماداً قبل أن تتجدد.” اليمامة تحلق فوق البستان، وأنا أركض بين الألوان، أظن العالم كله هذه اللحظة.
جدتي حكت عن كاوە الحداد، بطل لم أفهم قصته بعد. صوت “ئەی رەقيب” هز قلبي الصغير، كأن الجبال تغني معنا. نوروز كان احتفالًا بالحياة، لكن في سيدني، المرض يذكّرني أن الحياة مؤقتة.
كما قال كامو: “في مواجهة العبث، التمرد هو خلق المعنى.”
نوروز بالنسبة للكورد هو نشيد المقاومة، رمز الانتصار على الظلم. كنتُ أقف مع عائلتي على تلة مشرفة، النيران تشتعل كقلوبنا، والدبكات تدق الأرض كأنها تستدعي أرواح أجدادنا.
رائحة الدخان تمتزج بعبق العشب، وأصوات الزورنا والدهول تتردد كأصداء من زمن كاوە.
كنا نرتدي ملابسنا التقليدية—أمي بثوبها الأخضر المطرز، وأبي بجبته الكوردية”شەدەی سۆر”—ونرقص في حلقات لا نهائية، كأننا نرسم حدود كوردستان بأقدامنا.
ذات شتاء، حين سقطت أول ثلجة على شقلاوة، تجمعت العائلات في بيوتها الطينية، تشعل النيران في المدافئ، وتتبادل قصص الأجداد.
كانت جدتي”دايكه حبيبة”: تحكي عن كيف كان الأطفال يركضون تحت الثلج، يصنعون رجال ثلج بأعين من حبات البلوط، وكأنهم يخلقون حراسًا للوطن.
كنا نأكل خبز التنور مع العسل، والنار ترقص في المدفأة، كأنها تحكي قصة نوروز بصمت.
تلك الطقوس كانت صلاة، وعدًا بأن الربيع سيأتي، مهما طال الشتاء.
جدتي قالت: “نوروز هو يوم قتل كاوە التنين.
نارنا لتذكيرنا بأننا شعب لا يُكسر.” أشارت إلى النار: “النار تحترق مثل قلبك.” شعرتُ بالفخر يملأ صدري، كأنني أحمل إرث كاوە.
كنا نغني مع الحشود، وأصواتنا تتعالى مع “ئەی رەقيب”، والكبار يرددون أبياتًا مستوحاة من الشعر الكوردي:

نوروز، يا يوم النصر والأمل
فيكِ كوردستان تُبعث من جديد
ناركِ تحرق الظلم،
يا عيدنا الأبدي يا رمز الحرية،
يا درب الشهيد …

هذه الأبيات كانت صلاة، وعدًا بالحرية.
كنتُ أرى في عيون أبي حلمًا لم يكتمل، لكنه زرعه فينا.
نوروز كان تحديًا لكل من حاول إخماد روحنا.
الزغاريد تصعد كأرواح الأبطال، والأطفال يركضون حاملين أعلام كوردستان.

بائعو التوت والنرجس: لوحة البراءة….!

في صيف الثمانينيات، كانت شقلاوة تتحول إلى لوحة حية من الألوان والحركة، ملاذًا ربيعيًا للسياح الهاربين من لهيب المدن العراقية وحرارة الخليج.
كنا نسميهم “المصطافين”، أولئك الذين يأتون إلى شقلاوة ليتنفسوا هواءها النقي، ويغسلوا أرواحهم بمياهها العذبة المتدفقة من نبع دەنكارە، ويستمتعوا بجمالها الذي يحاكي جنة زرادشت.
كانت الطرقات تعج بالحياة: أصوات بائعي الكباب، ضحكات العائلات، وخرير الماء في الجداول الصغيرة التي تنحدر من الجبال. كنتُ أنا وأختي،”ژیان” في التاسعة من عمري، جزءًا من هذه اللوحة، بائعي توت أسود نجنيه من بستان أبي، نحمل سلالنا الصغيرة ونركض بين الزوار، ننادي بأصواتنا الطفولية: “توت! توت أسود من شقلاوة!”
كنا نقف على جانب الطريق الرئيسي المؤدي إلى شلال گەلی عەلی بەگ امام مطعم ” كاويس اغا”، حيث تتوقف سيارات المصطافين لالتقاط الصور أو شراء الهدايا.
رائحة التوت الأسود كانت تملأ الهواء، ممزوجة بعبق النعناع البري الذي ينمو على ضفاف الجداول. كانت أختي ترتدي ثوبًا أحمر مزخرفًا بزخارف كوردية، وأنا بقميص بسيط ملطخ بعصير التوت.
كنا نضحك ونتبادل النظرات المرحة ونحن نرتب الحبات في السلال، كأننا نرسم لوحة لماتيس بألوان الأرض.
كانت الشمس تداعب وجوهنا، والنسيم يحمل أصوات السياح وهم يتحدثون عن جمال شقلاوة: “هذا هواء لا يُشترى!” يقول أحدهم، بينما يشتري سلة توت من يدي الصغيرة.
لكننا لم نكن وحدنا.
على امتداد الطريق، كانت مجموعات من الأطفال، مثل الفراشات الملونة، يبيعون الفواکە و النرجس الجبلي الذي يجمعونه من البساتین و سفوح الجبال.
كانت الفتيات الصغيرات، بثيابهن الزاهية، يحملن باقات النرجس الأبيض الممزوج بالأصفر، يركضن نحو السيارات ويقلن بأصواتهن الناعمة: “نرجس! نرجس من جبال كوردستان!
” كانت ابتساماتهن كالشمس الصغيرة، تضيء وجوه المصطافين الذين يأتون من بغداد أو الخليج بحثًا عن لحظات سلام.
اتذكر إحداهن، فتاة “نيشتمان” لا تتجاوز السابعة، تقف على حجر بجانب الطريق، تمد باقة نرجس إلى سيدة في سيارة فاخرة، وتقول: “خذي زهرة، ستجعلكِ تبتسمين!” ضحكت السيدة وأعطتها قطعة نقود، لكن الفتاة أضافت زهرة أخرى كهدية، كأنها تقول: الفرح لا يُباع.

كنا، أنا وأختي “ژیان”وبائعات النرجس، جزء من سيمفونية شقلاوة الصيفية.
كنا نتبادل النكات، نغني أغنيات طفولية، ونركض بين الأشجار لنجمع المزيد من التوت .
كانت أختي تغني أغنية كوردية قديمة، صوتها يتردد بين الجداول: “شقلاوة، يا قلب الربيع، يا أرض الأحلام!” وكنتُ أقلدها، أحاول الغناء بصوتي الأجش، فتضحك وترميني بحبة توت. كنا نعيش اللحظة، غارقين في البراءة، كأن العالم كله هو هذا السوق الصغير، هذه السلال، هذه الابتسامات.
لكن وراء تلك الضحكات، كان هناك ظل خفي.
كنا أطفالًا فقراء، نبيع التوت والنرجس لنساعد عائلاتنا في زمن كان الظلم فيه يخيم على كوردستان. في الثمانينيات، كانت الحياة صعبة؛ الحروب والقمع كانا يلقيان بظلالهما على قرى و مدن مثل شقلاوة، حتى وهي تحتضن السياح.
كنتُ أرى في عيون أختي، وهي تعد النقود في نهاية اليوم، مزيجًا من الفخر والتعب.
كنا نعلم أن هذه النقود ستشتري الخبز أو الدواء لأمي، لكننا لم نترك الفقر يسرق فرحنا.
كانت بائعات النرجس، مثل الفراشات، يواجهن الحرمان بابتساماتهن.
كنتُ أرى إحداهن تعطي زهرة مجانًا لطفل صغير مع أمه، كأنها تقول: “الفقر لا يملك قلبي.
” تلك البراءة، تلك الضحكات، كانت تمردًا صامتًا ضد الظلم، كأننا، بسلالنا وباقاتنا، نعلن أن كوردستان، حتى في أحلك أيامها، لا تزال تغني.

ذات ظهيرة مشمسة، بينما كنتُ أنا وأختي نركض بين السيارات على الشارع العام في منطقة “كريكور” حاملين سلال التوت كأجنحة فراشات، اندفعت سيارة “فوكس” كريح غاضبة من الوادي.
لم أرَ سوى وميض معدني، ثم طار جسدي النحيف كيمامة في سماء شقلاوة، لتصطدم رأسي برصيف الشارع العام أمام “مطعم كاويس”. امتزج دمي بدم التوت الأسود، كأن الأرض نفسها تنزف معي.
سلالنا تكسرت، والتوت تناثر كنجوم محطمة على الأسفلت. السائق، ظلٌ جبان، هرب تاركًا طفلًا ملقى وسط الطريق. أمام المطعم ، حيث أنغام كاويس آغا القومية كانت تتردد في ذاكرة الرواد، توقف العالم للحظة: صوت النرجس يهمس، والجداول تسكت.
أيدٍ طيبة هرعت إلينا، امرأة بثوب أخضر تهمس: “هل أنتم بخير، يا أبناء كوردستان!” استيقظتُ في المستشفى، رأسي ينبض كإيقاع طبل نوروز، وأبي المسكين وأمي وإخوتي بجانبي، أعينهم تلمع بالصمود. نهضنا، نلملم ملابسي الملطخة بالدم والتوت المتناثرة كأننا نلملم كرامتنا، وعدنا إلى البيت، كأن الأرض تقول: “كوردستان لا تسقط.
” تلك الصدمة، مثل ضربة فرشاة على لوحة طفولتنا، تركت ندبة في روحي، لكنها لم تسرق ضحكاتنا.
بعد أيام، عدت أبيع التوت مع أختي، رأسي ملفوف بشاش طبي أبيض كأنني ألبس تاج كاوە، وأود أن أقول للعالم: أنا حفيد كاوە الحداد، هذا الجرح لن يوقفني، حتى وإن اختلط لون دمي مع دم التوت الأسود وتراب شقلاوة ليصبحا عجين الروح لما تبقى من العمر.
كما قال غاستون باشلار: “الطفولة هي أرض المطلق”، وفي تلك الأيام، كانت شقلاوة أرضنا المطلقة.
كنتُ أرى في كل حبة توت، في كل زهرة نرجس، قطعة من كوردستان. كنا، أنا وأختي والأطفال الآخرون، كأننا نرسم لوحة لكلي: ألوان زاهية تخفي خلفها قصصًا عن الحرمان، لكنها لا تفقد بريقها.
كنتُ أتخيل أننا مثل طير قبج، نحلق فوق الجبال بجناحين من الفرح، نضحك رغم القفص الذي حاول الزمن أن يحبسنا فيه.
في إحدى اللحظات، جاءت سيدة من بغداد، اشترت سلة توت ونظرت إليّ وقالت: “ابتسامتك أحلى من التوت!” ضحكتُ وأعطيتها سلة إضافية، كأنني أقول: هذا هو كرم كوردستان.

جبل سفين وكهف ربان بويا” شيخ وسو رحمان”: الحج إلى قلب الوجود⁄..

قررت عائلتي أن نذهب في رحلة إلى جبل سفين، الجبل الشامخ الذي يقف كحارس لتاريخ كوردستان.
كنتُ صبيا انذاك، وكانت تلك الرحلة بمثابة طقس مرور بالنسبة لي. جبل سفين، بقممه التي تخترق الغيوم، كان يبدو لي كأنه لوحة لفان غوغ، حيث تتداخل الألوان الخضراء والرمادية في تناغم ساحر.
كنا نسير عبر الوديان الضيقة، حيث أشجار البلوط والزيتون على مقربة من مقبرة “دير حنا” ترمي بظلالها على المسارات الترابية.
رائحة الأعشاب البرية، مثل الزعتر الكوردي والبابونج، كانت تملأ الهواء، ممزوجة بعبق التراب الذي بللته أمطار الربيع.
كانت الجداول الصغيرة تتدفق من الجبل، تغني أناشيد خافتة تذكرني بجدول دەنكارە في بستاننا.
كان هدفنا ليس مجرد الوصول إلى كهف “شيخ وسو رحمان”، المعروف بـ”ربان بويا”، بل الحج إلى قلب جبل سفين، حيث الأرواح تصلي والأحلام تتجدد. جدتي “حبيبة”، بصوتها الذي يحمل حكمة الأجداد، قالت لي قبل الرحلة: “ربان بويا” ليس كهفًا، يا ولدي، بل رحم الأرض، حيث تتجمع أسرار شعبنا وتنبض بالحياة.”
وهي تمسك يدي الطفولية، شعرتُ أن خطواتنا ليست مجرد سير عبر الوديان، بل عبور إلى فضاء ميتافيزيقي يربطنا بجذور كوردستان.
كما قال جلال الدين الرومي: “خارج حدود الصواب والخطأ، هناك حقل، سألقاك هناك.”
كان “ربان بويا” شيخ وسو رحمان “ذلك الحقل، ملتقى الروح والأرض.

بينما كنا ننحدر الوادي، مررنا بمقبرة مسيحية كبيرة، قبورها الحجرية مغطاة بالطحالب، تقف كشاهدة صامتة على أزمنة غابرة. في قلبها، كان “دير حنا” القديم، جدرانه الرمادية متآكلة لكنها متمسكة بالحياة كإرادة كوردستان. حوله، انتشرت أشجار زيتون معمرة، أغصانها الملتوية كأيدٍ تصلي، أوراقها الفضية تهمس بحكايات قرون مضت. تلك الأشجار، التي شهدت صعود وسقوط إمبراطوريات، كانت تذكرني بكلمات ألبير كامو: “في مواجهة العبث، التمرد هو خلق المعنى.” المقبرة ودير حنا كانا تمردًا ضد النسيان، تذكيرًا بأن كوردستان أرض تعايش، حيث المسيحي والمسلم، الكوردي والآخر، يتقاسمون التراب والذاكرة.

واصلنا السير، وكانت الطبيعة تتحدث بلغة الصمت.
أشجار البلوط والجوز ترمي ظلالها كأنها أحضان الزمن، والجداول الصغيرة تغني أناشيد خافتة، كأنها تهمس بأسرار زرادشت.
رائحة الزعتر الكوردي والبابونج تملأ الهواء، كأن الأرض تقدم نفسها قربانًا للحجاج.
لكن الرحلة لم تكن جسدية فقط؛ كانت بحثًا عن المعنى في عالم يبدو عبثيًا أحيانًا.
كنتُ أشعر، وأنا أسير مع عائلتي، أننا نتمرد على الزمن، على النسيان، على المنفى الذي سيأتي لاحقًا.
عندما اقتربنا من مدخل الكهف، رأيتُ حمامات جبلية بنت أعشاشها في ثغرات الجبل، كأنها حراس صغار للمزار المقدس.
زقزقتها الخافتة كانت كأناشيد ترحيب، كأنها تحمل أرواح الأجداد التي تحلق بحرية في سماء كوردستان.
تلك الحمامات، التي اختارت الصخر ملاذًا، كانت تذكرني بطير قبج—رمز التضحية والحرية—كأنها تقول: حتى في شقوق الجبل، الحياة تتشبث بالأمل. شعرتُ برهبة وجودية، كأنني أقف على عتبة الوجود نفسه.
كان المدخل ضيقًا، محاطًا بصخور رمادية لامعة، كأن الجبل يفتح ذراعيه بحذر، يدعونا إلى أعماقه لكن يحذرنا من أسراره.

في مدخل الكهف المحفور بالصخر، المكون من حجرتين، كان البئر القديم يقبع كشاهد على العصور، ونمت شجرة جوز عجوز، جذورها تتشابك مع الصخر كأنها تمسك بقلب الأرض.
تلك الشجرة، التي تحدت الزمن، كانت رمزًا للصمود الكوردي—جذور تمتد إلى الأبد، حتى في الظلمة. كما قال جان بول سارتر: “الحرية ليست في ما نفعل، بل في ما نختار أن نكون.” شجرة الجوز اختارت أن تكون شاهدة على أحلام شعبنا.
في الحجرة الأولى، كانت الجدران مبللة بقطرات الماء، تعكس ضوء الشموع التي أشعلها الزائرون كأنها كوكبة نجوم في سماء تحت الأرض.
رائحة الرطوبة والبخور تملأ الفضاء، وصوت الماء المتساقط من السقف كان كدقات قلب الأرض.
لكن ما أثار دهشتي كان الأحجار الصغيرة، أجزاء دقيقة ملتصقة ببعضها أو بجدار الكهف، كأنها تحمل روح المزار.
قالت جدتي “دايكه حبيبة”: “هذه الأحجار إشارات روحية.
إذا أردتَ أمنية، ادعُ شيخ “وسو رحمان، ربان بويا”، وحاول أن تلصق حجرًا بالجدار.
إن التصق، ستتحقق أمنيتك.
” بنظرة مليئة بالإيمان، طلبت مني أن أجرب.
بيدين مرتجفتين، حملتُ حجرًا صغيرًا، همستُ بأمنية لم أعرف كيف أنطقها، وضغطتُ الحجر على الجدار. لدهشتي، التصق! ..
حاول أفراد عائلتي بعدها، لكن أحجارهم كانت تسقط الا نادرا تلتصق، بينما كانت أحجاري، في كل مرة، تلتصق كأن الجبل نفسه يسمعني.

شعرتُ أنني مختار بطريقة غامضة، كأن الكهف يهمس لي بسر الحياة.
كما كتب غاستون باشلار: “الفضاءات التي نحبها تصبح جزءًا من كينونتنا.”
تلك الأحجار لم تكن مجرد صخور، بل كانت جسورًا بين قلبي الصغير وأبدية كوردستان.
وقفنا في وسط الكهف، حيث وضع جدتي شمعة بجانب الأخريات، وقال بصوت يحمل ثقل التاريخ: “هنا نصلي من أجل كوردستان، من أجل أبنائنا.
” كنتُ أنظر إلى الشموع، أتخيل أن كل واحدة تحمل حلمًا لكوردي—غادر أو بقي—كأنها أرواح ترفض النسيان.
كل شعلة كانت وعدًا بالحرية، كطير قبج يضحي ليحرر رفاقه من القفص. جدتي “دايكة حبيبة” أمسكت يدي، عيناها تلمعان كالشموع، وقالت: “هذا الكهف مثل طير قبج، يحمي أحلامنا حتى لو كنا في قفص الظالم.
” ثم بدأت ترتل أغنية قديمة، كأنها تتحدث إلى الجبل نفسه، صوتها يتردد بين الجدران كصلاة ميتافيزيقية:

يا سفين، يا حارس الأحلام
احفظ كوردستان من الظلام
في كهفك، نجد السلام
ونار نوروز تحمي الأيام

كانت الأغنية طقسًا يربطنا بالأجداد، بالأرض، بالحرية. شعرتُ أن الكهف يتنفس معنا، وأن الشموع ترقص مع صوت جدتي، بينما أصداء زقزقة الحمامات الجبلية تتسلل من الخارج، كأنها تنضم إلى الصلاة.
كان المكان معبدًا زرادشتيًا، حيث النار والماء والصخر يتحدثون لغة الوجود. ربان بويا، المحفور بالصخر، لا يزال مزارًا يستقبل الزائرين حتى اليوم، يحمل أحلامهم وأمنياتهم كما حمل أمنياتي يومها.
في تلك اللحظة، أدركتُ أن الحج إلى الكهف لم يكن للوصول إلى مكان، بل للعثور على أنفسنا—ككورد، كأحفاد كاوە الحداد، كحاملي نار نوروز.

في سيدني اليوم، حين أغمض عيني، أرى ظلال جبل سفين وأسمع صوت الماء في كهف ربان بويا.
أتذكر يد جدتي الخشنة، وشمعتها، وأغنيتها التي كانت كصلاة. أرى أبنائي—ريبين، ريناس، سروك—كأنهم يركضون في تلك الوديان، يحملون أحلام كوردستان في عيونهم.
كوردستان بالنسبة لي ليست أرضًا فقط، بل قلب ينبض في كل كوردي.
تلك الرحلة إلى جبل سفين لم تكن مجرد زيارة، بل كانت وعدًا بأن أحمل كوردستان معي، مهما ابتعدت.

عالم السحر: لوحة الذكريات:

عالمي الصغير كان مكتظًا بالسحر: الكوخ العتيق بشباكه الأزرق الباهت، وظل شجرة الجوز العملاقة التي تخيلتها ساحرة، وعين الماء الهادئة بجوار الجدول. في تلك الأيام، كنتُ أرى بستاننا كأنه لوحة “جنة العريف” لماتيس، حيث تتشابك الألوان الخضراء والحمراء في تناغم يخفي وراءه عالمًا من الأسرار. وكما كتب بول كلي: “الفن لا يكرر المرئي، بل يجعل الأشياء مرئية.
” كانت شجرة الرمان الحمراء تقف كضربة فرشاة جريئة في تلك اللوحة.
كنتُ أتخيل أن بستاننا مرآة لكوردستان بأسرها.
كل صباح، كنتُ أركض إلى عين الماء، حيث الفراشات الملونة ترقص فوق السطح المتلألئ.
كنتُ أعتقد أن الماء يحمل أسرار الجبال، وأن الفراشات هي أرواح الأبطال تحلق بحرية.
ذات مرة، رأيتُ اليمامة تهبط على شجرة الجوز، تزقزق بصوت يشبه أناشيد نوروز.
تخيلتُ أنها جاءت لتحكي لي عن كاوە، عن المقاومة، عن الحرية. كنتُ أجلس تحت الشجرة، أحلم بأن أكون كاتبًا يروي قصص شعبي، كما كان أبي يحلم بالكتب. كنتُ أرى في كل زهرة، في كل حجر، قصة تنتظر أن تُكتب.
كنتُ أعتقد أن جذور شجرة التوت تمتد إلى كل بقاع الأرض، وأن أوراقها هي سقف العالم.
وكما كتب جان بول سارتر: “الطفولة هي اللحظة الوحيدة التي نعيش فيها دون أن نحتاج إلى معنى.”
اليمامة كانت تسمع أحلامي عن أن أصبح كاتبًا، فترد بزقزقة تقول: “ستكبر وتنسى.”
لكنني لم أنس.
كان والدي، الموظف البسيط في المكتبة العامة، يحب الكتب رغم أنه لم يكن يستطيع القراءة بشكل جيد.
كنت أرى شغفه بالكتب كقصص لم تُروَ بعد، فأردت أن أكون صوت تلك القصص.

ظلال الخوف: بداية الكسر:…

لكن ظلالًا قاتمة زحفت نحو بستاننا الآمن.
وكما يذكر ألبير كامو في “الطاعون”: “الخوف من المجهول هو أكثر أنواع الخوف إيلامًا.”
ذات مساء، بينما كنتُ أجمع حبات التوت، رأيتُ دموع أمي تسقط على السلة كقطرات دهان زائدة على لوحة لم تكتمل.
الان تذكرتُ لوحة “الصرخة” لإدفارد مونش، حيث الوجوه تذوب في صمت مرعب والسماء تنزف ألوان القلق.
سمعتُ همسات الكبار عن “الملاحقات ضد الثوار”، وشعرتُ بأن بستاننا صار أشبه بتلك اللوحة: ألوانه مشوهة، وأشجاره التي كانت تغني صارت تصرخ صرخات صامتة.
كنتُ أسمع صوت الريح في الليل، كأنها تحمل أخبارًا من جبال زاغروس.
كنتُ أتخيل أن الأشجار تهمس لبعضها عن أيام قادمة، عن ظلال قد تطفئ نار نوروز.
لكن حتى في تلك اللحظات، كنتُ أجد ملاذًا في ذكرى كلمات جدتي: “كوردستان لا تموت، لأنها نار في قلوبنا.”
كنتُ أحمل هذه الكلمات كتعويذة، أتمسك بها وأنا أرى الخوف في عيون أمي.
اليوم، في سيدني، حياتي تشبه تلك اللوحة: جسدي مشظى بالمرض، وروحي ممزقة بالغربة. لكن الذاكرة، كضربة فرشاة جريئة، تعيد رسم شقلاوة، حيث اليمامة لا تزال تحلق.

ليلة النضج: أسئلة الفجر:…

كبرتُ فجأة في تلك الليلة.
بقيتُ مستيقظًا حتى الفجر، أتساءل: هل ستعود اليمامة؟
هل سنلعب حول عين الماء كما كنا؟
وكما كتب فان غوغ في رسائله: “هناك شيء من اللانهاية في لون السماء الزرقاء.”
نظرتُ من نافذة الكوخ إلى النجوم، وحاولتُ أن أرسمها في مخيلتي كاللوحات التي رآها أبي في كتب الفن، لكنها ظهرت كبقع داكنة، كتلك التي في لوحات فرانسيس بيكون، حيث الوجوه تُمسخ والأجساد تذوب.

صوت الأمل: راديو صوت كوردستان:…
الآن، وأنا أكبر من أبي حين رحل، ما زلتُ أسمع صرير الراديو القديم في منتصف الليل.
كان يضبطه على موجة “صوت كوردستان” ويصغي بجوارحه كأن الأمل يتنفس بين التشويش.
وكما كتب إرنست بلوخ: “الأمل ليس مجرد توقع، بل هو فعل مقاومة ضد الظلام.”
عيناه تتوهجان كجمرتين في الظلام.
في سيدني، أعيش على حافة الوجود، بين شقلاوة وسيدني، بين الحياة والموت.
الغربة هي حالة ليمينالية، فضاء بيني حيث الروح تتوق إلى الوطن لكن الجسد يقيدها.
كما قال الرومي: “أنا لست من الشرق ولا من الغرب، بل طائر من عالم آخر.”
اليمامة في ذاكرتي هي ذلك الطائر، تحلق فوق شجرة الذاكرة، بينما المرض يربطني إلى هذا العالم، يذكرني بأنني غريب حتى عن نفسي.

خاتمة: معجزة الذاكرة:….

اليوم، كلّما سمعتُ زقزقة يمامة أو أنغام “ئەرێ لەيلى”، أعودُ طفلًا تحت شجرة التوت، أو تائهًا في بستورة.
لكنّي أعرف أنّ بعض الطفولة لا تعود، وأنّ بعض الأشجار تموت وهي واقفة، تاركةً جذورها تعوي في التراب.
وكما كتب مارك روتكو: “اللوحة يجب أن تكون معجزة.”
لكن معجزتي الوحيدة الآن هي أن أتذكر ذلك البستان وتلك الحفلة دون أن أنكسر.

في سيدني، حيث الغربة تحاول أن تسرقني من نفسي، أجد كوردستان في ذاكرتي.
أرى شجرة التوت، أسمع زغاريد “بەستۆرە، أشم رائحة نار نوروز، وأتذكر ظلال جبل سفين.
أرى أبنائي—ريبين، ريناس، سروك—كأنهم يحملون تلك الذكريات، يزرعونها في أرض جديدة.
كوردستان بالنسبة لي ليست مجرد وطن، بل هي النار التي تحترق في قلبي، الشعر الذي كتبه بيرميرد، والتضحية التي يرمز إليها اليمامة.

أغمض عينيّ وأرى اليمامة وكأنها طائرٌ من لوحة “حديقة المباهج الأرضية” لـهيرونيموس بوش، حيث تختلط الفرحة بالرعب، والحلم بالكابوس.
لكن في تلك اللوحة، أجد نفسي، طفلًا تائهًا لكنه حر، كورديًا يحمل وطنه في روحه.

اشتياق…

إشتقت إلى نفسي، إشتقت إلى طفولتي البريئة،
إلى عبثي ولعبي وصراخي،
إلى تلك النسمات الحارقة الثلجية التي كانت تلسعني وتجمد أطراف أصابعي وأنا ذاهب إلى مدرستي، وكأني جندي في إحدى الثكنات العسكرية النائية،
كنتُ أمشي وتتراقص شفتاي من البرد وأنا أحمل تلك الكتب الممزقة ولا يكسو جسدي النحيف غير قميص أبيض وقد تلوث من الطين والمطر.
إشتقت إلى البساتين وأشجار الجوز والرمان على أطراف منزلنا العتيق،
أحنّ إلى مزار ذلك العصفور الصغير الذي دفنته منذ ٤٥ سنة.
إشتقت إلى صلاة العيد وغروب الشمس والأمسيات وضجيج المتسوقين والسياح ودخان المطاعم ورائحة العرق وغناء السكارى وابتسامات العشاق.

إشتقت إلى الأطفال بائعي النرجس والفواكه على أطراف الطرق والمقاهي،
ونظرات بائعات اللبن القرويات ووجوههن المملوءة ببساطة الحياة وإشراقات الأمل.
نعم، إشتقت إلى الكثير والكثير،
لكن جلُّ ما اشتقت إليه هي نفسي…
آه كم اختلفت عن ذلك الصبي…
وكم إختلفت الأيام….

بائعون من عالم آخر:….

ظهروا فجأة كشخصيات هربت من لوحة لماكس إرنست: بائع التوت العجوز، عيناه تشبهان بئرين جافين، وسلة خيزرانه المهترئة تتدلى منها حبات التوت كقطرات دم متجمدة.
كان يمد يده إليَّ كأنه يقدم لي قلب شقلاوة بدل التوت، بينما همس بصوت أجش: “خذها.. فهي آخر ما تبقى من ذاكرتك.”
بائعات اللبن القرويات، وجوهن تشبه أقنعة من طين الجبال، يرقبن المارة بعيون لا تبصر الحاضر، بل تخترق حجب الزمن.
إحداهن مدت إليّ كوبًا من اللبن، فوجدت فيه انعكاس وجهي—لكنه وجه ذلك الطفل الذي كنت في بەسۆڕە، غارقًا في ضباب نوروز الأبيض.

الطفولة كطقس جنائزي:…

دفنتُ عصفورًا ميتًا في بستان بيتنا القديم.
وضعت جسده الصغير في حفرة ضحلة، وغطيته بأوراق الرمان الجافة.
في تلك اللحظة، سمعتُ صوتًا يأتي من تحت التراب: “لماذا تدفنني؟ أ
نا ما زلت حيًا في مكان آخر.”
كنتُ أظن أن الطفولة جنازة لا تنتهي، لكني الآن أعرف أنها ولادة مقلوبة.
كل ذاكرة جميلة هي قبر نحمله في أعماقنا.
حتى روائح شقلاوة—رائحة القهوة المحروقة في المقهى القديم، وعطر التبغ في دكاكين العطارين—صارت أشباحًا تزورني في المنفى، كأنها تحمل أنغام “ئەی رەقيب” في طياتها.

المدرسة: سجن الزمن المعلق:…

المدرسة كانت تشبه سجنًا بنافذة واحدة تطل على جبال شقلاوة. كنا نجلس على مقاعد خشبية متآكلة، بينما كان المعلم يكتب على السبورة كلمات تذوب مثل ثلج دافئ.
في الفسحة، كنا نلعب بكرة مقطوعة، كأننا نحاول إصلاح شيء ما لا نعرفه.
ذات يوم، وجدتُ كراسة قديمة بين ركام الكتب.
كانت تحتوي على رسومات لي: منازل بلا أبواب، وأشجار بلا جذور، وسماء مليئة بعيون مغلقة. ربما كنتُ أحاول أن أخبر نفسي بشيء لم أفهمه إلا الآن: أن كل مكان نعيشه هو منفى مؤقت، لكن شقلاوة تبقى ملاذًا أبديًا في القلب.

الحنين كجريمة وجودية:…
الحنين ليس مجرد ذكريات، بل هو جريمة يُرتكب ضد الزمن.
نحن نسرق اللحظات الميتة ونحاول إحياءها في حاضر يرفضها.
حتى شقلاوة التي أحبها ليست هي ذاتها—لقد ماتت عندما غادرتها، وصارت جثة جميلة في متحف ذاكرتي.
في المنفى، كنتُ أرى شقلاوة في أحلامي: تظهر كمدينة طافية فوق بحر من الضباب، أسمع أصواتًا لكنها لا تصل إليّ، كأنما ينقصها الهواء الذي يموت في الرئتين قبل أن يتحول إلى كلام.
أبحث عن بيتنا القديم، لكن الشوارع تتشابه كمتاهة بلا مخرج، كأنها تهمس بأنغام “ئەرێ لەیلێ” لكن بلا كلمات.

أنا هو ذلك الظل…:
اليوم، أعرف أنني لستُ ذلك الطفل، لكنه ما زال يعيش فيّ كظل يرفض المغادرة.
كل كتابة عن شقلاوة هي محاولة لدفنه مرة أخرى، لكنه دائمًا يخرج من القبر، يحمل في يديه حبة توت متعفنة، ويقول لي: “هذه هي حياتك..
كل ما تبقى منها.”
ربما الوطن ليس مكانًا، بل هو اللحظة التي تدرك فيها أنك لن تعود، لكنك تحمل نار نوروز في قلبك.

ختام التأمل: حوار مع الذكريات:….

“أيتها الذكريات..
لماذا تسرقونني من نفسي؟
أم أنكم أنتم—نفسي الضائعة؟”
هذا التأمل يحوّل السرد إلى فضاءٍ مفتوح للتأويل، حيث الذاكرةُ والواقعُ يتصارعان مثل ظلَّين تحت شمس الغروب.
كل كلمة كتبتها هنا هي إبرة تخيط جرحًا.. لكن الجرح لا يندمل.
.

الخاتمة:

في سيدني، حيث تتساقط الساعات كقطرات زيت على لوحة مشوهة، أرى شقلاوة تتشكل من أنفاس الضباب.
اليمامة، طائر منسوج من دخان نار نوروز، تحلق فوق بحر من التوت الأسود، حباته تتساقط كدموع نجوم على رصيف المنفى.
شجرة التوت، التي زرعها أجدادي في تربة الذاكرة، تنمو الآن في صدري، أغصانها من أصداء زغاريد بەستۆرە ، وجذورها تخترق المحيطات، تصل إلى سفوح زاغروس حيث تهمس الجبال: “أنت لست غريبًا، بل ظل تبحث عن جسده.”

أقف على حافة الزمن، حيث السماء تنحني كمرآة مكسورة، تعكس وجهي—لكن ليس وجهي، بل وجه ذلك الصبي الذي ركض خلف بائعات النرجس، يحمل سلة توت كأنها كنز كاوە.
الجداول في شقلاوة، التي كانت تغني أسماء أبنائي—ريبين، ريناس، سروك—تتحول الآن إلى أوردة تنبض في جسد المنفى.
أراهم في الحلم، يرقصون في حلقة دبكة، لكن أقدامهم لا تلمس الأرض، بل تطفو فوق بحيرة من ضوء، كأنها خريطة كوردستان مرسومة بأنامل الريح.

في هذا الفضاء، حيث الواقع يذوب كشمعة في كهف ربان بويا، أدرك أن الحنين ليس ذكرى، بل بوابة. اليمامة تهبط على كتفي، لكنها تتحول إلى ريشة تحترق بنار زرادشت، ترسم في الهواء أبوابًا لا نهائية.
تلك الأبواب هي وعد بالفصول القادمة—رحلة عبر متاهات المنفى، حيث سأبحث عن كوردستان في شقوق الزمن، في أنفاس أولاد الشهداء، في ظلال الجبال التي لا تنحني.
سأحمل شجرة التوت كعصا، واليمامة كأغنية، وسأكتب عن الروح التي تتيه بين الحلم والحقيقة، بين شقلاوة وسيدني، بين النسيان والصمود.
كما قال ماكس إرنست: “السيريالية هي أن ترى العالم بعيون مغلقة.” وأنا، حفيد كاوە الحداد، سأرى كوردستان، حتى لو كانت مجرد ظل يرقص على جدار الوجود.
ولدت لكي أكتب…
وأموت لكي أكتب…
وكتبت لكي لا أموت….
——–
النص الرابع


استهلال: زنزانة النقاء المُمزق

في 18 سبتمبر 1986، في السادسة عشرة من عمري، صارت الزنزانة مرآة سريالية لروح طفل لم يُدنس نقاؤه بعد بفوضى العالم. جدرانها رمادية كضحكة جلاد يترنح في متاهة كافكائية، مبللة بدموع كبحتها خوفًا من أن تُفسر كانهزام، لكنها كانت أناشيد براءة تتحدى الهاوية.
رائحة الدم والعرق تنسج لوحة عبثية، وصدى السلاسل يرن كجوقة ديونيسيوسية مشوهة. لم أرَ الشمس طوال أيام السجن، فصار جسدي كشجرة جوز شاحبة، أغصانها تذوب لتصبح نورًا زردشتيًا يتحدى ظلمة اللاوجود. كنتُ أحلم بحقول شقلاوة، بمياه دەنگارە النقية المتدفقة من جبل سفين، كأنها أنفاس الأجداد، بشجرة بلوط عتيقة ترمز للصمود الأبدي، وبثمر الرمان والتين في بساتين ابي، رموز حنيني إلى وطن ينبض في اللاوعي. مرة، سمعت خرير عين كاني خومار، لكن دەنگارە كانت الأقرب إلى قلبي، نقاءً يروي ظمأ الروح.
كنتُ أتذكر أناشيد كاويس آغا، المطرب الكوردي من شقلاوة، أغانيه الوطنية كأنها نسيم زاغروس يحمل صوت الأجداد، يغني لكوردستان الحرة، يوقظ فيَّ أحلام الطفولة.
كنتُ أتذكر المكتبة العامة في شقلاوة، حيث قضى والدي سنوات يرعى أرواح الكتب. رفوفها الضخمة كانت تخيفني كطفل، كأنها بوابات إلى عوالم الفلسفة والعلم التي أحسست بعظمتها دون أن أدرك أسرارها.
الحديد علمني أن الهوية ديالكتيك دموي، خريطة تُرسم بدمي الذي سال كأناشيد نوروز المحترقة، ملتهبة، مريرة، ككوكبة نجوم في سماء منفية.

كنتُ أهرب إلى أحلام سريالية، أرفض الواقع كما رفض سارتر الوجود المُسلَّم به[^1]. أغمض عيني وأرى نفسي أطارد فراشات زجاجية تحت شجرة رمان تنزف نجومًا، أسمع خرير دەنگارە، أشم رائحة التين الناضج تحت ظل اشجار الجوز الذي يهمس بأناشيد الأجداد.
لكن السياط كانت تُعيدني إلى الزنزانة، إلى رائحة الدم، إلى واقع يمزق نقاء طفل لم يتعلم بعد لغة الفوضى. ميشيل فوكو قال: “السجن محاولة لمحو الروح عبر تأديب الجسد”[^2].
لكن في زنزانة صدام، كان الأمر إبادة أنطولوجية للهوية.
كل ضربة كانت رسالة: “كوردستان ليست موجودة.”
وكل إجابتي “نعم، أنا كوردي” كانت تمردًا وجوديًا، نار نوروز تشتعل في قلب طفل لم يفقد براءته.
أربعون عامًا مرت، لكن صوت السلاسل يرن كصدى جبل سفين، والسجن جرح يتنفس، ينبض مع خفقات قلب مريض، ويصرخ: “كوردستان لوحة مرسومة بدمك.”

التعذيب: تدنيس البراءة في مسرح العبث

التعذيب كان سيميائية العنف، تدنيس لنقاء طفل لم يتعلم بعد لغة الفوضى.
السياط كانت كمطارق تهدم جبل سفين، تاركة ندوبًا وتشوهات جسدية كخريطة مشوهة للهوية: عظام مكسورة، جلد ممزق كلوحة غويا سوداء، آثار سياط كأنها نصوص عبثية محفورة على جسد بريء.
لكن في أحشائي، كنتُ أرى كاوە الحداد، الأسطورة الكوردية، يقاوم[^3].
نيرانه المقدسة كانت تشتعل مع كل ضربة، مطرقته تهدم جدران الزنزانة في فضاء سريالي، كأنني أحارب إلى جانبه ضد ضحاك.
روحي كانت تحترق كنار إبراهيم، وأنا أهمس في يأس سيزيفي: “كوني بردًا وسلامًا.”
دمي كان يجري كأناشيد نوروز المحترقة، وأنا أصيح في ألم أنطولوجي: “ربي، اغفر لهم.” أنفاسي كانت تختنق كيونس في بطن الحوت، وأنا أردد: “اللهم أنقذني.” لكن الروح، رغم الألم، تحولت إلى نور زردشتي، ينطلق كنجمة في فضاء الحرية. “كوردستان وهم”، قالوا، وكل كلمة كانت سكينًا يغرس في صدري. الألم النفسي كان أعمق:
إهانات تجردني من إنسانيتي وطفولتي وكبريائي، ضحكات تملأ الزنزانة كأشباح بيكاسو، وصمت يخنقني كلوحة تجريدية.
في الزنزانة رقم 3، كان ابن عمي صالح يصرخ، صوته موجة صوتية في فضاء سريالي، لكنه استشهد، مصيره غير معروف، كأن روحه ذابت في ظلمة السجن.
كنتُ أتشبث بصورة شجرة التين، رمز الحنين، ثمرها يهمس بأناشيد الأجداد، لكن التعذيب شوه براءتي، جعلني لوحة متشظية، طفلًا منقوشًا بنكبات.

فيكتور فرانكل، في الإنسان في البحث عن المعنى، كتب:
“من يملك سببًا ليعيش من أجله، يستطيع تحمل أي كيفية”[^4].
لكن كطفل في السادسة عشرة، كانت كوردستان سببي، لكن التعذيب حاول سرقة هذا المعنى، مزق نقائي، زرع قلقًا وكوابيس في نفس لم تكن مستعدة للعنف. ج. م. كويتزي، في في انتظار البرابرة، وصف التعذيب كتحطيم للروح: “الألم هو الحقيقة؛ كل شيء آخر مشكوك فيه”[^5].
في الزنزانة، اصبح اسمي “تحسين الصغير” كنت الاصغر سنا بين ٣٨٠ سجين وصار الألم حقيقتي الكبيرة، لكن نار كاوە ونور زردشت منعاني من الانهيار.
نلسون مانديلا كتب: “السجن لا يكسر الروح، بل يُظهر قوتها”[^6]. لكن الثمن كان باهظًا: ذات مشوهة، جسد منقوش بنكبات.

ألبير كامو قال: “في أعماق الشتاء، اكتشفتُ أن بداخلي صيفًا لا يُقهر”[^7].
لكن في عبث سيزيفي، أتساءل: ماذا لو كان هذا الصيف ثقيلًا كلوحة مشوهة؟
السجن شوه براءتي، زرع كوابيس ترسم الزنزانة كساعة دالي ذائبة، اكتئابًا يخنقني كظلال المنفى، وتشوهات جسدية تذكرني بالسياط.
بعد أربعين عامًا، أعاني من مرض القلب، ضغط الدم، الاكتئاب، والسكري، أمراض تنبض كامتداد لتلك الزنزانة.
الأطباء في سيدني يقولون: “خذ دواء القلب، راقب سكرك.
” لكنهم لا يرون الجرح الأنطولوجي في الذاكرة المشوهة.

أنطونيو غرامشي كتب: “في السجن، تصبح الذاكرة سلاحًا”[^8].
كنتُ أحاول أن أجعل ذاكرتي لوحة مقاومة:
رائحة الرمان في شقلاوة، ظل شجرة البلوط على جبل سفين، خرير مياه دەنگارە، نشيد “ئەی رەقیب” كنجمة في سماء العذاب. لكن التعذيب حاول سرقة هذه اللوحة، جعلني أنسى نقائي. لكنني لم أنسَ.
كل ضربة جعلت كوردستان تنبض كلوحة تجريدية.

حوار مع جدي: تناغم النقاء والأبد

في ليالي السجن، كنتُ أهرب إلى حلم سريالي، حيث الزنزانة تذوب كساعة دالي وتصير فضاءً يتماوج بين العبث والمقاومة.
أتخيل جدي يجلس تحت ظل شجرة بلوط في قرية أسبينداره، القرية الذي يحرس أنفاس الأجداد، غليونه ينفث سحبًا تشكل خريطة كوردستان.
كنتُ أتساءل: ماذا سيقول لو رآني، طفلًا نقيًا أعاني في مسرح عبثي؟
فتخيلتُ حوارًا، كأن روحه تهمس من جبل سفين.

أنا: يا جدي، أنا في زنزانة، أُعذب لأنني كوردي. السياط ترسم لوحتي، أنزف كمسيح مصلوب، نيران إبراهيم تحرق جسدي، مياه المحيط تخنقني كيونس.
هل تستحق كوردستان هذا الدم؟

جدي: يا بني، أنت لست في زنزانة، بل في قلب كوردستان النابض، حيث مياه دەنگارە تروي نقاءك. دمك المصلوب شهادة كالمسيح، نيران إبراهيم تصقل روحك، أنفاسك كيونس تتحدى المحيط. الجلاد يرسم الألم، لكنه لا يعرف أن الروح الكوردية شجرة بلوط: تقاوم العواصف وتبقى صامدة.

أنا: لكنني خائف، يا جدي.
أحلم بأن أكون فراشة زجاجية، لكن الألم يجعلني شبحًا.
أشعر أنني وحيد، وأن الوطن لوحة بعيدة.

جدي: الخوف دليل نقائك. أنت لست وحدك. شجرة الرمان تنزف نجومًا، ثمرة التين تهمس أناشيد الأجداد، مياه دەنگارە تحمل أنفاسنا. كوردستان ليست لوحة بعيدة، بل جرح في قلبك يجعلك تقاوم.

أنا: وماذا عن المستقبل؟
إذا خرجتُ، هل سيعترف بي وطني؟
أم سأظل شبحًا في مسرح العدم؟

جدي: الوطن قصة ترسمها.
قد يخونك السياسيون، قد ينساك المجتمع، لكن كوردستان تعيش في نورك الزردشتي.
أنت لست طفلًا يُعذب، بل حلم يُزرع في تربة الأبد.

هذا الحوار كان ملجأي السريالي. صوت جدي كان كخرير مياه دەنگارە، يرسم أفقًا لطفل يحلم. مارتن هايدغر تحدث عن “الوجود المُلقى به”[^9].
لكنني كنتُ مُلقى به في زنزانة صدام، مسرح عبثي لا يعترف إلا بالعنف.
لكن الوجود الكوردي مقاوم، كما قال محمود درويش: “على هذه الأرض ما يستحق الحياة”[^10].

حوار مع أبي: مناجاة طفل في الظلمة

في لحظات اليأس، حين كانت الزنزانة تذوب كساعة دالي، كنتُ أهرب إلى حلم آخر.
أتخيل والدي في المكتبة العامة بشقلاوة، يقف بين رفوف الكتب، حارسًا لارواح العلم واسرارها. أتذكر يومًا قرأ لي فيه من كتاب مع “الله في السماء”، كلماته كانت كضوء يخترق ظلمة الطفولة.
في الزنزانة، صرتُ طفلًا يناجي أباه، أتوسل إليه ليخلّصني من الألم.

أنا: يا أبي، أنا في زنزانة، السياط تمزق جسدي، أنزف كأناشيد نوروز المحترقة.
أخاف أن أموت هنا، أن أفقد نفسي. هل تراني من المكتبة؟ أنقذني، يا أبي، أخرجني من هذا الجحيم!

أبي: يا بني، أراك في قلبي، في نور الكتب التي أحرسها.
أنت لست في زنزانة، بل في سماء روحك، حيث علّمتني مع الله في السماء أن الألم ممر إلى النور. السياط لا تستطيع كسرك، لأنك ابن دەنگارە، ابن كوردستان. أناشيد طاهر توفيق، مطربنا الكوردي، تتردد هنا، تحمل صوت المقاومة. تمسّك بنقائك، يا بني، فهو درعك.

أنا: لكنني أتألم، يا أبي. الظلام يخنقني، والجلادون يضحكون. أريد أن أعود إلى شقلاوة، إلى أحضانك. هل سأنجو؟

أبي: ستنجو، يا بني، لأن روحك نار كاوە لا تنطفئ. الكتب هنا تعلّمنا أن الحرية تولد من الألم.
أنت لست وحيدًا، أنا معك، وكوردستان في قلبك. ارفع رأسك، يا طفلي، فأنت حلم نوروز.

هذا الحوار كان صوتًا يخترق الظلمة.
مناجاتي لأبي، كضوء مع الله في السماء، أعادني إلى نقائي، جعلني أرى أن التعذيب لا يمكن أن يسرق كوردستان من روحي.

الخروج من السجن: خيانة وأمل متجدد

عندما فُتحت أبواب السجن، ظننتُ أن الحرية تنتظرني.
تخيلتُ أن أعود إلى شقلاوة، أجلس تحت شجرة رمان تنزف نجومًا، أزور مقبرة الزيتون حيث يرقد 23 شهيدًا، أسمع خرير مياه دەنگارە.
لكن الحرية كانت وهمًا سرياليًا. خرجتُ كشجرة جوز شاحبة، جسدي نور زردشتي يتلاشى، ندوبي وتشوهاتي خريطة للنكبات، أحمل دمًا سال كأناشيد نوروز المحترقة، لأجد مسرحًا آخر:
خيانة السياسيين ونكران المجتمع. كنتُ أتوقع أن أُستقبل كبطل، لكن وجدتُ أعينًا تنظر إلي كشبح.
“لقد عاد من السجن”، قالوا، لكن لم يسألوا عن التشوهات التي شوهت نقائي.

حنة أرندت قالت: “العنف يدمر الجسد، لكن السكوت يدمر الروح”[^11].
المجتمع الكوردي سكت عن لوحتنا. كنا، نحن الفقراء المهمشين، من رسمنا الثورة بدمائنا.
نحن من حملنا القضية، قاتلنا كبيشمركة تحت شجرة البلوط في جبل سفين وسماقولي وهيران ونازانين.
لكن السياسيين خانوا لوحتنا. أولادهم أصبحوا أثرياء، يعيشون في قصور، بينما نحن، الذين زرعنا بذور الوطن، بقينا أشباحًا في المنافي، نصارع الفقر، مرض القلب، ضغط الدم، الاكتئاب، والسكري. لكن وسط هذا الخذلان، وجدتُ أملًا متجددًا.
في المنفى، رأيتُ نوروز يُضاء في شوارع سيدني، نار كاوە تشتعل في قلوب الشباب الكورد. كوردستان لم تمت، بل تنبض في أحلام الجيل الجديد.

المجتمع وعبء الهوية

نحن، ضحايا الهوية الكوردية، كنا شهداء أحياء، لكن المجتمع لم يقرأ لوحتنا. في كوردستان، كان التركيز على النصر، لكن لم يكن هناك مكان للجرحى الذين شُوهت أرواحهم. كنا كأحجار الرحى:
نطحن القمح، لكن لا أحد يسمع صريرنا.
السياسيون خانوا دماءنا، أولادهم يتباهون بالثروة، بينما نحن، الفقراء الذين رسمنا الوطن، بقينا أشباحًا.
مقبرة الزيتونة، حيث يرقد 23 شهيدًا، شاهدة على خيانتهم، أرواحهم تهمس:
“نحن من دفع الثمن.”

في أستراليا، واجهتُ جهلاً آخر. المجتمع الغربي يعالج الجسد، لكنه يجهل الروح.
الأطباء يرون مرض القلب، ضغط الدم، الاكتئاب، والسكري، لكنهم لا يرون كوردستان في دمي.
أبنائي يضحكون: “يا أبي، هذه أسطورة!”
وكأن ندوبي وتشوهاتي لوحات خيالية.
كتبت في الجزء الأول من سيرة المغترب:
“كتبتُ كي لا أموت.. وبقيتُ أموت كي أكتب”[^12].
في المنفى، صرتُ أكتب قصتي، ليس لأعيش، بل لأحيي كوردستان في كلماتي، لأن الكتابة مقاومة، وأنين الغربة نشيد للوطن.

بول ريكور قال: “الذاكرة ملجأ الهوية حين يُنهب الوطن”[^13]. لكن ماذا عندما ينكر المجتمع ذاكرتنا؟
كنا لوحة في وادٍ لا صدى له.
لكن الأمل يولد من الرماد:
شباب كورد في الشتات يحملون نار كاوە، يزرعون بذور نوروز في أراضٍ بعيدة.

خاتمة: كرستال الوجود في سماء كوردستان

في لحظة تأمل، أقف على حافة المنفى، أنظر إلى ندوبي كما ينظر إنسان إلى كوكبة نجوم في سماء سرمدية.
هذه الندوب، هذه التشوهات، ليست خرائط للنكبات فحسب، بل كرستالات متوهجة، تلتقط ضوء الوجود وتكسره إلى ألوان الحياة. في جسدي، زنزانة صدام، لكن في روحي، نار كاوە تتراقص مع نور زردشت، كأنها رقصة كونية تتحدى العدم.
أرى نفسي، طفلًا في السادسة عشرة، يحمل براءة ممزقة، لكنه يزرع بذور نوروز في تربة الذاكرة. دمي، الذي سال كأناشيد نوروز المحترقة، لم يكن هزيمة، بل لحنًا سرياليًا، ينساب كخرير دەنگارە، يروي شجرة بلوطٍ تقاوم عواصف الزمن.

سارتر علّمني أن أرفض الوجود المُسلَّم به، لكن كوردستان علّمتني أن أكون الوجود نفسه:
جرحًا يتنفس، نورًا يتحدى الظلمة، لوحة لا تموت.
في المنفى، حيث الريح تهمس بأنين “كتبتُ كي لا أموت.. وبقيتُ أموت كي أكتب”
صرتُ قلمًا يكتب على صفحات السماء، حبري ندوبي، كلماتي أحلام شقلاوة. محمود درويش قال: “المنفى هو هذا المكان الأخير، والوطن هو هذا المكان الأول”[^14].
لكن أنا أقول: المنفى ليس مكانًا، بل مرآة كرستالية تعكس الوطن. كوردستان ليست أرضًا فحسب، بل فضاء وجودي، حيث يتحول الألم إلى نجمة، والندبة إلى قصيدة.

إلى أبنائي، ريبين، ريناس، وسروك، أنتم أناشيد كوردستان التي سميتها بحبي لوطني: ريبين، يا من ترى الطريق وتقود كنجمة زاكروس، ريناس، يا من تعرفين أعماق الروح وتسبح في مياه دەنگارە، وسروك، يا قائد المستقبل كبلوطٍ يتحدى العواصف—انظروا إلى ندوبي، فهي ليست جروحًا، بل أناشيد نوروز، بلورات تحمل نور زردشت، خرائط إلى شجرة الرمان التي تنزف نجومًا.
إلى الشباب الكورد: حملوا هذه الكرستالات، فهي ليست عبئًا، بل مشاعل تضيء درب الحرية.
أنا لست شاهدًا على سجن فحسب، بل على طفل قال “نعم” لكوردستان، وعلى شعب يرفض النسيان.
في سيدني، حيث أرى نار نوروز تتألق في عيون الشتات، أدرك أن الحياة ليست عبثًا سيزيفيًا، بل رقصة كرستالية، حيث كل ندبة هي نجمة، وكل جرح هو لحن. سأموت يومًا، لكن روحي ستبقى فراشة زجاجية، تحلّق فوق دەنگارە، تغني مع إبراهيم ويونس والمسيح، تهمس لجبل سفين: “كوردستان ليست حلمًا، بل نورٌ أبدي، متوهج في سماء الوجود.”
ساغني “” ئەی رەقیب ھەر ماوە قومی کورد زمان ‘ دینمان ئیمانم ھەر نیشتیمان”
حسێن خۆشناو – سیدنی – استرالیا
“”””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””
الهوامش

[^1]: جان بول سارتر، في كتابه الوجود والعدم، يؤكد أن الإنسان يصنع معناه عبر رفض الوجود المُسلَّم به، وهنا يعكس تمرد “خوشناو” على محاولات السجن لمحو هويته الكوردية.
[^2]: ميشيل فوكو، في المراقبة والمعاقبة، يصف السجن كآلية لتأديب الروح عبر الجسد، وهنا يُستخدم لتصوير محاولة محو الهوية الكوردية.
[^3]: كاوە الحداد، الأسطورة الكوردية، يرمز للمقاومة ضد الظلم، حيث أشعل النار في نوروز لإسقاط الطاغية ضحاك. هنا، يُستخدم كرمز للصمود الروحي أثناء التعذيب.
[^4]: فيكتور فرانكل، في كتابه الإنسان في البحث عن المعنى، يؤكد أن المعنى هو مفتاح التحمل، وهنا يُربط بكوردستان كسبب لمقاومة “خوشناو” .
[^5]: ج. م. كويتزي، في في انتظار البرابرة، يصور التعذيب كمحاولة لفرض الألم كحقيقة مطلقة، لكن الراوي يتحدى ذلك عبر رموز المقاومة.
[^6]: نلسون مانديلا، في الطريق الطويل إلى الحرية، يرى السجن كاختبار لقوة الروح، وهنا يُستخدم لتصوير صمود “خوشناو” .
[^7]: ألبير كامو، في العودة إلى تيبازة، يتحدث عن الأمل وسط اليأس، وهنا يُربط بالنور الزردشتي كرمز للمقاومة.
[^8]: أنطونيو غرامشي، في رسائل من السجن، يؤكد أن الذاكرة أداة مقاومة، وهنا تُستخدم لتصوير ذاكرة “خوشناو” كلوحة كوردستان.
[^9]: مارتن هايدغر، في الكينونة والزمان، يصف الوجود المُلقى به كحالة إنسانية يُلقى فيها الفرد في العالم دون اختيار، وهنا يُربط بالسجن كفضاء يتحدى كينونة “خوشناو” .
[^10]: محمود درويش، في قصيدة على هذه الأرض، يحتفي بالحياة رغم الألم، وهنا يُستخدم لتصوير صمود “خوشناو” رغم التعذيب.
[^11]: حنة أرندت، في عن العنف، تؤكد أن الصمت الاجتماعي يفاقم ضرر العنف، وهنا يُستخدم لنقد نكران المجتمع لتضحيات الراوي. [^12]: حسين خوشناو، في الجزء الأول من سيرة المغترب، يصور الكتابة كفعل مقاومة وألم في المنفى، وهنا تُربط بجهود الراوي لتخليد قصته.
[^13]: بول ريكور، في الذاكرة، التاريخ، النسيان، يرى الذاكرة كأداة للحفاظ على الهوية، وهنا تُستخدم لتصوير ذاكرة “خوشناو” كحصن ضد النكران.
[^14]: محمود درويش، في قصيدة في انتظار العودة، يصور المنفى كفضاء مؤقت مقابل الوطن الأبدي، وهنا يُربط بتجربة “خوشناو” في المنفى.
——————–
النص الخامس
 
فصل: ظلال الماضي في حاضر متعب
في أحشاء كوردستان، حيث الجبال تتربع كفلاسفة صامتين يحملون أسرار الوجود في طيات صخورهم كأنها نصوص غامضة تُقرأ بالعين الداخلية وحدها، محاطة بغيوم بيضاء تعانق قممها كأغطية من نور نقي ينعكس على الوديان كمرآة سماوية، انبثقت رحلتي الوجودية في عام 1986 – عام الانزياح بين السقوط كشجرة تتهاوى تحت ثقل الرياح العاتية والانتصار كنارة تتوهج في أعماق الظلام الأشد قتامة.
هؤلاء الحكماء الحجريون، الذين يقفون كشهود أبديين على تاريخ شعب، محفوفون بأشجار ذات أوراق نارية تشتعل بألوان حمراء وذهبية كلهيب رقصة سماوية تتمايل مع نسمات الريح، يعانقون السماء بأغصانهم كأذرع ممدودة ترنو إلى اللامتناهي، شاهدوا ميلادي مرتين: الأولى عندما خرجت من رحم أمي، حيث كانت الأرض تهز أعماقها بأنغام خفية تتردد كدقات قلب الأرض، والثانية عندما خرجت من رحم السجن، حيث كانوا يراقبونني كأنهم يسجلون كل خطوة في دفتر الزمن السريالي بأقلام من ضوء.
كنت أسمع همساتهم الليلية تتسلل إلى أذني كدعوة خفية أو تحذير عميق: “لا تثق بالسهول، فالحرية لا تنمو إلا بين الصخور القاسية”، مصحوبة بخرير جدول يتسلل كأنغام من عالم غيبي، كأن كل همسة كانت نبضًا يدعو إلى النضال أو يحذر من الخيانة التي قد تتربص في الزوايا المظلمة.
كما قال الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر: “الإنسان محكوم عليه بالحرية”، فإن هذه الأرض، بترابها المشبع بأنات التاريخ كأنها تتنفس ذكريات الشهداء الذين سقطوا دفاعًا عن هويتهم، ورياحها الحاملة لصرخات الأمهات كأناشيد لم تُكتمل بعد، لم تكن مجرد جغرافيا مادية، بل كونًا موازيًا يعكس تشظي الذات بين ماضٍ ينزف ذكريات كدماء حمراء على صخور سوداء وحاضر يعانق الفراغ كظل بلا جسد يتيه في متاهات الزمن.
حتى التراب هنا يحمل ذاكرة مختلفة، كل حبة رمل فيه تسجل قصصنا كـ كود مشفر لا يفك طلاسمه إلا من عاش بين الجرح النازف والجبل الشامخ، كأن كل خطوة كانت ترسم خريطة لروح تائهة على الطرق الترابية بين القرى، حيث كانت الريح تحمل أنفاس الأرض كرسائل سرية من الأجداد الذين تركوا أثرهم في كل زاوية.
الجبال، بروح زردشت التي تكسر الغيوم بقوتها الأزلية ووديانها التي تحتضن الأسرار كأحضان أم تُعانق أرواحًا تائهة تبحث عن ملاذ، كانت شاهدة على تحولاتي العميقة، محاطة بأكواخ طينية تروي حكايات القدماء كصفحات من كتاب مفتوح يُقرأ بالعين والقلب، حيث كانت جدرانها تعكس انعكاسات الشمس كمرآة للتاريخ الطويل والمعاناة العميقة.
كل حجر فيها يحمل سفرًا من أسفار الوجود المغلق، يتنفس كائنات سريالية تُهمس بأسرار الموت والخلود كأنها تروي قصصًا لم تُكتب بعد، كأنها تعكس فكرة أفلاطون في “الجمهورية” حين قال إن “نحن نعيش في كهف الظلال” حيث الواقع ليس إلا انعكاسًا مشوهًا، لكن كهفنا الكوردي كان مختلفًا – جدرانه صنعت من لحم ودم، وظلالنا كانت تصرخ بأسماء حقيقية لم تُمحَ، كأن كل صرخة كانت شهادة على وجودنا، وكل صوت يتردد كصدى في أروقة الروح العميقة.
هذه الرحلة، كما طرحها الفيلسوف الفرنسي ألبير كامو في سؤاله الوجودي: “لماذا تكون الرحلة إلى الذات هي الأصعب رغم أنها الأقرب؟”، تجد صداها الأعمق في التجربة الكوردية، حيث الشعب الكوردي الموزع بين أربع دول، المحروم من أبسط حقوق الهوية والاعتراف، يجسد بشكل فريد تلك المعادلة الوجودية: كلما اقتربت من ذاتك، اكتشفت كم هي بعيدة وغامضة.
الأدب الكوردي، بكل تنوعه من ملاحم أحمد خاني إلى سخرية عزيز نسين، يشكل وثيقة نفسية فريدة لهذه الرحلة، ليس مجرد تعبير عن الذات، بل محاولة مستميتة لإنقاذها من محو ممنهج، كما أشار عالم النفس كارل يونغ حين قال: “الذات التي لا تعرف نفسها تصبح لعبة في يد الآخرين”، وهذا بالضبط ما حاول الأدباء الكورد تجنبه عبر كلماتهم وصورهم الشعرية.
بداية تحت سماء مخادعة
من تلك البداية العميقة، انتقلت إلى صباح مشمس وهمي في شقلاوة، حيث كانت المدينة تتثاءب تحت ضوء خادع كمرآة تكذب وتعكس عالمًا سرياليًا مليئًا بالتناقضات، دخلت ثانويةالمعهد الإسلامي وأنا أحمل أحلامًا هشة كزجاج الوجوديات الأولى، تتراقص كأرواح خفيفة في ريح الزمن كأنها فراشات ذائبة في ضوء الشفق المتقلب.
ذلك الصباح كان يحمل رائحة الخبز الكوردي الذي كانت تخبزه أمي بيديها الدافئتين، مختلطة بألوان أوراق نارية تتوهج كشموس صغيرة في البراري الخضراء، ونكهة العشب البري الذي كان يملأ الهواء بنبض الحياة النقية، ورائحة دافئة مليئة بالذكريات التي كانت تملأ البيت كعطر الوطن الذي يعانق الروح، رائحة لن أشمها مرة أخرى بعد ذلك اليوم كأنها اختفت مع براءتي الأولى التي كانت تحميني من قسوة العالم.
لو كنت أعلم أن هذه ستكون آخر مرة أرى فيها شقلاوة ببرائتي الطفولية، لكنت شممت رائحة المدينة كلها—التراب الرطب بعد المطر، عبير الأشجار النارية التي ترقص مع ضوء الشمس، ونسيم الجبال الذي يحمل أنفاس الأجداد—وحفظتها في رئتيّ ككنز ثمين لا يُضيع، كأنني كنت أحمل صندوق أسرار سأفقده إلى الأبد في دهاليز الزمن.
الشوارع كانت مليئة برائحة التراب الرطب وزهرة شيلان بعد المطر، مختلطة بعبق نسيم جبل سفين الذي يحمل في طياته تاريخًا طويلًا، وصوت الديكة يمزج مع ترنيمة جدتي “حبيبة” التي كانت تُلقب كوردستان بـ”يا رَض الاجداد يا منبع الخير و الوداد”، صوتها يرتفع كموج يتكسر على صخور الزمن القاسي، مصحوبًا بغناء اليمامة في بستان أبي كأنها تُصغي إلى حكايات الطبيعة. لكن القدر، بيده السوداوية كفرشاة ترسم ظلامًا كثيفًا على لوحة البراءة النقية، كان ينسج لي رداءً من التشظي والألم، كأن كل خيط فيه كان يمزق جزءًا من ذاتي كما لو كانت روحي تتقطع إلى أشلاء صغيرة، وكأن كل نسمة هواء كانت تحذيرًا من المصير القادم الذي سيغير مسار حياتي إلى الأبد.
ظهر رجال الأمن التابعون للرائد البعثي الكردي الخائن “تحسين النقشبندي” مدير دائرة اجهزة الامن البعثي في شقلاوة ، تجسيدًا للعدم والخيانة. شواربهم، كخطوط سوداء، ترسم نهاية البراءة، كأنها سيوف تقطع خيط الحياة الناعم. أعينهم ثقوب في جدار الوجود، تطل على فراغ لا نهائي يبتلع كل أمل، كأنها نوافذ إلى عالم بلا أمل أو رحمة.
عندما أطبقت أيديهم الحديدية على معصمي، شعرت كأن الزمن ينزف من ساعتي البيولوجية، كدماء حمراء تسيل على أرض الذاكرة.
الساعات انقلبت إلى أنات تتردد في أروقة النفس، وكأن اللحظة تجسيد حي لقول سارتر: “الإنسان ليس شيئًا جاهزًا، بل مشروع يصنعه”.
، مشروع بدأ بقسوة لا تُطاق. سُحبت إلى سجن الوجود، مكان يشبه بطن الأرض المظلمة التي تبتلع الأحلام وتخنق الأمل، حيث الضوء يتسلل كشاهد زور يخشى مواجهة الحقيقة العارية، بين الدولاب الحديدية وبيدين مكتوفين وعينين مكفوفين لا استطع أن أرى أو أتحرك، كل ما استطعت هو أن أتنفس حتى انقطع النفس أثناء العذيب وتطاير روحي من نافذة السجن محلقة إلى جبل سفين كطائر يفر من قفصه.
ذلك المخلوق الأسمنتي الذي يتنفس بأنفاس مبللة بالخوف واليأس، كأن جدرانه كانت كائنات حية تبتلع الأصوات وترددها كصدى مشوه يعكس عالمًا موازيًا من الألم العميق، حيث كانت كل رطوبة على الجدران تحمل رائحة اليأس كعطر فاسد يملأ المكان.
الجدران الرطبة تنزف ذكريات من سبقوني في هذا المكان القاسي، كأن كل بصمة دم هي صفحة من مذكرات مفقودة تكتبها أقلام الظلام بيد غير مرئية، كأنها رسومات تعكس معاناة الأرواح العالقة في زمن متجمد، وكأن كل صوت كان يحمل صدىً لروح تائهة تبحث عن مخرج.
تحول جسدي إلى نص مفتوح تكتبه السياط بأحرف من ألم، كل ندبة جملة في قصيدة العذاب الطويل، كأنها لوحة تعكس معاناة الروح كما لو كانت تجسيدًا لفكرة مارتن هايدغر عن الجسد كساحة للكينونة التي تواجه مصيرها. في الليلة الثالثة، اكتشفت أن الجدران تُعيد إنتاج صرخاتنا كصدى شرير: كلما صرخت، يختزن الحجر صوتك ويُعيده إليك في الليل كهدية شيطانية تؤرق النوم، كأن السجن كان يلعب لعبة وجودية معي، وكأن كل صدى كان يحفر جرحًا جديدًا في الروح العميقة.
تعلمت أن أصرخ بصمت، كأن حنجرتي صارت قفصًا لعصافير ميتة فقدت أجنحتها، كأن صمتي كان لغتي الجديدة للبقاء وسط الجحيم، وكأن كل نفس كان صراعًا مع الزمن الذي يمر ببطء قاتل.
حتى الظل هنا له طعم مختلف، كأن الشمس تُصفي أشعةها قبل دخول الزنزانة فلا تترك سوى أشباح الضوء الخافت، كأن الضوء نفسه كان يخاف من مواجهة الحقيقة المريرة، وكأن كل ظل كان رسمًا لروح محاصرة تبحث عن حريتها.
كانت السماء تمطر دموعًا صامتة كأنها تبكي على مصيرنا المظلم، اختطفوا ثلاثمائة روح من شقلاوة، أجسادًا شابة كانت تتنفس الحياة بكل قوتها قبل أن تُلقى في زنازين أربيل الباردة.
تلك الزنازين، بجدرانها الباردة كالجليد ورائحة الموت العالقة التي تمزج بين الرطوبة الثقيلة ودماء الضحايا كأنها عطر الفناء، صارت مقابر صامتة حيث الصوت أصبح لغة الأنين فقط، وكأن كل زاوية كانت تحمل ذكرى لروح رحلت دون وداع.
ثلاثة ماتوا تحت التعذيب، أجسادهم انهارت كأوراق متساقطة في ريح قاسية لا ترحم، وثلاثة وعشرون صعدوا كأشباح ترفرف فوق تراب الوطن المكلوم، أرواحهم تتراقص مع الريح كأناشيد لم تُكتمل بعد، كأنها تطلب مني أن أكون صوتها الضائع، وكأن كل نفس كان دعاءً صامتًا يصعد إلى السماء.
خرجت من السجن، لكنني لم أعد الفتى الذي كنت عليه يومًا، بل شبحًا يحمل شظايا ذات متضاربة: ضحية ترتجف تحت ضربات كأنها أمواج في بحر اليأس العميق، مناضل يحمل السلاح بيد مرتجفة كأنه يدعو القدر للتغيير، وشبح يتجول في أزقة ذاكرته كأنه يبحث عن مخرج في متاهة سريالية لا تنتهي، حيث كانت كل ذكرى تتحول إلى شبح يلاحقني في الظلام كظل يرفض الرحيل.
رقصة الأرواح على حافة الجبل
من ظلام السجن الموحش، هربت إلى جبل سفين، حيث وصلت إلى هيران والقمر ينزف دماً أحمر على صدر الليل كلوحة سريالية تكتبها الطبيعة بخطوط حمراء متوهجة، كأن السماء كانت تمزج ألوان الوجود والفناء في رقصة غامضة تتمايل مع الريح، وكأن كل قطرة دم كانت نبضًا للأرض التي تتحدث بلغة صامتة.
الجبال هنا لم تكن مجرد ملجأ مادي، بل أمًا أخرى تحتضن جراحنا النفسية والجسدية، كأن كل صخرة كانت يدًا دافئة تمسح دموعنا الصامتة التي لم نجرؤ على إظهارها، محاطة بغيوم بيضاء تعانق قممها كأرواح متصالحة مع مصيرها، وكأن كل غيمة كانت مرآة تعكس أحلامنا الضائعة التي نرفض نسيانها.
كنا ننام على صخور دافئة ببطء، كأنها تحاول تعويضنا عن دفء البيوت التي سلبت منا بقوة الظلم، مع خرير جدول يتسلل كأنغام تُغني للروح المرهقة، وكأن كل نقرة ماء كانت دعوة للراحة التي افتقدناها، وكأنها كانت تُغني لنا أناشيد بديلة عن أغاني الأمهات التي تلاشت مع ريح المنفى.
الرجل في الزنزانة المقابلة كان يهمس باسم ابنته ‘نيشتمان’، صوتًا رقيقًا يخرج من فم جاف كأنه يحمل أملًا أخيرًا في عالم مظلم، لكن بعد أسبوع، صار الهمس أنينًا يمزج بين الألم الحاد والحنين العميق، ثم صمتًا مطبقًا كأن الروح تخلت عنه وتركته وحيدًا، وكأن كل همسة كانت صرخة محاصرة في الزمن الذي لا يرحم.
لكن اسم ‘نيشتمان’ بقي عالقًا في الرواق كفراشة علّقها الإعدام بدبابيس من حديد، كأنه رمز لكل الأرواح التي رحلت وتركت أصداءها تتردد في الهواء، وكأن هذا الصدى كان يرافقني إلى حضن الجبل حيث وجدت ملاذًا من عذاب السجن الذي لا ينتهي، حيث كانت كل صخرة تحمل نبضًا خفيًا للحياة التي كادت أن تنطفئ.
الجبل، بروح زردشت التي تراقب الزمن بصمت حكيم ووديانه كأحضان تُعانق الأسرار العميقة، كان كائنًا أسطوريًا يهمس بأسرار الموت والخلود كأنه يروي حكايات قديمة، محاطًا بأشجار ذات أوراق نارية تلمع كشعلة حياة في الظلام الدامس، وكأن كل ورقة كانت شعلة تضيء الطريق نحو الحرية المفقودة. انضممت إلى الپێشمەرگە، لم يكونوا مقاتلين عاديين فحسب، بل حراسًا لأسطورة تتهاوى تحت ضربات الزمن كأنهم يحمون كتابًا قديمًا من الاندثار في مواجهة العواصف، والسلاح في يدي لم يكن مجرد حديد بارد بل قلمًا يكتب حريتي بكلمات من نار، كأنه امتداد لروحي المتعبة التي وجدت فيه ملجأً من عاصفة الزمن القاسية، وكأن كل رصاصة كانت كلمة في قصيدة المقاومة التي لا تسكت.
كانت رائحة الأرض الرطبة تختلط برائحة البارود كعطر يمزج بين الحياة النابضة والموت القريب، وصوت الريح كان يحمل أناشيد غير مرئية تتردد في الفضاء، مصحوبًا بغناء القبج وصهيل اليمامة في الغابات كأنهما يصحبان الروح في رحلتها، وكأن كل صوت كان يحمل رسالة من الطبيعة تدعو للصمود في وجه الظلم.
الطبيعة نفسها كانت تغني معنا كرقصة وجودية تتحدى الموت، حيث كانت كل نسمة هواء تحمل ذكرى لأرض أصبحت أسطورة في أذهاننا.
هناك، في حضن الجبل الذي كان يبدو ككائن حي يتنفس معنا بنبض متزامن، التقيت أصدقاء طفولتي: سمكو، الذي كان يملأ شقلاوة بضحكته كنهر يروي الصحراء القاحلة بماء الحياة، لكنه الآن تحول إلى صدى يتردد في وادي العدم كأنه يغني قصيدة مفقودة لم تُكتب، كما كتب محمود درويش: “سنبقى نغني” كتعويذة ضد النسيان الذي يهدد وجودنا؛ كاروان، قلب جبلي صلب كالصخور التي تحمي الوديان، تحول إلى حجر يبكي تاريخًا منسيًا كأنه نصب تذكاري للصمت الذي فرض علينا، يحمل وجع الجبال في كل شقوق وجهه المتعب؛ ومشير، عيناه نجمتان تشتعلان بالأمل كشعلتين في ليل قارس يلف الروح، لكنهما انطفئتا كشعلة في عاصفة حين أُصيب بجروح قاتلة، تاركًا نظرة أخيرة كرسالة من العدم إلى العالم، كأنها ترجوني أن أحمل ذكراه إلى الأجيال. كان لقاؤنا كرقصة تذوب في دموع صامتة، كأن الزمن تجمد في حضن الجبال كلوحة سريالية تتكرر في الذاكرة، وذكرى ألعابنا تحت أشجار الجوز صارت أناشيدًا للموت الجميل الذي نتقبله، كأن كل ضحكة كانت نبوءة لما سيأتي من مصاعب، وكأن كل لعبة كانت تحمل رمزًا للمقاومة التي نشأنا عليها.
هذا الجبل، كما يقول الشاعر الكبير جگرخوێن، يحمل اسمي تحت حجارته كدليل على وجودي، فالذات هنا ليست كيانًا ثابتًا يقاوم الزمن بل تماهيًا مع الأرض التي ترفض النسيان.
حولنا، وقف المقاتلون القدامى، وجوههم كخرائط فلسفية حفرها الزمن بالتجاعيد والندوب كأنها قصص محفورة في الصخر، عيونهم محافل تحكي ملاحم النضال ضد الظلم المتواصل، كل نظرة تحمل ذكرى معركة أو شهيد كأنها تعكس فكرة هايدغر عن “الكينونة-إلى-الموت” كمواجهة أصيلة مع الوجود.
كانوا كأعمدة حية ترتكز على صدر كوردستان، يحملون في صدورهم ذكرى كل معركة وكل شهيد كأنهم جسور بين الماضي المجيد والمستقبل المجهول، أرواحهم كانت تتنفس مع الجبال في تناغم كوني، كل نفس كان تحية للأرض التي احتضنتهم في أحلك اللحظات. ونغني لأناشيد نوروز كتعويذات ضد النسيان الذي يهدد هويتنا، أصواتنا تتصاعد إلى السماء كدعاء يرفض الاستسلام مهما كانت الظروف، كأنها تتحدى الريح القاسية كرقصة وجودية لا تتوقف، مصحوبة بأنغام الطيور في الغابات وهي تُصغي إلى أحزاننا، كل صوت كان يحمل نبضًا للحياة الضائعة التي نطمح لاستعادتها. هذه الرقصة، كما في ملحمة “مم وزين” لأحمد خاني التي كتبها في القرن السابع عشر، كانت تضحية لتخليد الذات في مواجهة الزوال، حيث القلب الذي يرمى في النهر هو جوهر الهوية الذي يتحدى تيار التاريخ الجارف، كرمز للمقاومة الوجودية التي عاشها الشعب الكوردي عبر العصور.
مشهد سريالي على حدود الواقع
بعد فترة قصيرة في حضن الجبل، أرغمنا النظام البعثي على العودة باستخدام آبائنا كرهائن، أصواتهم المرتجفة عبر الإذاعات كانت سكاكين تُمزق القرار كأن كل كلمة كانت طعنة في قلبي العاري، كأنها تنقلني إلى عالم آخر حيث الواقع والحلم يتداخلان في صراع داخلي، كل صوت كان يحمل وجعًا يشق النفس ويمزق الروح. عدت إلى شقلاوة، لكنها لم تعد المدينة التي تركتها بفرح الطفولة؛ الشوارع التي كانت تمتلئ بضحكات الأطفال وأغاني النساء الناعمة، محاطة بأكواخ طينية تحكي سكون القدماء وتاريخهم، صارت كابوسًا يتحدث بلغة الغرباء الباردة، كأنها تحولت إلى لوحة سريالية مليئة بظلال بلا أجساد تتحرك في صمت، والناس يسيرون كأشباح بلا وجوه تعبر الزمن، عيونهم خالية من الأمل كبرك جافة تحت شمس قاحلة تحرق الأرض، كل خطوة كانت تذكيرًا بما فقدته من براءة وحياة. ذاتي، التي كانت مرآة محطمة تعكس شظايا مني تتفرق في كل اتجاه، أصبحت الآن تعكس وجهًا غريبًا لا أعرفه ولا أرغب في التعرف عليه، كأنني أنظر إلى شخص آخر يحمل ذكرياتي كأثقال تثقل كتفيه المرهقة، أصبحت ظلًا يبحث عن جسد في متاهة الوجود التي لا مخرج منها، حيث كانت كل ذكرى تتحول إلى شبح يلاحقني في الظلام كظل يرفض الرحيل مهما حاولت الهروب. هذا الاغتراب المزدوج، كما يشرحه عالم النفس إريك فروم في تحليله لأزمات الذات، هو فقدان الذات الحقيقية تحت ضغط الصورة التي يفرضها الآخر، حيث وجدت نفسي أنقش أحرف اسمي على الجدران كما فعل الشاعر ھەژار في محاولته للحفاظ على وجوده، قائلاً: “أرقُمُ على الجدار أحرفَ اسمي.. كي لا تبتلعَهُ ذاكرةُ الظلام”، لئلا تُمحى هويتي تحت وطأة الزمن والقمع.
عدت إلى المدرسة، لكنها لم تعد ملاذًا للتعلم والنمو، بل سجنًا جديدًا بجدران تحمل رائحة الخوف كأنها تتنفس ذكريات التعذيب الذي عشته، حيث كانت كل لحظة تذكيرًا بما تركته وراءي في حضن الجبال، وكأن كل ركن كان يحمل صدى لأنين الماضي الذي لا يرحم. زملائي، الذين شاركوني أيام النضال تحت وطأة الظروف القاسية، تحدثوا عن أحلام بعيدة عن الرصاص والسجون المظلمة، كأنهم يعيشون في عالم آخر ينبض بالحياة والأمل بينما أنا أعيش في كهف ظلال يحيط بي من كل جانب، محرومًا من خرير الجداول الذي كان يهدهد أحلامي وأصوات الطيور التي كانت ترافق صباحاتي، وكأن كل ضحكة كانت تذكيرًا ببراءة مفقودة أصبحت ذكرى بعيدة. ضحكاتهم، التي كانت تُشبه صدى المقاومة في الماضي، أصبحت تؤلمني كتذكير بشاب تلاشى مع الرياح القاسية، كأنني أسمع صدى نفسي الضائع يتردد في كل زاوية كأنه يناديني من بعيد في محاولة يائسة، يرجو عودتي إلى زمن مفقود كان يحمل الأمل، حيث كانت كل لحظة تحمل رائحة الأمل الضائع الذي لا أستطيع استعادته. كنت أجلس في الصف، أنظر إلى السبورة وأرى بدلاً منها وجوه الذين سقطوا في المعارك، عيونهم تنظر إليّ كأنها تطلب الخلاص من النسيان، وأسمع صوت التعذيب بدلاً من أنغام القبج التي كانت تطمئنني في الغابات، كأن الزمن تجمد في تلك اللحظات المظلمة كلوحة سريالية تتكرر في ذهني، كل صوت كان يحفر جرحًا جديدًا في الروح العميقة التي تحمل ذكرياتها.
المكتبة: طقوس دفن الذات بين السطور
من هذا الصراع الداخلي المستمر، لجأت إلى الكتب كملاذٍ أخير، ليست هروبًا إلى المعرفة البحتة، بل هروبًا من ذاتي التي أصبحت عبئًا ثقيلًا. من هذا الجسد الذي يحمل ذكريات السجون المظلمة والجبال الشامخة، من هذه الروح التي تشبه مرآة مشظاة تعكس وجوهاً لا أعرفها ولا أريد التعرف عليها، وجوهًا تتقاطع فيها صرخات التعذيب الرهيب مع همسات الجبال الهادئة كأنها لوحة سريالية تُمزج فيها الألم الجسدي بالأمل الروحي، وكأن كل انعكاس كان يحمل صدى لروح محطمة تبحث عن شظايا ذاتها. أقرأ كل شيء يقع تحت يديّ: روايات تذوب كالحلوى المرة على لساني، تاركة طعمًا يشبه رائحة التراب المبلل في شقلاوة بعد المطر، مختلطة بألوان أوراق الاشجار تعانق النسيم في ذاكرتي، كتب فلسفة تحاول تفكيك العالم بأسئلة معقدة بينما أنا لا أفهم نفسي ولا أعرف كيف أجيب عنها، كأن كل صفحة تحمل سؤالًا جديدًا يضيف إلى متاهتي الداخلية التي لا تنتهي، كل سطر كان يفتح جرحًا جديدًا في النفس الحساسة. الكتب كأصدقاء أموات يتحدثون إليّ من بعيد: “دوستويفسكي” يجلس في الزاوية المظلمة ويحدق بي بعينين تعرفان عمق اليأس الذي أعيشه، “كافكا” يهمس من وراء الظل كأنه يروي قصص الزنازين التي عشتها بنفسي، “نيتشه” يضحك ساخرًا كمن يرى عبثية كينونتي في هذا العالم القاسي، وكأن كل ضحكة كانت تعكس مرآة لروحي المتشظية التي لا تجد السلام. أحيانًا، أتخيل أن الكتب تتنفس بحياة خفية، أن صفحاتها تحمل أنفاس أرواح رحلت من هذا العالم، كأنها ترسل إليّ رسائل من عالم آخر مليء بروائح الغابات الخضراء، كل صفحة كانت تحمل همسة من الماضي الذي أفتقده.
لكن حين أغلق الكتاب، يعود الواقع كضربة ساخرة قاسية، كجدار السجن الذي يعود ليحاصرني بذكرياته المؤلمة، محرومًا من خرير الجداول الذي كان يروي روحي وروائح الطبيعة التي كانت تملأ صدري، كل رائحة كانت تذكيرًا بالحرية الضائعة التي لا أستطيع استعادتها. الجدران نفسها، الروائح نفسها—رائحة الرطوبة الممزوجة بدماء الذاكرة كعطر فاسد—والخوف نفسه يتسلل كظل يرفض الرحيل من حياتي، كل ظل كان يحمل شبحًا من الماضي يلاحقني. أحيانًا، أتخيل أن القراءة طقس جنائزي يومي أدفن فيه ذاتي بين السطور كل مرة، علّي أجد نسخة مني لم تُسجن في الظلام، لم تُجرح بأيدي الجلادين، لم تُحطم تحت وطأة التعذيب، نسخة كانت تركض على الطرق الترابية بين القرى بحرية، حيث كانت الأرض تهز أقدامي بنبضها الخفي الذي كان يمنحني الأمل. أدفن ذكرى الفتى الذي كان يركض خلف الفراشات في بستان الجوز بفرح الطفولة، والشاب الذي حمل السلاح في مواجهة الظلم، والرجل الذي صمت في الظلام خوفًا من مصيره، أتركهم يرتاحون بين صفحات “الأخوة كارامازوف” أو “المسخ” كأني أبني لهم قبورًا صغيرة من الورق الأصفر، كل قبر كان محاولة يائسة لاستعادة جزء من الروح الضائعة. لكن حتى في هذه القبور الورقية، أجد روحي لا ترتاح أبدًا؛ فكل سطر يستخرج مني جرحًا جديدًا، الكتب ليست ملاذًا بل مرآة قاسية تعكس تشظيي بلا رحمة، تدعوني لمواجهة ما هربت منه في محاولاتي اليائسة، كل مواجهة كانت صراعًا مع الذات التي أصبحت غريبة عني.
هذه المكتبة، كما في “مكتبة الأطياف” التي تخيلتها ، تحمل سيرًا ذاتية لم تُكتب بعد في أوراقها، حيث الحروف تنزف دمًا إذا نطقت بها بصوت عالٍ، كل صفحة كانت قبرًا لكلمات لا تُدفن بسهولة في النسيان.
الروحانيات: رقصة النور في أعماق الجرح
من هذا الصراع الداخلي المستمر، انتقلت إلى صمت الليل العميق حيث سمعت نداءً يتسلل كنسمة خفيفة من جبل سفين، حيث يكمن كهف “ربان بويا” كمثوى أثري يهمس بأسرار الروح كأنه يروي حكايات قديمة، متشابهًا مع كهف شاندار الذي احتضن أرواحًا قديمة في حضن الصخور قبل آلاف السنين، كل همسة كانت دعوة للتحليق فوق الزمن. ليس الشعر سوى ظلّ للحقيقة المطلقة، كما قلت من قبل مستلهمًا أفكار أفلاطون وهيغل في بحثهما عن المثاليات، فأجد نفسي أمام مرآة كونية تعكس أعمق أسئلتي الوجودية التي لا تكف عن التردد في ذهني، حيث يمتزج الحسّي بالمتعالي والمحدود باللامتناهي في رقصة روحية. لم أعد أرى الجبال كحجارة صامتة بلا حياة، بل كأعمدة نور ترفعني من رماد القيود الحديدية، محاطة بغيوم بيضاء تعانق قممها كأرواح متصالحة مع مصيرها، وجداول تتراقص بخريرها كأناشيد سماوية تهدهد النفس، وكأن كل جدول كان شريانًا للحياة التي بدأت تعود إليّ. يا قلبي، أنتَ لستَ هذا الجسد المثقل بالندوب والأمراض، بل سراج ينتظر لمسة الريح الإلهية ليضيء الظلام من حوله، وكأن كل نبض كان استغاثة بالنور الذي افتقدته.
في هذا الفضاء الصوفي العميق، أدرك أن التصوف الكوردي ليس مجرد مذهب روحي يقتصر على الطقوس، بل أنطولوجيا كاملة تبحث عن الجوهر الخفي عبر المظهر الخارجي، وعن الأزل السرمدي عبر الزمن المتغير، كما لو كانت قصائد ملايي جزيري تذوب فيها الحدود بين الذات الفردية والكون الشاسع. أنا أحب إذن أتجاوز وجودي المحدود، كما يقول الشاعر الصوفي الكوردي في تأمله العميق، في قطيعة معرفية مع العقلانية الغربية التي تبحث عن اليقين المطلق، بينما أنا أبحث عن الحقيقة عبر القلب النابض بالإحساس. الكلمة ليست مجرد علامة لغوية جامدة، بل طاقة كونية حية، والصورة الشعرية ليست أسلوبًا بل رؤية شاملة، والقصيدة ليست نصًا مكتوبًا بل فضاءً ميتافيزيقيًا يحتضن الروح، كل همسة من الجبال كانت دعوة للانصهار في اللامتناهي الذي لا حدود له.
هذا التماهي مع الأرض، كما عبر الشاعر جگرخوێن في قوله: “إذا نسيتُ اسمي، ابحثوا عنه تحت حجارة دياربكر”، يجعل الذات جغرافيا حية تتنفس مع الطبيعة، حيث الجبل يهمس بالثلج النقي الذي يذوب ليصنع نهرًا يغسل الغربة العميقة التي أعيشها، كما قال الشاعر ھێمن في تأمله الروحي العميق.
الان في المنفى، حيث أضواء سيدني تبدو كأغلال من زجاج بارد تلقي بظلالها على روحي، بدأت أرى النجوم ليست كذبة سماوية، بل مرايا تعكس نورًا يسكنني من الداخل، وأتذكر أوراق الأشجار النارية التي كانت تضيء الوديان في كوردستان كشعلة أمل، وكأن كل ورقة كانت شعلة تحمل ذكرى الوطن الذي تركته وراءي.
أغلق عيني، وأرى جبلًا من نور ينبثق من صدري كمصباح يضيء الطريق، يحمل أرواح سمكو ومشير وكاروان وشهدا كوردستان الذين رحلوا، يرقصون كالدراويش حول شمس لا تُطفأ أبدًا، مصحوبين بأنغام اليمامة والقبج كأنها ترنيمة حياة، كل رقصة كانت تسبيحًا للحياة التي ناضلت من أجلها. كل جرح، كل دمعة، لم تكن إلا رذاذًا يروي شجرة الروح التي بدأت تنمو من جديد، كل قطرة كانت تحمل أملًا خفيًا ينبض في الصمت. الجرح هو الطريق إلى الشفاء، كما قال شمس التبريزي في حكمته العميقة، فكل ندبة في جسدي أصبحت نافذة تطل على غيب لا نهائي يمنحني الراحة، وكل نافذة كانت دعوة للتحرر من قيود الزمن.
في كهف “ربان بويا”، أسمع صدى الأرواح القديمة تتردد كأنها ترنيمة تعانق الريح الناعمة، كما لو أن شاندار نفسه يمد يده عبر الزمن ليعلمني أن الروح لا تعرف حدودًا جغرافية أو زمنية، كل صدى كان رسالة من الماضي يحملها إليّ. أجلس في الظلام، أدير دائرة صغيرة كما علمني الرومي في طقوسه الصوفية، وأسمع نبض الأرض يتردد في عظامي كأنه يتحدث إليّ، مصحوبًا بخرير الجداول الخفيفة كأنغام سماوية، كل نبض كان يحمل ذكرى للأرض التي تركتها وراءي في المنفى. الجبال لم تتركني رغم المسافات، بل أصبحت صوتًا يغني في أعماقي: “يا مسافر، لا تخف من الليل القاتم، فالنور ينتظرك في كل خطوة تعبرها”، كل كلمة كانت هدية من الروح التي لا تموت. أرواح الشهداء، تلك التي رقصت فوق تراب كوردستان في أيام النضال، تصبح الآن أنوارًا ترشدني في دروب المنفى، كل صرخة كانت تسبيحًا يعلو إلى السماء، كل دم كان نداءً للمنجاة من الظلم، وكل نور كان وعدًا بالحرية التي طالما حلم بها شعبي.
في تلك اللحظة السوريالية، حيث تذوب الحدود بين الحلم واليقظة في انسجام كوني، المادة والروح في تعانق عميق، الموت والحياة في صراع دائم، أصبحت ككاهن في معبد الكون الشاسع، أرسم بأحرفي أسرار الوجود كما فعل الشاعر “صافي هيراني” في رقصاته الكونية التي تحدت الزمن، وأستحضر الذات الإلهية كطقوس “عبد الله بةشيو” التي جمعت بين الأرض والسماء. الزمن هنا يتحول إلى دائرة لا تنتهي، والمكان إلى وهم يتلاشى مع كل خطوة، والوجود ككتاب شعر مفتوح حيث الذات تتأرجح بين الظهور والاختفاء في حركة دائمة.
أنا لست منفيًا في المعنى التقليدي، بل رحالة في ساحة الروح التي لا تعرف الراحة، حيث القيود تتحول إلى أجنحة تحملني، والظلام إلى مهد للنور الذي أبحث عنه، كل خطوة كانت رحلة نحو الذات، احتفالًا كونيًا بالوجود وتأملاً لا نهائيًا في الأسرار التي تحيط بنا، كما لو كانت رقصة صوفية على حافة العدم الذي يهدد وجودنا.
هذه الذات، كما يقول الفيلسوف بول ريكور في تحليله العميق، هي نفسها كآخر في تناقض دائم، فأنا كوردي بجذوري ومواطن دولة أخرى بجوازي، أتحدث عدة لغات في صراع داخلي، وأعيش تناقض الانتماءات الذي يشكل هويتي.
حوار الروح التائهة والجسم المعذب
من هذا التعانق العميق مع الروحانيات، دار حوار بين جسدي المثقل بالأمراض والألم وروحي التائهة في ليلة هادئة بسيدني، حيث أضواء المدينة تتراقص كأرواح ضائعة تبحث عن مكانها.
الجسم: “أنا من حملك عبر السنين الطويلة، يا روحي العزيزة. السكري ينهش عروقي كالنار التي لا تُطفأ، وأمراض القلب تضرب كالطبول في صدري بقوة لا تُطاق، وضغط الدم يضغط كأنه جبل ثقيل على كاهلي المرهق، والكبد، يا إلهي، يئن تحت وطأة الزمن الذي لا يرحم، والنكبات تنتشر كخريطة حرب على جلدي الذي أصبح سجلاً للمعاناة، والكسور من التعذيب لا تزال تتذكر كل ضربة تلقيتها في الماضي. أنا من عملت النهار والليل بلا كلل، حاملًا أحجار الحياة الثقيلة، حاصدًا الخبز لأبقيك حيًا رغم كل شيء، وها أنا الآن أنهار كشجرة جرداء فقدت أوراقها في الخريف. لماذا تتركينني أعاني وحيدًا في هذا العناء؟”
الروح: “يا جسدي العجوز الصامد، أنا لا أتركك أبدًا، بل أبحث عن ضوء في الظلام الذي ألقيتني فيه بسبب ظروفي. أحلم بجبال كوردستان الشامخة، بأوراق نارية تضيء الوديان كشعلة أمل، وأمنياتي ترقص كالدراويش حول شمس لا تُطفأ مهما طال الظلام. لكن العذاب يلاحقني كظل، ذكريات السجن المظلم، صرخات الشهداء الذين سقطوا، وأحلام تلاشت كالرماد في الريح. أنا تائهة بين الطموح للحرية التي حلمت بها وألم الفقدان الذي يعصرني، أريد أن أطير فوق الجبال، لكن أجنحتي مثقلة بأوزارك التي تحمل ذكريات الماضي.”
الجسم: “طيري إذن، يا روحي، لكن كيف أفعل ذلك؟ عظامي تتكسر كالزجاج الهش تحت ثقل السنين الطويلة، والعمل الشاق تركني كصخرة منهكة لا تقوى على الحركة. كل يوم كان معركة ضارية، كل لقمة خبز كانت انتصارًا صغيرًا، وكل نفس كان صرخة ضد الموت الذي يقترب. لكن الآن، أشعر بالانهيار التام، كأنني لم أعد أستطيع حملك في هذا العناء. ألمك يدميني بقوة، لكن ألمك يقتلني أكثر بمرارة لا تُطاق.”
الروح: “أشعر بك، يا جسدي الحبيب، بنبضك الضعيف الذي لا يهدأ وآهاتك الصامتة التي تخفيها. أحمل أحلامي كثقل يرهقني، لكنها أيضًا نور يضيء طريقنا معًا. أتذكر أيام الشباب، عندما كنت أركض خلف الفراشات بحرية، وأمنيتي كانت أن أرى وطني حرًا من القيود. الآن، أعاني بين هذا الطموح الذي لا يموت وجراحك التي لا تندمل، لكنني أرفض الاستسلام مهما كانت الظروف. دعنا نجد التوازن بيننا، أنا سأعانقك بنوري الخافت، وأنت احتملني بصبرك العميق الذي تعلمته من الجبال.”
الجسم: “التوازن؟ أنا أعاني كل يوم بلا توقف، كل دواء يذوب في دمي كالسم البطيء، وكل خطوة تكلفني أنفاسًا أقل فأقل. لكن إذا كنتِ ترين نورًا في نهاية النفق، فلأحملك قليلًا أكثر بقوة ما تبقى لدي. ربما، في هذا النضال المشترك بيننا، نجد قبرًا للألم الذي يعذبنا أو موطنًا للروح التي تبحث عن الراحة.”
الروح: “نعم، دعنا نرقص معًا، أنا وأنت، كالدراويش حول جبل من نور يضيء طريقنا. كل جرح سيصبح نافذة تطل على الأمل، وكل ألم سيكون خطوة نحو الشفاء الذي ننتظره. لن أتركك أبدًا، وأنت لا تيأس مني مهما طال الزمن. معًا، سنكتب قصة البقاء التي تحمل دموعنا وأحلامنا، حتى لو كانت مكتوبة بالدماء.” في تلك الليلة، شعرت كأن الجبال نفسها سمعت الحوار العميق بيننا، فهزت أغصانها النارية كتعويذة سحرية، وكأن الروح والجسم بدآ يتعانقان في صمت عميق، بحثًا عن سلام في عالم من الجراح التي لا تندمل بسهولة. هذا الصراع، كما عبر الشاعر في استعارته المؤلمة، يجعلني حذاءً ضائعًا يتجول بين الحدود بلا جواز سفر يحميني، لكن الرقص يعيد لي اتجاهي ويمنحني الأمل.
أربعون عامًا في مرآة الزمن ….
من هذا التعانق الروحي، انتقلت إلى سيدني حيث أضواء المدينة تتراقص كأرواح ضائعة تبحث عن مكانها في الفضاء، والضوء الأزرق لتلفاز الجيران يتسلل كسائل مشع يترك بصمة ضبابية على أرضية الشقة التي استأجرتها منذ ثلاثة أشهر وأربعة أيام، أرضية خشبية تبدو كأنها تحمل آثار خطوات أشباح من زمن مفقود تلاشى مع الريح، بعيدًا عن الطرق الترابية بين القرى حيث كانت الأرض تهز أقدامي بنبضها الخفي الذي كان يمنحني القوة. ذلك العدو اللطيف الذي يسرق ظلامي كل ليلة، كنت أحلم برؤيته في زنزانتي كدليل على وجود بشرية خارج جدراني المظلمة، لكنه الآن صار تذكيرًا بأن البشرية قد تكون أكثر برودة من السجن القاسي، كأنه يعكس عالمًا سرياليًا حيث الضوء يحمل الوحدة بدلاً من الأمل الذي افتقدته، وكأن كل وميض كان يحفر جرحًا في النفس الحساسة. ثلاثة أشهر وأربعة أيام من التحديق في سقف لا يختلف كثيرًا عن سقف زنزانتي في أربيل، إلا أنه هذه المرة من اختياري—اختيار يشبه عبءًا وجوديًا أضعه على كتفي كل صباح كجبل صغير ينمو مع كل يوم جديد، محرومًا من غناء الطيور الذي كان يملأ صباحاتي وخرير الجداول الذي كان يهدهدني، وكأن كل صمت كان يزيد من ثقل الروح التي تحمل ذكرياتها.
سيدني، بضجيجها الميكانيكي الذي يشبه أنين آلات حية تعمل بلا توقف وأنوارها الباردة التي تبدو كأنها تجمد الروح في قالب من الزجاج الشفاف، ليست مدينة تستقبلني بأحضان دافئة، بل مرآة تعكس ضياعًا لا أجد له نهاية في أفق بعيد، بعيدًا عن روائح الغابات الخضراء التي كانت تملأ رئتي وألوان الأوراق النارية التي كانت تضيء الوديان في ذاكرتي، وكأن كل رائحة كانت تحمل ذكرى للوطن الذي تركته وراءي. أكتب من أعماق أربعين عامًا من التشظي الداخلي، حيث المنفى هو العيش على حافة الهويات المتعددة، كأنني أعيش بين لغتين متناقضتين: لغة الذاكرة التي تتنفس تراب شقلاوة وروائحها، ولغة الواقع التي تُجبرني على أن أكون “قوة عمل” في آلة رأسمالية لا تعرف الرحمة أو الإنسانية. في أستراليا، تحولت إلى ظل يسير في شوارع لا تعرف اسمي الحقيقي، حيث شجرة الكينا لا تُحدثني كشجرة التوت في بستان أبي التي كانت تحكي لي قصص الطفولة، كل شجرة كانت مرآة تعكس غياب الوطن الذي أفتقده.
في حافلة المدينة، رأيت طفلة تلعب بدميتها ببراءة، فجأة، تحوّلت الدمية في عينيّ إلى حذاء صغير كان يرتديه مشير حين سقط في المعركة، أغلقت عينيّ في محاولة للهروب، لكن صورة الدمية-الحذاء ظلت تطفو كجثة في بحيرة ذاكرتي العميقة، كأن المنفى يحول كل جمال إلى ذكرى مؤلمة تعصر القلب، وكأن كل صورة كانت تذكيرًا بالماضي الضائع الذي لا أستطيع استعادته. أمراضي، كما وصفتها في تحليل النفسي، في قصائد المنفى—السكري الذي ينهش عروقي كالنار التي لا ترحم، أمراض القلب التي تضرب كطبول في صدري بقوة، وضغط الدم الذي يضغط كجبل على كاهلي المثقل، والكبد الذي يئن تحت وطأة الزمن الذي لا يتوقف، والنكبات التي تنتشر كخريطة حرب على جلدي الذي أصبح سجلاً للمعاناة. حين يقيس الطبيب الأسترالي سكري دمي، لا يعرف أنه يقيس حسرتي العميقة على وطن فقدته، كل قرصة إبرة كانت تعكس جرحًا في الروح التي تحمل ذكرياتها، وكأن الجسد أصبح سجلاً أمينًا لمعاناة الوجود كما رأى ألبير كامو في تأملاته الوجودية. هذا الاغتراب المزدوج، كما عبر الشاعر ھەژار في شعره العميق، جعلني أنقش اسمي على جدران المنفى كدليل على وجودي، لئلا تبتلعه الذاكرة التي تحاول محو هويتي.
الأمل، الذي كان يتغذى على أناشيد نوروز وهمسات الجبال كأنه نبض حياة ينبض في صدري، بدأ يذبل هنا كزهرة تُنسى في زاوية مهجورة من الذاكرة، كأن المنفى صار مساحة للصدق في عالم الزيف كما قال الفيلسوف ثيودور أدورنو في نقده للمجتمع الحديث.
أكتب بالكوردية كي لا أنسى جذوري، لكن اللغة نفسها أصبحت منفى أول وأخير كما قال الشاعر أدونيس في تأمله الشعري، حيث كل كلمة تحمل خيانة للوطن الضائع الذي أترك وراءي وخلاصًا في السطور التي أرسمها بدمي. الكتابة، كما علمنا موريس بلانشو في فلسفته، فعل مقاومة ضد النسيان الذي يهدد وجودنا، والذاكرة ليست مجرد حنين عاطفي بل مقاومة نشطة، بنيت وطني في صحيفة “الكورد” كأوراق نارية تضيء الظلام المحيط بي،
كل سطر كان رقصة وجودية تتحدى الزمن. السخرية، كما عند عزيز نسين في أدبه العميق، أصبحت سلاحي ضد العبث الذي أعيشه، حيث أضحك على دور البهلوان الذي ألعبه في هذا العالم الذي لا يرحم.
الهاتف على الطاولة صامت كحجر جامد، لكنه يبدو كشيء حي ينتظر لحظة الإحياء، كأنه يحمل أرواحًا تائهة تنتظر من يوقظها من النوم، كل صمت كان يحمل أملًا خافتًا. في الليلة الماضية، حلمت أنه رن بقوة، وكان صوت سمكو من الجهة الأخرى يقول: “لقد وجدنا المكان المثالي للمخيم، تعالَ نزرع الأمل معًا في الأرض”، صوته يحمل ضحكته القديمة التي كانت تملأ شقلاوة كنهر يروي الصحراء. استيقظت مذعورًا، لكنني وجدت الظلام يحيطني، والهاتف لا يزال صامتًا كجدار السجن القديم. لكن في تلك اللحظة، شعرت كأن الجبال نفسها سمعت حلمي، فهزت صخورها النارية كتعويذة سحرية، و الأمل بدأ يتسلل كنسمة خفيفة من جبل سفين إلى قلبي. أربعون عامًا مرت، لكنني أرفض أن تكون مرآة الزمن شاهدًا على النسيان؛ فأنا أكتب، أنقش اسمي على جدران المنفى كدليل على وجودي، وأحمل ذكرى كل شهيد كشعلة تضيء طريقي، حتى لو كان الطريق يقودني إلى قبري.
خاتمة: أنطولوجيا الجرح والميلاد
من هذه الرحلة عبر الذكريات والمنفى، انتقلت إلى أربعين عامًا مرت كأنها أبدية، أحفر في جسدي المتعب وروحي التائهة بحثًا عن جوهر أصبحت أراه نورًا خافتًا. في ليلة هادئة بسيدني، أغلقت عيني وانسللت في حلم صوفي: أقف على قمة جبل سفين، والريح تحمل أنغام القبج كترانيم إلهية. الجبال، كأعمدة نور، ترفعني، والأكواخ الطينية تروي حكايات الأجداد كأنها صفحات من كتاب مفتوح. أرى أرواح سمكو ومشير وكاروان ترقص كالدراويش حول شمس لا تُطفأ، وكل ندبة في جسدي تتحول إلى نافذة تطل على فضاء ميتافيزيقي حيث تذوب الحدود بين الحلم واليقظة، المادة والروح، الموت والحياة.
في هذا الفضاء السريالي، أصبحت كاهنًا في معبد الكون، أرسم بأحرفي أسرار الوجود كما فعل صافي هيراني، وأستحضر الذات الإلهية كطقوس عبد الله بةشيو. الزمن تحول إلى دائرة، والمكان إلى وهم، والوجود ككتاب شعر مفتوح حيث الذات تتأرجح بين الظهور والاختفاء. الجسد، رغم أمراضه، يحملني كجسر إلى النور، والروح تُضيئه كسراج في الرماد. لم أعد منفيًا، بل حارسًا لأرواح ترفض الفناء، كاتبًا لأشباح تعيش في كل حبة تراب من كوردستان. هذه قصتي، ميلاد مستمر حيث كل جرح سطر في سفر الحرية، وكل دمعة قصيدة تتحدى النسيان، وكل نفس وعد بالعودة في نور لا ينطفئ. كما قال ھەژار، حين تموت لغتي، سأحفر قبري بأظافري، فالقبر وطن أخير للكلمات التي لا تُدفن، وكما قال سارتر، الوجود يسبق الماهية، فأنا أعرف نفسي بالمقاومة لا بالاعتراف.
في النهاية، أترك لكم هذه الدعوة للبدء من جديد، كأننا نتعلم الأبجدية من جديد، ونفتح سقف إنسانيتنا لكل شيء…”
“الولادة من جديد”
حسين خوشناو
هَيَّا، خُذْ نَفَسًا
بُطْءً..
وَالْتَفِتْ إِلى السَّمَاءِ.
اِمْلَأْ عَيْنَيْكَ بِالضِّيَاءِ.
وَافْتَحْ أَبْوَابَ قَلْبِكَ.
حَوِّلْ كُلَّ الأَحْزَانِ وَالآلامِ فِي صَدْرِكَ
إِلَى سَحَابٍ، وَمَطَرٍ، وَثَلْجٍ، وَشَمْسٍ…
اِمْحُ مِنْ قَلْبِكَ
قَسْوَةَ الزَّمَنِ وَالنَّاسِ.
افْتَحْ صَفْحَةً جَدِيدَةً فِي تَارِيخِكَ.
أَعْطِ كَلِمَاتِكَ اسْتِرَاحَةً
وَاخْتَرِ الصَّمْتَ.
دَعْ عَيْنَيْكَ تُغَنِّي أَشْعَارَ الحُبِّ…
لِنَغْدُرْ هُنَاكَ عَلَى ذَاكَ الشَّاطِئِ مَرَّةً أُخْرَى..
لِنَبْدَأَ العَيْشَ مِنْ جَدِيدٍ.
لِنَخُطَّ خُطُوَاتِنَا الأُولَى كَالْوِلْدَانِ..
لِنُعَاشِرَ الحَيَاةَ كَأَنَّنَا نَتَعَلَّمُ الأَبْجَدِيَّةَ..
لِنَفْتَحَ سَمَاءَ إِنْسَانِيَّتِنَا مَرَّةً أُخْرَى
لِكُلِّ شَيْءٍ.
دَعِ الطُّيُورَ، وَالسَّمَكَ، وَالنَّمْلَ، وَالفَرَاشَاتِ
تَرْقُصُ مَرَّةً أُخْرَى فِي شَرَايِينِنَا..
لِنَفْعَلْ ذَلِكَ مَرَّةً أُخْرَى.
لِنُولَدْ مَعًا مِنْ جَدِيدٍ..
 
 
clip_image002 سيرة الاغتراب: حفريات في جسد المنفىclip_image002 سيرة الاغتراب: حفريات في جسد المنفى
 


سيرة الاغتراب: حفريات في جسد المنفى

حسين خوشناو

سيرة الاغتراب: حفريات في جسد المنفى.
سيرة كوردي في زمن العدمية”
ما قبل العاصفة: تحوّلات الذات والمجتمع قبل 1991

Example-A-Roll-Image-1024x793-1
Example-A-Roll-Image-1024x793-1
Example-A-Roll-Image-1024x793-1

https://furatnews.com/Books/mobile/index.html
سيرة الاغتراب: حفريات في جسد المنفى.
“سيرة كوردي في زمن العدمية” حسين خوشناو _ أستراليا

ما قبل العاصفة: تحوّلات الذات والمجتمع قبل 1991

كانت سنوات الثمانينات بالنسبة لنا، نحن الكورد، أشبه بمرحلة الاحتباس الطويل؛ حيث تجمّعت التناقضات الداخلية والخارجية في عمق النفس الكوردية كما تتراكم السحب الداكنة في الأفق قبل أن تُمطر غضبًا. لم يكن السكون الظاهري الذي ساد بعد الحرب العراقية الإيرانية سوى هدنة هشة على جسد اجتماعي ممزق، يحمل في داخله بذور الرفض المتقلب، والغضب المكبوت، والحنين الأبدي إلى ما لم يُنجز بعد من أحلام الوطن. كانت ذاتي الكوردية تعيش لحظة انقسام داخلي مرير: بين الاستسلام للواقع المفروض بالقوة، وبين يقظة خفية تتلمّس طريقها بصعوبة تحت الرماد المتراكم من القمع. في هذا المناخ الضاغط، بدأت تتشكل بذور “الولادة الأولى” لوعيٍ مضطرب، وعيٍ يتلمس طريقه نحو الوجود الحقيقي.
لتحولات لم تكن سياسية فقط، بل اجتماعية ونفسية أيضًا. فالعائلة الكوردية التي اعتادت الصمت والطاعة المطلقة، بدأت تشهد تصدعات عميقة في بنيتها التقليدية، حيث أصبح الأب، رمز الانضباط والطاعة المطلقة، عاجزًا عن تقديم إجابات مقنعة لجيلٍ جديد يرى التناقضات بعيونه المفتوحة، لا من خلال الخوف والتقاليد القديمة. بدأ الأطفال يطرحون أسئلة لم يكن الأهل قادرين على سماعها أو الإجابة عنها، وبدأت الأمهات يهمسن بحقائق مدفونة منذ زمن بعيد، كأنّ الصمت الطويل لم يعُد يحمي أحدًا، ولم يعد له أي معنى. أما النخبة المثقفة، فكانت تعيش ما يشبه الغربة داخل الوطن. المثقف الكوردي صار موزّعًا بين لغة رسمية لا تعبّر عنه، ولغة أمّ مُحرّمة في المدارس. وبين فكر نقدي يُطارد إن نُشر، وحسّ قومي يتّهم بالخيانة إن نُطق به. لكنه رغم ذلك، لم يصمت. كانت القصيدة تكتب سرًّا، والمقال يهرب في جيب مسافر، والخطاب يُدوَّن على حواف دفاتر الرياضيات المدرسية، محاولين نحت فسحة للوعي في عالم ضيق ومُراقَب، مؤكدين أن “الولادة الفكرية” لا يمكن قمعها.
كل شيء كان يشي بأن العاصفة قادمة لا محالة. ليس لأنّنا أردنا الحرب، بل لأننا تعبنا من الصمت القاتل، تعبنا من الوجود المذل الذي اختزلنا إلى مجرد أرقام في قوائم الموت. لم يكن الأمر يتعلق فقط بمعارضة نظام سياسي، بل برغبة حارقة في استعادة المعنى للوجود، في إيجاد مكان تحت الشمس لا يُمنح كصدقة، بل يُنتزع بأيدي الأحرار، وكأنها ضرورة وجودية لا مفر منها تُمهد لـ”ولادة ثالثة” قسرية.
وكان مارس 1991 على الأبواب… في تلك الليالي التي سبقت الانفجار، وبينما كانت الأحلام تختلط بالواقع، كنت أرى في أحلامي حوارًا سرياليًا وميتافيزيقيًا بين الظلمة والنور، بين اليأس والأمل. الظلمة، بصوت أجوف يهز أركان الكون: “لن تستيقظوا أبدًا، فقد نسجتُ الخوف في عروقكم، وزرعتُ اليأس في خلاياكم. أنتم عبيدي الأبديون، محكومون بالعدم والفناء، لا مفر لكم مني.” النور، بصوت خافت ولكنه ثابت كصوت الجبال الشامخة: “ولكن الخوف نفسه سيصبح وقودًا لشمسٍ لا تغيب أبدًا. سينير دروب الثائرين، ويحرق سجونكم. لا قدر إلا ما نصنعه نحن بأنفسنا، بدموعنا وغضبنا وإصرارنا. نحن سنكتب قدرنا بأيدينا. الوجود هو صراع مستمر ضد العدم، وبذرة الأمل تنبت حتى في أرض اليأس، لتُعلن عن ولادة متجددة للروح.” هل كانت هذه الحوارات مجرد أحلام مضطربة من عقل منهك، أم أنها أصداء لوعي جمعي يتشكل في عالم ما وراء الوعي، يتنبأ بالانفجار القادم؟ هل كانت هذه هي حقيقة الوجود، صراع أزلي بين قوى متناقضة، أم مجرد قصيدة شعرية خطّتها يد القدر على صفحات الروح، تنتظر من يقرأها بصوت عالٍ في لحظة تجلي؟
في هذا السياق المشحون بالتوتر الوجودي، حيث كانت الذات الكوردية تتأرجح بين العدم والوجود، يتجلى مفهوم “القلق” الذي تحدث عنه مارتن هايدغر بوصفه جوهر الكينونة البشرية. فالسؤال “من نحن؟” الذي طرحته النفس الكوردية لم يكن مجرد استفسار هوياتي، بل كان مواجهة ميتافيزيقية مع العدم الذي يتربص بالوجود. كما يرى هايدغر، فإن القلق هو حالة أنطولوجية تنبثق عندما يواجه الإنسان هشاشة وجوده، عندما يدرك أن لا شيء يضمن بقاءه سوى إرادته في مواجهة العدم. هذا القلق، الذي تجسد في جلسات الكورد السرية وهمساتهم المحرمة، لم يكن ضعفًا، بل كان بذرة الوعي التي ستؤدي إلى “الولادة الأولى” للذات المقاومة. إن الاغتراب الذي عاشته النفس الكوردية في ظل القمع لم يكن مجرد غربة جغرافية أو سياسية، بل كان اغترابًا وجوديًا، كما وصفه سارتر: حالة يجد فيها الإنسان نفسه ملقىً في عالم لا يعترف به، عالم يفرض عليه هوية زائفة، ويجبره على إعادة صياغة وجوده من خلال الفعل الحر.

في هذا الإطار، يمكن قراءة الصمت الاجتماعي في الثمانينات كفعل مقاومة ضمني، كما لو أن الكورد، في صمتهم، كانوا يحفرون في أعماق أرواحهم ليجدوا معنى لوجودهم. يقول نيتشه: “يجب أن تحمل الفوضى في داخلك لتلد نجمًا راقصًا.” هذه الفوضى الداخلية، التي تجسدت في التناقض بين الاستسلام واليقظة، لم تكن إلا إرهاصات لنجم راقص سيولد في انتفاضة 1991. فالأغاني الحزينة في القرى، والكتب الممنوعة في المدن، والخطابات السرية في المساجد، كلها كانت أشكالًا من التمرد الوجودي، محاولات لتجاوز العدمية التي فرضها النظام. إن هذه الحالة تعكس ما وصفه ألبير كامو بالتمرد: “أتمرد، إذًا أنا موجود.” التمرد هنا لم يكن بعدُ ثورة مسلحة، بل كان تمردًا روحيًا، إصرارًا على البحث عن المعنى في عالم يحاول إلغاء الذات الكوردية.
كذلك، فإن تصدع البنية التقليدية للعائلة الكوردية يعكس مفهوم كيركغور عن “اليأس” كحالة وجودية تنشأ عندما تفقد الذات توازنها بين المحدود واللامحدود. الأب، الذي كان رمزًا للسلطة، وجد نفسه عاجزًا عن تقديم إجابات لجيل يطالب بحرية لا تقبل التأجيل. هذا التصدع لم يكن انهيارًا، بل كان إرهاصًا لولادة جديدة، ولادة وعي جماعي يرفض القبول بالواقع المفروض. إن الهمسات السرية للأمهات، والأسئلة الجريئة للأطفال، والقصائد المكتوبة على هوامش الدفاتر، كلها كانت أفعالًا وجودية تؤكد أن الذات الكوردية، رغم القمع، لا تزال حية، تبحث عن معنى لوجودها في مواجهة العدم. وكما يقول فيكتور فرانكل: “إن من يملك سببًا ليعيش من أجله، يمكنه تحمل أي شيء.” هذا السبب، بالنسبة للكورد، كان الحلم بالحرية، الحلم الذي كان ينبض في صمت الجدران، في الأغاني الحزينة، وفي الكتب الممنوعة، ممهدًا لولادة وعي لا يمكن إخماده.

تحرير كوردستان: قوس الفرح بعد قرن من الظلم

في لحظة تاريخية لا تشبه سواها، لحظة نحتت في صميم الذاكرة الجماعية، انقشعت سُحب الذعر والخذلان التي طالما خنقت أرواحنا، وارتفعت رايات التحرير ترفرف بفخر فوق جبال وسهول كوردستان، كأنها أشرعة سفينة النجاة التي وصلت بعد رحلة محفوفة بالهواجس. المدن تتساقط من قبضة النظام الوحشي واحدة تلو الأخرى، كأنها تخلع عن نفسها عباءة الموت السوداء التي طالما أثقلتها، وتُلقيها بعيداً. كركوك، قدس كوردستان، تلك المدينة التي طالما حلم بها الكورد كحلم مقدس، تتحرر أخيرًا، وتتنفس هواء الانعتاق الحر لأول مرة منذ عقود. من زاخو إلى خانقين، من السليمانية إلى دهوك، من أربيل إلى رانية، يعود الوطن من ليل الغياب الطويل، ويستفيق الكورد على يوم لم يحلموا أن يعيشوه يقظةً، يوماً كتبوه بدمائهم، وعمدوه بالصمود، إنه تجسيد لـ”الولادة العظمى” للوطن.
إنها لحظة الفرح الأكبر منذ قرن كامل من الظلم والقهر؛ لحظة لم يصنعها اتفاق دولي مخادع ولا صفقة سِرّية خلف الستار، بل صيحات الناس الصادقة، أقدام الفقراء العارية التي وطأت أرض الحرية، وأحلام الذين ولدوا في المنافي القاسية والمعتقلات المظلمة والمقابر الجماعية المجهولة. الحرية لم تهبط من السماء كهدية، بل انتُزعت من بين أنياب الوحش الذي افترس حياتنا، بخوف الأمهات الذي تحول إلى قوة لا تُقهر، ودموع الجياع التي أصبحت أنهاراً من العزم، وعزم الشباب الذي لم يرضخوا للسجن ولا المنفى ولا النفي من الحياة، وكأنهم يعيدون تعريف “الوجود” من خلال فعل التحرر ذاته، في “ولادة رابعة” لإرادة شعبية لا تقهر.

في الساحات العامة، تزاحمت الأجساد بفرح لا يُوصف، فرح لم تتسع له الأرض، هتافات تعبر عن مئة عام من الألم المكبوت، تخرج دفعة واحدة كقنبلة ضوئية في ليلٍ قاتم، تنير الأفق. العجائز الذين عاشوا مذبحة “سيميل” و”حلبجة” الكيميائية، يبتسمون لأول مرة ابتسامة حقيقية، كأنهم يرون الوطن يزهر من تحت التراب، ينهض من رماده كطائر الفينيق. الأطفال يركضون بين جدران كانت بالأمس معتقلات مظلمة، واليوم صارت مدارس تفتح أبوابها للحياة والأمل. الشوارع امتلأت بقرع الطبول الحماسي، بزغاريد النساء التي تملأ الفضاء، وبتكبيرات الرجال الذين طالما قُهرت حناجرهم ومنعوا من التعبير، وكأنها لحظة “الولادة الوجودية” التي انتظروها طويلاً، لحظة تتجلى فيها ماهية هذا الشعب.
كوردستان كانت ولّادة للغصة، للأسى، وللموت، والآن صارت تولد من رحمها ثانيةً، ولكن هذه المرة من دون قيد، من دون خوف، ولو للحظة واحدة، مؤكدة على قدرة الروح على التجدد. حتى الهواء صار أخف، حتى الأرض تنفست الصعداء. شعر الناس بأنهم ليسوا مجرد ضيوف على ترابهم، بل أصحاب الحق الحقيقيون في هذه الأرض. امتلأت البيوت بأحاديث الحلم الذي طالما راودنا: سنزرع أرضنا مجدداً، سنبني جامعاتنا الخاصة، سنُعيد منفيينا إلى أحضان الوطن، سنكتب دستورنا بلغتنا الكوردية الأم، وسنُطلق أسماء شهدائنا الأبطال على الأزقة التي كانت تُسمّى بأسماء جلادينا.

هذا الوطن الذي طالما كُتبت خريطته بالدم، يُعاد رسمه بالحب والأمل والعزيمة. لا سجون، لا استخبارات تتربص بنا، لا بعث يطاردنا، لا رجال أمن يطاردون فكرة أو حلماً. لأول مرة، لم يكن هناك فرق بين الكوردي العامل في الحقل، أو الطالب في المدرسة، أو البيشمركة في الجبل. كلهم كانوا أحراراً، وكلهم شعروا أن شيئًا عميقًا تغير في جوهر وجودهم. عادت الحياة، ليس بمعناها البيولوجي فقط، بل بمعناها الكوردي، بمعناها الإنساني العميق. عادت الأغاني المحرّمة، واللغة التي كانت تُقصّ ألسنتها صارت تُدرّس في المدارس. ارتدت الأمهات ثياب الحصاد لا الحداد، وتوقف الوقت في كوردستان للحظة أبدية: لحظة شعور جمعي لم تعرفه هذه الأرض منذ سايكس-بيكو. هنا، يتردد صدى كلمات الشاعر العظيم محمود درويش: “نحن نكتب حياتنا كما نكتب أرضنا”، فهل هذه الكتابة الدموية، هذه الملحمة من الصراع والمعاناة، هي التجسيد الأسمى للوجود والحرية، أم أنها قصيدة لم تُنتهَ بعد، تنتظر منا أن نخط آخر أبياتها بحبر الأمل الذي لا يجف، مؤكدين على أن كل نهاية هي بداية لولادة جديدة؟

لحظة تحرير كوردستان، كما وصفتها، ليست مجرد حدث تاريخي، بل هي تجسيد لما أسماه سارتر “الحرية الوجودية”، تلك الحرية التي لا تُمنح بل تُنتزع من خلال الفعل الواعي. الكورد، في هذه اللحظة، لم ينتظروا موافقة العالم أو هبة من السماء، بل اختاروا أن يكونوا فاعلين في تاريخهم، مؤكدين أن الوجود لا يكتمل إلا عبر الفعل الحر. كما يقول سارتر: “الإنسان محكوم عليه بالحرية”، وهذه الحرية تتطلب مواجهة العبثية، مواجهة عالم لا يقدم ضمانات، بل يترك الإنسان وحيدًا أمام مسؤوليته في صياغة مصيره. إن انتزاع الحرية من أنياب النظام الوحشي كان بمثابة إعلان وجودي: الكورد ليسوا مجرد ضحايا للتاريخ، بل هم صانعوه.
هذه اللحظة تعكس أيضًا مفهوم نيتشه عن “إرادة القوة”، ليس كسلطة على الآخرين، بل كتجاوز للذات، كقدرة على تحويل الألم إلى قوة خلاقة. دموع الجياع التي أصبحت أنهارًا من العزم، وخوف الأمهات الذي تحول إلى قوة لا تُقهر، هي تجسيد لهذه الإرادة. الكورد، في هذه اللحظة، لم يقاوموا فقط نظامًا سياسيًا، بل قاوموا العدمية التي تحاول إلغاء وجودهم، مؤكدين أن الحياة لا تكتسب معناها إلا من خلال الصراع من أجل الحرية. كما يقول كامو: “في مواجهة العبث، التمرد هو السبيل الوحيد لإعطاء الحياة معنى.” الفرح الذي ملأ الساحات، والأغاني التي عادت إلى الشوارع، واللغة التي أُعيدت إلى المدارس، كلها كانت أفعال تمرد وجودي، تأكيد على أن الوجود الكوردي ليس مجرد بقاء بيولوجي، بل هو إصرار على الحياة بمعناها الأعمق.

أما توقف الزمن في تلك اللحظة الأبدية، فهو يذكرنا بمفهوم هايدغر عن “الكينونة في الزمن”. الزمن، في هذا السياق، لم يكن مجرد تسلسل خطي للأحداث، بل كان لحظة تجلي حيث تتجمع الماضي (مذبحة سيميل وحلبجة)، والحاضر (الانتفاضة)، والمستقبل (حلم الدستور والجامعات)، في نقطة واحدة من الوعي الجمعي. هذه اللحظة لم تكن نهاية، بل كانت بداية لولادة جديدة، كما يصفها درويش، حيث تُكتب الحياة كما تُكتب الأرض. إن هذه الكتابة الدموية ليست مجرد سجل للمعاناة، بل هي إعلان ميتافيزيقي عن خلود الروح الكوردية، روح ترفض أن تُمحى من الوجود، وتجد في كل ألم بذرة لتجدد لا نهائي.

الفجر الدامي: كوردستان تستعيد روحها:

يُقال إن كل فجرٍ يحمل في طياته شمسًا لا يعرفها الليل، وإن الأمل يولد من رحم اليأس ذاته. فهل كانت تلك اللحظة التي سبقت فجر الخامس من آذار 1991 مجرد انتظار؟ أم كانت صمتًا كونيًا يتأهب لصرخة وجودية تهز أركان الزمان؟ وكما قال ألبير كامو: “في عمق الشتاء وجدتُ أن في داخلي صيفًا لا يُقهر”. هكذا استيقظنا على موسيقى النار، لا موسيقى تُعزف على آلات، بل على أرواحنا المشتعلة، على قلوبنا التي كانت ترتجف فرحًا وترقبًا. لا أحد دعا إلى الثورة في وضح النهار، لكنها كانت تعرف موعدها، كأن التاريخ قرر فجأة أن يكتب نفسه بلغة جديدة، بلغة الفقراء والمقموعين، بلغة من طحنهم الصمت عقودًا من الزمن. الأزقة الكوردية تنفست بثورة، ورأيتُ جدران البيوت، التي كانت شاهدة على الكثير من الخوف والهمس، ترتجف كأنها تصلي، تهتز طربًا أو رعبًا من هذا التحول العظيم. الناس لم يعودوا أفرادًا متفرقين، كل في زاوية خوفه، بل تحولوا إلى موجٍ صاعدٍ لا يتوقف، حناجر تردد نفس النداء وإن اختلفت اللهجات من قرية لأخرى، من حارة لأخرى: “كفى! كفى الظلم! كفى الصمت!”.

النساء، أولئك اللواتي كن يحملن عبء الوطن على أكتافهن في صمت، خرجن ووجوههن تلمع بدموع الكبرياء، لا بدموع الحزن. كنّ يحملن صور من رحلوا غدرًا، وأسماء من لا يزالون في المجهول، كأنهن يطرزن الذاكرة في الهواء، ينسجن قصص الفقد على قماشة الحرية. من أربيل إلى كركوك، ومن دهوك إلى مدينتي شقلاوة التي كانت تنام طويلًا تحت وطأة الكبت والقمع، رأيت كوردستان كلها تصحو كعذراء تستعيد جسدها بعد سبات إجباري طويل. في كل زاوية، وفي كل مدينة كوردية، كان كل حجر يهتف، وكل نافذة تفتح على قصيدة لم تُكتب بعد، وكل شجرة زيتون تهمس بقصة صمود، وكأن الطبيعة نفسها تشارك في “الولادة الثالثة” لهذه الأرض. الشباب الذين كانوا يُعتقلون بالأمس بتهمة الحلم، مجرد الحلم بوطن حر، صاروا اليوم يقودون الزحف المقدس نحو مراكز الأمن، نحو الجدران التي كانت تُخفي العتمة والقمع. كان الهواء يمتلئ برائحة البارود ممزوجة برائحة التراب الرطب والأمل، رائحة لم أشمها منذ ولدت، رائحة ميلاد جديد.
تحسين النقشبندي، الرائد البعثي الذي كان يسكن وجوهنا كرعب قديم، كابوس يومي لا مفر منه، صار اسمه يُطارد في كل زقاق، يُبصق عليه في الأزقة وكأنه رمز للخيانة والانكسار. مشينا لا نملك شيئًا سوى الغضب المتراكم، الغضب الذي تحول إلى قوة دافعة، لكنه كان كافيًا لتغيير مجرى التاريخ. أسقطنا الصنم، لا بأيدينا فقط، بل بأرواحنا التي احترقت كشموع أبدية في ليلٍ طويل مظلم. كأننا نُعيد تعريف الزمن نفسه: قبل الانتفاضة وبعدها. كأن الجدران التي كانت تسجننا لم تعد تلك الجدران، بل بدأت تتهاوى تحت وقع الخطى الثائرة، لا تحت وقع القذائف، في فعل وجودي للتخلص من الأغلال المادية والروحية.

رأيت أحد رفاقي، وجهه الشاحب محفورٌ فيه الألم، يبكي وهو يُحطم صورة للطاغية المعلقة على جدار مركز الأمن. اقتربت منه، وكنتُ أظنها دموع حزن على السنوات الضائعة، فقلت له: “تبكي؟ بعد كل هذا النصر؟” أجابني بصوت مخنوق بالوجع والفرح، لكن عينيه كانتا تلمعان بضوء غريب، ضوء كوني: “هذه دموع ولادة يا صديقي، لا دموع حزن! أتفهم؟ إنها دموع الوعي المنبثق من العدم، من سنوات الظلام التي قضيناها في دهاليز الخوف واليأس. هل هذا الألم الذي عشناه، كل هذه السنوات من القهر، كان مجرد بذرة لنورٍ كهذا؟ هل كان يجب علينا أن نمر بكل هذا الجحيم لنصل إلى هذه اللحظة من التجلي؟” فهمت حينها أن الحرية لا تأتي على صهوة شعار سياسي أو وعد كاذب، بل على هيئة دمعة تُسقط جدارًا من الخوف المزمن، دمعة تكسر حاجز اللاوعي الجماعي الذي فُرض علينا. الناس لم يعودوا خائفين من الموت، فقد ذاقوا مرارة العيش في موتٍ مستمر، بل صاروا خائفين من الفشل في اغتنام هذه اللحظة التي تأخرت طويلًا، وكأنها لحظة اختيار وجودي بين العدم والبقاء. حتى السماء، تلك الليلة، كانت تمطر نجومًا لا مطرًا، كأنها تحتفل بنا، تشهد على تحرر النفوس من قيدها الميتافيزيقي الذي فرضه الطغاة.

الانتفاضة، في حقيقتها العميقة، لم تكن فقط لحظة سياسية عابرة. كانت طقسًا وجوديًا، عبورًا جماعيًا من العدم إلى المعنى، من حالة اللاوجود إلى قسوة الوعي بالذات. ولدتُ مرة ثالثة: الأولى من رحم أمي، إلى هذا العالم الفاني، وهي ولادة جسدية. الثانية من رحم السجن، حيث تجلى لي معنى الحدود بين الجسد المادي والروح الأبدية، وحيث أدركت أن الحرية هي حالة ذهنية لا مكانية، وهي ولادة وعي بالذات. والثالثة من رحم الانتفاضة، حيث انصهر الفرد في الوعي الجمعي، متسائلًا: هل هذه الولادة المتجددة هي تجسيد للروح الأزلية للشعب التي تأبى الفناء، روح تتجدد كلما حاولت قوى الظلام سحقها، كفراشة تخرج من شرنقة العدم، باحثة عن فضاء تتجلى فيه حقيقة الوجود؟ هذه الولادات المتتالية أكدت لي أن الوجود ليس حالة ثابتة، بل هو سلسلة من التحولات، سلسلة من الموت والبعث، وكلما ظننا أننا وصلنا إلى النهاية، تبرز روحنا من جديد، أقوى وأكثر وعياً بحدودها اللانهائية.

إن هذا الفجر الدامي، بكل ما حمله من تناقض بين الأمل والألم، يعكس مفهوم كيركغور عن “قفزة الإيمان”، تلك اللحظة التي يتجاوز فيها الإنسان حدود الخوف واليأس ليؤكد وجوده من خلال فعل الإيمان بالمعنى الأعلى. الكورد، في هذه اللحظة، لم يقفزوا فقط نحو الحرية السياسية، بل قفزوا نحو تأكيد وجودهم كشعب لا يمكن محوه من خريطة الوجود. هذه القفزة لم تكن خالية من الدماء، بل كانت مشبعة بالتضحيات، كما لو أن كل قطرة دم كانت توقيعًا على وثيقة الوجود الأبدي. يقول كيركغور إن الإيمان يتطلب مواجهة اليأس، وهذا اليأس تجسد في سنوات القمع التي سبقت الانتفاضة، حيث كان الكورد يعيشون في حالة من “المرض حتى الموت”، ليس موتًا جسديًا، بل موتًا روحيًا يفرضه الصمت والخوف.

لكن هذا الفجر كان أيضًا تجسيدًا لفكرة كامو عن “الإنسان المتمرد”. التمرد هنا لم يكن مجرد رفض للنظام السياسي، بل كان رفضًا للعدمية التي تحاول إلغاء الذات الكوردية. النساء اللواتي خرجن بدموع الكبرياء، والشباب الذين قادوا الزحف المقدس، والجدران التي هتفت مع الثوار، كلها كانت أفعال تمرد وجودي، تأكيد على أن الحياة تستحق أن تُعاش فقط عندما تكون حرة. كما يقول كامو: “التمرد يخلق القيمة”، وهذه القيمة تجسدت في إعادة تعريف الزمن نفسه: قبل الانتفاضة وبعدها، كما لو أن الكورد أعادوا كتابة التاريخ ليس فقط كسرد سياسي، بل كسرد ميتافيزيقي يؤكد أن الوجود لا يكتمل إلا من خلال الصراع ضد العدم.
إن دموع الرفيق التي وصفتها ليست مجرد دموع فرح أو حزن، بل هي، كما يصفها هايدغر، تجربة “الدهشة” الأنطولوجية، تلك اللحظة التي يدرك فيها الإنسان عمق وجوده في مواجهة العالم. هذه الدموع كانت تعبيرًا عن وعي جديد، وعي يدرك أن الألم ليس نهاية، بل هو بداية لتجلي جديد. إنها دموع “الولادة الثالثة”، ولادة الوعي الذي يرفض أن يكون ضحية، ويختار أن يكون فاعلاً في مصيره، مؤكدًا أن الوجود الكوردي ليس مجرد رد فعل على الظلم، بل هو فعل إبداعي يعيد صياغة المعنى في عالم يحاول إلغاءه.

يتبع __ الفصل الثاني
او زيارة موقع الفرات لقراءة الفصل كامل:

سيرة الاغتراب: حفريات في جسد المنفى

 سيرة الاغتراب: حفريات في جسد المنفى

سيرة كوردي في زمن العدميةحسين خوشناو _ أستراليا

ما قبل العاصفة: تحوّلات الذات والمجتمع قبل 1991

كانت سHussein-Khoshnow سيرة الاغتراب: حفريات في جسد المنفىنوات الثمانينات بالنسبة لنا، نحن الكورد، أشبه بمرحلة الاحتباس الطويل؛ حيث تجمّعت التناقضات الداخلية والخارجية في عمق النفس الكوردية كما تتراكم السحب الداكنة في الأفق قبل أن تُمطر غضبًا. لم يكن السكون الظاهري الذي ساد بعد الحرب العراقية الإيرانية سوى هدنة هشة على جسد اجتماعي ممزق، يحمل في داخله بذور الرفض المتقلب، والغضب المكبوت، والحنين الأبدي إلى ما لم يُنجز بعد من أحلام الوطن. كانت ذاتي الكوردية تعيش لحظة انقسام داخلي مرير: بين الاستسلام للواقع المفروض بالقوة، وبين يقظة خفية تتلمّس طريقها بصعوبة تحت الرماد المتراكم من القمع. في هذا المناخ الضاغط، بدأت تتشكل بذور “الولادة الأولى” لوعيٍ مضطرب، وعيٍ يتلمس طريقه نحو الوجود الحقيقي.

عادت أحاديث الهوية لتتسلل في الجلسات المغلقة، بين أنفاس الحذر، وبين صمت الجدران التي كانت تحمل أسرارًا. صار السؤال الوجودي “من نحن؟” أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى، سؤال يطرح نفسه في كل لحظة، بعد أن بدا أن الحرب لم تُنهِ فقط الأحلام الوردية، بل أعادت ترتيب المفاهيم الأساسية للوجود والانتماء. فالمقاتل الذي عاد من الجبهة محطّمًا، لم يكن فقط ضحية حرب عبثية لا معنى لها، بل شاهدًا حيًا على هشاشة الانتماء الذي فُرض عليه بالسلاح والدعاية الكاذبة، وكأن الوطن الذي قاتل من أجله لم يكن سوى خديعة كبرى، مُجبرًا إياه على إعادة تقييم جوهر وجوده.

في القرى النائئة، ظلّت الأغاني القديمة تُغنّى في الأعراس، لكنّ نغمتها كانت حزينة أكثر من اللازم، تحمل في طياتها مرارة الغربة والوحدة، وكأنها ترانيم جنائزية لأحلام لم تتحقق. في المدن، صار الشباب يتهامسون عن ثورات بعيدة، وعن تجارب أممٍ نهضت رغم القمع والاضطهاد، وكأنهم يبحثون عن مرآة يرون فيها وجوههم الحرة. كانت الكتب الممنوعة تُتداول بسرية تامة، وتُقرأ كأنها خريطة نجاة روحية، دليل للخروج من الظلام الدامس. حتى المساجد، التي طالما احتُكرت من قبل السلطة لفرض طاعتها وسيادتها، بدأت تشهد خطابًا جديدًا، فيه نَفَسُ مقاومة وإن كان مغلفًا بالورع والكلمات الدينية، كأن الوعي يجد طريقه حتى في أروقة القدسية المقيدة، مُمهدًا لـ”ولادة ثانية” لوعيٍ أكثر جرأة.

التحولات لم تكن سياسية فقط، بل اجتماعية ونفسية أيضًا. فالعائلة الكوردية التي اعتادت الصمت والطاعة المطلقة، بدأت تشهد تصدعات عميقة في بنيتها التقليدية، حيث أصبح الأب، رمز الانضباط والطاعة المطلقة، عاجزًا عن تقديم إجابات مقنعة لجيلٍ جديد يرى التناقضات بعيونه المفتوحة، لا من خلال الخوف والتقاليد القديمة. بدأ الأطفال يطرحون أسئلة لم يكن الأهل قادرين على سماعها أو الإجابة عنها، وبدأت الأمهات يهمسن بحقائق مدفونة منذ زمن بعيد، كأنّ الصمت الطويل لم يعُد يحمي أحدًا، ولم يعد له أي معنى. أما النخبة المثقفة، فكانت تعيش ما يشبه الغربة داخل الوطن. المثقف الكوردي صار موزّعًا بين لغة رسمية لا تعبّر عنه، ولغة أمّ مُحرّمة في المدارس. وبين فكر نقدي يُطارد إن نُشر، وحسّ قومي يتّهم بالخيانة إن نُطق به. لكنه رغم ذلك، لم يصمت. كانت القصيدة تكتب سرًّا، والمقال يهرب في جيب مسافر، والخطاب يُدوَّن على حواف دفاتر الرياضيات المدرسية، محاولين نحت فسحة للوعي في عالم ضيق ومُراقَب، مؤكدين أن “الولادة الفكرية” لا يمكن قمعها.

كل شيء كان يشي بأن العاصفة قادمة لا محالة. ليس لأنّنا أردنا الحرب، بل لأننا تعبنا من الصمت القاتل، تعبنا من الوجود المذل الذي اختزلنا إلى مجرد أرقام في قوائم الموت. لم يكن الأمر يتعلق فقط بمعارضة نظام سياسي، بل برغبة حارقة في استعادة المعنى للوجود، في إيجاد مكان تحت الشمس لا يُمنح كصدقة، بل يُنتزع بأيدي الأحرار، وكأنها ضرورة وجودية لا مفر منها تُمهد لـ”ولادة ثالثة” قسرية.

وكان مارس 1991 على الأبواب… في تلك الليالي التي سبقت الانفجار، وبينما كانت الأحلام تختلط بالواقع، كنت أرى في أحلامي حوارًا سرياليًا وميتافيزيقيًا بين الظلمة والنور، بين اليأس والأمل. الظلمة، بصوت أجوف يهز أركان الكون: “لن تستيقظوا أبدًا، فقد نسجتُ الخوف في عروقكم، وزرعتُ اليأس في خلاياكم. أنتم عبيدي الأبديون، محكومون بالعدم والفناء، لا مفر لكم مني.” النور، بصوت خافت ولكنه ثابت كصوت الجبال الشامخة: “ولكن الخوف نفسه سيصبح وقودًا لشمسٍ لا تغيب أبدًا. سينير دروب الثائرين، ويحرق سجونكم. لا قدر إلا ما نصنعه نحن بأنفسنا، بدموعنا وغضبنا وإصرارنا. نحن سنكتب قدرنا بأيدينا. الوجود هو صراع مستمر ضد العدم، وبذرة الأمل تنبت حتى في أرض اليأس، لتُعلن عن ولادة متجددة للروح.” هل كانت هذه الحوارات مجرد أحلام مضطربة من عقل منهك، أم أنها أصداء لوعي جمعي يتشكل في عالم ما وراء الوعي، يتنبأ بالانفجار القادم؟ هل كانت هذه هي حقيقة الوجود، صراع أزلي بين قوى متناقضة، أم مجرد قصيدة شعرية خطّتها يد القدر على صفحات الروح، تنتظر من يقرأها بصوت عالٍ في لحظة تجلي؟

في هذا السياق المشحون بالتوتر الوجودي، حيث كانت الذات الكوردية تتأرجح بين العدم والوجود، يتجلى مفهوم “القلق” الذي تحدث عنه مارتن هايدغر بوصفه جوهر الكينونة البشرية. فالسؤال “من نحن؟” الذي طرحته النفس الكوردية لم يكن مجرد استفسار هوياتي، بل كان مواجهة ميتافيزيقية مع العدم الذي يتربص بالوجود. كما يرى هايدغر، فإن القلق هو حالة أنطولوجية تنبثق عندما يواجه الإنسان هشاشة وجوده، عندما يدرك أن لا شيء يضمن بقاءه سوى إرادته في مواجهة العدم. هذا القلق، الذي تجسد في جلسات الكورد السرية وهمساتهم المحرمة، لم يكن ضعفًا، بل كان بذرة الوعي التي ستؤدي إلى “الولادة الأولى” للذات المقاومة. إن الاغتراب الذي عاشته النفس الكوردية في ظل القمع لم يكن مجرد غربة جغرافية أو سياسية، بل كان اغترابًا وجوديًا، كما وصفه سارتر: حالة يجد فيها الإنسان نفسه ملقىً في عالم لا يعترف به، عالم يفرض عليه هوية زائفة، ويجبره على إعادة صياغة وجوده من خلال الفعل الحر.

في هذا الإطار، يمكن قراءة الصمت الاجتماعي في الثمانينات كفعل مقاومة ضمني، كما لو أن الكورد، في صمتهم، كانوا يحفرون في أعماق أرواحهم ليجدوا معنى لوجودهم. يقول نيتشه: “يجب أن تحمل الفوضى في داخلك لتلد نجمًا راقصًا.” هذه الفوضى الداخلية، التي تجسدت في التناقض بين الاستسلام واليقظة، لم تكن إلا إرهاصات لنجم راقص سيولد في انتفاضة 1991. فالأغاني الحزينة في القرى، والكتب الممنوعة في المدن، والخطابات السرية في المساجد، كلها كانت أشكالًا من التمرد الوجودي، محاولات لتجاوز العدمية التي فرضها النظام. إن هذه الحالة تعكس ما وصفه ألبير كامو بالتمرد: “أتمرد، إذًا أنا موجود.” التمرد هنا لم يكن بعدُ ثورة مسلحة، بل كان تمردًا روحيًا، إصرارًا على البحث عن المعنى في عالم يحاول إلغاء الذات الكوردية.

كذلك، فإن تصدع البنية التقليدية للعائلة الكوردية يعكس مفهوم كيركغور عن “اليأس” كحالة وجودية تنشأ عندما تفقد الذات توازنها بين المحدود واللامحدود. الأب، الذي كان رمزًا للسلطة، وجد نفسه عاجزًا عن تقديم إجابات لجيل يطالب بحرية لا تقبل التأجيل. هذا التصدع لم يكن انهيارًا، بل كان إرهاصًا لولادة جديدة، ولادة وعي جماعي يرفض القبول بالواقع المفروض. إن الهمسات السرية للأمهات، والأسئلة الجريئة للأطفال، والقصائد المكتوبة على هوامش الدفاتر، كلها كانت أفعالًا وجودية تؤكد أن الذات الكوردية، رغم القمع، لا تزال حية، تبحث عن معنى لوجودها في مواجهة العدم. وكما يقول فيكتور فرانكل: “إن من يملك سببًا ليعيش من أجله، يمكنه تحمل أي شيء.” هذا السبب، بالنسبة للكورد، كان الحلم بالحرية، الحلم الذي كان ينبض في صمت الجدران، في الأغاني الحزينة، وفي الكتب الممنوعة، ممهدًا لولادة وعي لا يمكن إخماده.

 

تحرير كوردستان: قوس الفرح بعد قرن من الظلم

في لحظة تاريخية لا تشبه سواها، لحظة نحتت في صميم الذاكرة الجماعية، انقشعت سُحب الذعر والخذلان التي طالما خنقت أرواحنا، وارتفعت رايات التحرير ترفرف بفخر فوق جبال وسهول كوردستان، كأنها أشرعة سفينة النجاة التي وصلت بعد رحلة محفوفة بالهواجس. المدن تتساقط من قبضة النظام الوحشي واحدة تلو الأخرى، كأنها تخلع عن نفسها عباءة الموت السوداء التي طالما أثقلتها، وتُلقيها بعيداً. كركوك، قدس كوردستان، تلك المدينة التي طالما حلم بها الكورد كحلم مقدس، تتحرر أخيرًا، وتتنفس هواء الانعتاق الحر لأول مرة منذ عقود. من زاخو إلى خانقين، من السليمانية إلى دهوك، من أربيل إلى رانية، يعود الوطن من ليل الغياب الطويل، ويستفيق الكورد على يوم لم يحلموا أن يعيشوه يقظةً، يوماً كتبوه بدمائهم، وعمدوه بالصمود، إنه تجسيد لـ”الولادة العظمى” للوطن.

إنها لحظة الفرح الأكبر منذ قرن كامل من الظلم والقهر؛ لحظة لم يصنعها اتفاق دولي مخادع ولا صفقة سِرّية خلف الستار، بل صيحات الناس الصادقة، أقدام الفقراء العارية التي وطأت أرض الحرية، وأحلام الذين ولدوا في المنافي القاسية والمعتقلات المظلمة والمقابر الجماعية المجهولة. الحرية لم تهبط من السماء كهدية، بل انتُزعت من بين أنياب الوحش الذي افترس حياتنا، بخوف الأمهات الذي تحول إلى قوة لا تُقهر، ودموع الجياع التي أصبحت أنهاراً من العزم، وعزم الشباب الذي لم يرضخوا للسجن ولا المنفى ولا النفي من الحياة، وكأنهم يعيدون تعريف “الوجود” من خلال فعل التحرر ذاته، في “ولادة رابعة” لإرادة شعبية لا تقهر.

في الساحات العامة، تزاحمت الأجساد بفرح لا يُوصف، فرح لم تتسع له الأرض، هتافات تعبر عن مئة عام من الألم المكبوت، تخرج دفعة واحدة كقنبلة ضوئية في ليلٍ قاتم، تنير الأفق. العجائز الذين عاشوا مذبحة “سيميل” و”حلبجة” الكيميائية، يبتسمون لأول مرة ابتسامة حقيقية، كأنهم يرون الوطن يزهر من تحت التراب، ينهض من رماده كطائر الفينيق. الأطفال يركضون بين جدران كانت بالأمس معتقلات مظلمة، واليوم صارت مدارس تفتح أبوابها للحياة والأمل. الشوارع امتلأت بقرع الطبول الحماسي، بزغاريد النساء التي تملأ الفضاء، وبتكبيرات الرجال الذين طالما قُهرت حناجرهم ومنعوا من التعبير، وكأنها لحظة “الولادة الوجودية” التي انتظروها طويلاً، لحظة تتجلى فيها ماهية هذا الشعب.

كوردستان كانت ولّادة للغصة، للأسى، وللموت، والآن صارت تولد من رحمها ثانيةً، ولكن هذه المرة من دون قيد، من دون خوف، ولو للحظة واحدة، مؤكدة على قدرة الروح على التجدد. حتى الهواء صار أخف، حتى الأرض تنفست الصعداء. شعر الناس بأنهم ليسوا مجرد ضيوف على ترابهم، بل أصحاب الحق الحقيقيون في هذه الأرض. امتلأت البيوت بأحاديث الحلم الذي طالما راودنا: سنزرع أرضنا مجدداً، سنبني جامعاتنا الخاصة، سنُعيد منفيينا إلى أحضان الوطن، سنكتب دستورنا بلغتنا الكوردية الأم، وسنُطلق أسماء شهدائنا الأبطال على الأزقة التي كانت تُسمّى بأسماء جلادينا.

هذا الوطن الذي طالما كُتبت خريطته بالدم، يُعاد رسمه بالحب والأمل والعزيمة. لا سجون، لا استخبارات تتربص بنا، لا بعث يطاردنا، لا رجال أمن يطاردون فكرة أو حلماً. لأول مرة، لم يكن هناك فرق بين الكوردي العامل في الحقل، أو الطالب في المدرسة، أو البيشمركة في الجبل. كلهم كانوا أحراراً، وكلهم شعروا أن شيئًا عميقًا تغير في جوهر وجودهم. عادت الحياة، ليس بمعناها البيولوجي فقط، بل بمعناها الكوردي، بمعناها الإنساني العميق. عادت الأغاني المحرّمة، واللغة التي كانت تُقصّ ألسنتها صارت تُدرّس في المدارس. ارتدت الأمهات ثياب الحصاد لا الحداد، وتوقف الوقت في كوردستان للحظة أبدية: لحظة شعور جمعي لم تعرفه هذه الأرض منذ سايكس-بيكو. هنا، يتردد صدى كلمات الشاعر العظيم محمود درويش: “نحن نكتب حياتنا كما نكتب أرضنا”، فهل هذه الكتابة الدموية، هذه الملحمة من الصراع والمعاناة، هي التجسيد الأسمى للوجود والحرية، أم أنها قصيدة لم تُنتهَ بعد، تنتظر منا أن نخط آخر أبياتها بحبر الأمل الذي لا يجف، مؤكدين على أن كل نهاية هي بداية لولادة جديدة؟

لحظة تحرير كوردستان، كما وصفتها، ليست مجرد حدث تاريخي، بل هي تجسيد لما أسماه سارتر “الحرية الوجودية”، تلك الحرية التي لا تُمنح بل تُنتزع من خلال الفعل الواعي. الكورد، في هذه اللحظة، لم ينتظروا موافقة العالم أو هبة من السماء، بل اختاروا أن يكونوا فاعلين في تاريخهم، مؤكدين أن الوجود لا يكتمل إلا عبر الفعل الحر. كما يقول سارتر: “الإنسان محكوم عليه بالحرية”، وهذه الحرية تتطلب مواجهة العبثية، مواجهة عالم لا يقدم ضمانات، بل يترك الإنسان وحيدًا أمام مسؤوليته في صياغة مصيره. إن انتزاع الحرية من أنياب النظام الوحشي كان بمثابة إعلان وجودي: الكورد ليسوا مجرد ضحايا للتاريخ، بل هم صانعوه.

هذه اللحظة تعكس أيضًا مفهوم نيتشه عن “إرادة القوة”، ليس كسلطة على الآخرين، بل كتجاوز للذات، كقدرة على تحويل الألم إلى قوة خلاقة. دموع الجياع التي أصبحت أنهارًا من العزم، وخوف الأمهات الذي تحول إلى قوة لا تُقهر، هي تجسيد لهذه الإرادة. الكورد، في هذه اللحظة، لم يقاوموا فقط نظامًا سياسيًا، بل قاوموا العدمية التي تحاول إلغاء وجودهم، مؤكدين أن الحياة لا تكتسب معناها إلا من خلال الصراع من أجل الحرية. كما يقول كامو: “في مواجهة العبث، التمرد هو السبيل الوحيد لإعطاء الحياة معنى.” الفرح الذي ملأ الساحات، والأغاني التي عادت إلى الشوارع، واللغة التي أُعيدت إلى المدارس، كلها كانت أفعال تمرد وجودي، تأكيد على أن الوجود الكوردي ليس مجرد بقاء بيولوجي، بل هو إصرار على الحياة بمعناها الأعمق.

أما توقف الزمن في تلك اللحظة الأبدية، فهو يذكرنا بمفهوم هايدغر عن “الكينونة في الزمن”. الزمن، في هذا السياق، لم يكن مجرد تسلسل خطي للأحداث، بل كان لحظة تجلي حيث تتجمع الماضي (مذبحة سيميل وحلبجة)، والحاضر (الانتفاضة)، والمستقبل (حلم الدستور والجامعات)، في نقطة واحدة من الوعي الجمعي. هذه اللحظة لم تكن نهاية، بل كانت بداية لولادة جديدة، كما يصفها درويش، حيث تُكتب الحياة كما تُكتب الأرض. إن هذه الكتابة الدموية ليست مجرد سجل للمعاناة، بل هي إعلان ميتافيزيقي عن خلود الروح الكوردية، روح ترفض أن تُمحى من الوجود، وتجد في كل ألم بذرة لتجدد لا نهائي.

 

الفجر الدامي: كوردستان تستعيد روحها

يُقال إن كل فجرٍ يحمل في طياته شمسًا لا يعرفها الليل، وإن الأمل يولد من رحم اليأس ذاته. فهل كانت تلك اللحظة التي سبقت فجر الخامس من آذار 1991 مجرد انتظار؟ أم كانت صمتًا كونيًا يتأهب لصرخة وجودية تهز أركان الزمان؟ وكما قال ألبير كامو: “في عمق الشتاء وجدتُ أن في داخلي صيفًا لا يُقهر”. هكذا استيقظنا على موسيقى النار، لا موسيقى تُعزف على آلات، بل على أرواحنا المشتعلة، على قلوبنا التي كانت ترتجف فرحًا وترقبًا. لا أحد دعا إلى الثورة في وضح النهار، لكنها كانت تعرف موعدها، كأن التاريخ قرر فجأة أن يكتب نفسه بلغة جديدة، بلغة الفقراء والمقموعين، بلغة من طحنهم الصمت عقودًا من الزمن. الأزقة الكوردية تنفست بثورة، ورأيتُ جدران البيوت، التي كانت شاهدة على الكثير من الخوف والهمس، ترتجف كأنها تصلي، تهتز طربًا أو رعبًا من هذا التحول العظيم. الناس لم يعودوا أفرادًا متفرقين، كل في زاوية خوفه، بل تحولوا إلى موجٍ صاعدٍ لا يتوقف، حناجر تردد نفس النداء وإن اختلفت اللهجات من قرية لأخرى، من حارة لأخرى: “كفى! كفى الظلم! كفى الصمت!”.

النساء، أولئك اللواتي كن يحملن عبء الوطن على أكتافهن في صمت، خرجن ووجوههن تلمع بدموع الكبرياء، لا بدموع الحزن. كنّ يحملن صور من رحلوا غدرًا، وأسماء من لا يزالون في المجهول، كأنهن يطرزن الذاكرة في الهواء، ينسجن قصص الفقد على قماشة الحرية. من أربيل إلى كركوك، ومن دهوك إلى مدينتي شقلاوة التي كانت تنام طويلًا تحت وطأة الكبت والقمع، رأيت كوردستان كلها تصحو كعذراء تستعيد جسدها بعد سبات إجباري طويل. في كل زاوية، وفي كل مدينة كوردية، كان كل حجر يهتف، وكل نافذة تفتح على قصيدة لم تُكتب بعد، وكل شجرة زيتون تهمس بقصة صمود، وكأن الطبيعة نفسها تشارك في “الولادة الثالثة” لهذه الأرض. الشباب الذين كانوا يُعتقلون بالأمس بتهمة الحلم، مجرد الحلم بوطن حر، صاروا اليوم يقودون الزحف المقدس نحو مراكز الأمن، نحو الجدران التي كانت تُخفي العتمة والقمع. كان الهواء يمتلئ برائحة البارود ممزوجة برائحة التراب الرطب والأمل، رائحة لم أشمها منذ ولدت، رائحة ميلاد جديد.

تحسين النقشبندي، الرائد البعثي الذي كان يسكن وجوهنا كرعب قديم، كابوس يومي لا مفر منه، صار اسمه يُطارد في كل زقاق، يُبصق عليه في الأزقة وكأنه رمز للخيانة والانكسار. مشينا لا نملك شيئًا سوى الغضب المتراكم، الغضب الذي تحول إلى قوة دافعة، لكنه كان كافيًا لتغيير مجرى التاريخ. أسقطنا الصنم، لا بأيدينا فقط، بل بأرواحنا التي احترقت كشموع أبدية في ليلٍ طويل مظلم. كأننا نُعيد تعريف الزمن نفسه: قبل الانتفاضة وبعدها. كأن الجدران التي كانت تسجننا لم تعد تلك الجدران، بل بدأت تتهاوى تحت وقع الخطى الثائرة، لا تحت وقع القذائف، في فعل وجودي للتخلص من الأغلال المادية والروحية.

رأيت أحد رفاقي، وجهه الشاحب محفورٌ فيه الألم، يبكي وهو يُحطم صورة للطاغية المعلقة على جدار مركز الأمن. اقتربت منه، وكنتُ أظنها دموع حزن على السنوات الضائعة، فقلت له: “تبكي؟ بعد كل هذا النصر؟” أجابني بصوت مخنوق بالوجع والفرح، لكن عينيه كانتا تلمعان بضوء غريب، ضوء كوني: “هذه دموع ولادة يا صديقي، لا دموع حزن! أتفهم؟ إنها دموع الوعي المنبثق من العدم، من سنوات الظلام التي قضيناها في دهاليز الخوف واليأس. هل هذا الألم الذي عشناه، كل هذه السنوات من القهر، كان مجرد بذرة لنورٍ كهذا؟ هل كان يجب علينا أن نمر بكل هذا الجحيم لنصل إلى هذه اللحظة من التجلي؟” فهمت حينها أن الحرية لا تأتي على صهوة شعار سياسي أو وعد كاذب، بل على هيئة دمعة تُسقط جدارًا من الخوف المزمن، دمعة تكسر حاجز اللاوعي الجماعي الذي فُرض علينا. الناس لم يعودوا خائفين من الموت، فقد ذاقوا مرارة العيش في موتٍ مستمر، بل صاروا خائفين من الفشل في اغتنام هذه اللحظة التي تأخرت طويلًا، وكأنها لحظة اختيار وجودي بين العدم والبقاء. حتى السماء، تلك الليلة، كانت تمطر نجومًا لا مطرًا، كأنها تحتفل بنا، تشهد على تحرر النفوس من قيدها الميتافيزيقي الذي فرضه الطغاة.

الانتفاضة، في حقيقتها العميقة، لم تكن فقط لحظة سياسية عابرة. كانت طقسًا وجوديًا، عبورًا جماعيًا من العدم إلى المعنى، من حالة اللاوجود إلى قسوة الوعي بالذات. ولدتُ مرة ثالثة: الأولى من رحم أمي، إلى هذا العالم الفاني، وهي ولادة جسدية. الثانية من رحم السجن، حيث تجلى لي معنى الحدود بين الجسد المادي والروح الأبدية، وحيث أدركت أن الحرية هي حالة ذهنية لا مكانية، وهي ولادة وعي بالذات. والثالثة من رحم الانتفاضة، حيث انصهر الفرد في الوعي الجمعي، متسائلًا: هل هذه الولادة المتجددة هي تجسيد للروح الأزلية للشعب التي تأبى الفناء، روح تتجدد كلما حاولت قوى الظلام سحقها، كفراشة تخرج من شرنقة العدم، باحثة عن فضاء تتجلى فيه حقيقة الوجود؟ هذه الولادات المتتالية أكدت لي أن الوجود ليس حالة ثابتة، بل هو سلسلة من التحولات، سلسلة من الموت والبعث، وكلما ظننا أننا وصلنا إلى النهاية، تبرز روحنا من جديد، أقوى وأكثر وعياً بحدودها اللانهائية.

إن هذا الفجر الدامي، بكل ما حمله من تناقض بين الأمل والألم، يعكس مفهوم كيركغور عن “قفزة الإيمان”، تلك اللحظة التي يتجاوز فيها الإنسان حدود الخوف واليأس ليؤكد وجوده من خلال فعل الإيمان بالمعنى الأعلى. الكورد، في هذه اللحظة، لم يقفزوا فقط نحو الحرية السياسية، بل قفزوا نحو تأكيد وجودهم كشعب لا يمكن محوه من خريطة الوجود. هذه القفزة لم تكن خالية من الدماء، بل كانت مشبعة بالتضحيات، كما لو أن كل قطرة دم كانت توقيعًا على وثيقة الوجود الأبدي. يقول كيركغور إن الإيمان يتطلب مواجهة اليأس، وهذا اليأس تجسد في سنوات القمع التي سبقت الانتفاضة، حيث كان الكورد يعيشون في حالة من “المرض حتى الموت”، ليس موتًا جسديًا، بل موتًا روحيًا يفرضه الصمت والخوف.

لكن هذا الفجر كان أيضًا تجسيدًا لفكرة كامو عن “الإنسان المتمرد”. التمرد هنا لم يكن مجرد رفض للنظام السياسي، بل كان رفضًا للعدمية التي تحاول إلغاء الذات الكوردية. النساء اللواتي خرجن بدموع الكبرياء، والشباب الذين قادوا الزحف المقدس، والجدران التي هتفت مع الثوار، كلها كانت أفعال تمرد وجودي، تأكيد على أن الحياة تستحق أن تُعاش فقط عندما تكون حرة. كما يقول كامو: “التمرد يخلق القيمة”، وهذه القيمة تجسدت في إعادة تعريف الزمن نفسه: قبل الانتفاضة وبعدها، كما لو أن الكورد أعادوا كتابة التاريخ ليس فقط كسرد سياسي، بل كسرد ميتافيزيقي يؤكد أن الوجود لا يكتمل إلا من خلال الصراع ضد العدم.

إن دموع الرفيق التي وصفتها ليست مجرد دموع فرح أو حزن، بل هي، كما يصفها هايدغر، تجربة “الدهشة” الأنطولوجية، تلك اللحظة التي يدرك فيها الإنسان عمق وجوده في مواجهة العالم. هذه الدموع كانت تعبيرًا عن وعي جديد، وعي يدرك أن الألم ليس نهاية، بل هو بداية لتجلي جديد. إنها دموع “الولادة الثالثة”، ولادة الوعي الذي يرفض أن يكون ضحية، ويختار أن يكون فاعلاً في مصيره، مؤكدًا أن الوجود الكوردي ليس مجرد رد فعل على الظلم، بل هو فعل إبداعي يعيد صياغة المعنى في عالم يحاول إلغاءه.

 

 

صوت من أعماق الروح: البيان الإذاعي الأول للثورة

في لحظات التيه الكبرى، حين يُخيم الصمت على الأرواح وتُكمّم الأفواه، يصبح البحث عن صوتٍ، ولو كان همسة، فعلًا وجوديًا بحد ذاته. إنه فعل يتجاوز حدود الصوت ليصبح صرخة حياة ضد العدم ذاته. فهل يمكن لصوتٍ أن يولد من العدم؟ وهل تستطيع الكلمات أن تشق طريقها عبر جدران الخوف لتعلن عن فجرٍ جديد؟ وكما يقول الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر: “اللغة هي بيت الوجود”. فقبل أن تتحقق الحرية كواقع، لا بد من إعلان الوجود ذاته عبر الكلمة، لا بد من الصرخة الأولى التي تكسر حواجز الصمت وتعلن عن ميلاد حقيقة جديدة، حقيقة لا تُمنح، بل تُنتزع وتُعلن بصوت مدوٍ، إنه ميلاد الوعي الصوتي.

بعد ساعات طويلة من الصمت المرعب الذي خنق أنفاسنا، وسط دوي الرصاص وانفجارات القنابل التي كانت تهز الأرض تحت أقدامنا، انبعث صوتٌ من راديو صغير في زاوية مخفية ببيتنا. لم يكن مجرد ترددات هوائية عابرة، بل كان نبضًا حيًا من أعماق الروح الكوردية، إعلانًا وجوديًا عن ولادةٍ جديدة تتجاوز حدود الزمن والمكان. قبل أن تبدأ الكلمات في التدفق، عزف لحنٌ مهيب، لحنٌ يعرفه كل كوردي، لحنٌ يحمل في طياته قرونًا من الألم والأمل، إنه النشيد الوطني الكوردي “ئەی‌ رەقیب” الذي يُصدح به لأول مرة علنًا في الأثير:

ئەی‌ رەقیب ھەر ماوە قەومی کورد زمان نایشکێنێ دانەریی تۆپی زەمان کەس نەڵێ کورد مردووە، کورد زیندووە زیندووە قەت نانەوێ ئاڵا‌کەمان

ارتفعت نغمات النشيد، وكلماته تتسلل إلى كل خلية في جسدي، ليست مجرد أبيات شعرية تُتلى، بل كانت بيانًا فلسفيًا للوجود ذاته، ترياقًا لسموم العدمية التي حاولوا حقنها فينا. “أيها الرقيب، لن يموت شعب الكورد ولغته أبداً / لن تهزمه قوة الزمان / لا يقل أحد إن الكورد ماتوا، الكورد أحياء / أحياء، ولن تسقط رايتنا أبداً.” هذه العبارة لم تكن مجرد إعلان عن الصمود، بل هي تأكيد ميتافيزيقي على خلود الروح الكوردية، وتحدٍ للزمان نفسه. كيف يمكن لزمنٍ، مهما طال، أن يمحو شعبًا يصر على البقاء؟ إنه سؤال الوجود الأعمق: هل يمكن للأمة أن تموت إذا كانت روحها حية؟ والنشيد يجيب بصوت مدوٍ يهز أركان روحي: “لا يقل أحد إن الكورد ماتوا، الكورد أحياء، أحياء، ولن تسقط رايتنا أبداً”. هذه اللازمة المتكررة هي بمثابة تأكيد وجودي مطلق، ترنيمة تتجاوز المهد لتصل إلى اللحد، لتعلن أن الحياة ليست مجرد نفس يخرج ويدخل، بل هي إرادة لا تُقهر في مواجهة العدم والفناء، وهي بمثابة “ولادة خامسة” للوعي الجمعي، ولادة تتجاوز حدود الزمن والموت.

وتابع النشيد، كل كلمة فيه تحمل ثقلًا من المعنى والذاكرة: “نحن أبناء اللون الأحمر والثورة / انظر، ماضينا ملطخ بالدماء.” اللون الأحمر هنا ليس مجرد رمز للثورة، بل هو رمز لدماء الشهداء التي روت أرض الوطن، دماء تحولت من علامة للمأساة إلى وقود للثورة، وإلى جوهر للحياة المتجددة. إنها اعتراف بالألم، لكنه ألمٌ يتحول إلى قوة دافعة، إقرار بأن التاريخ الملطخ بالدماء هو ذاته مصدر القوة للصمود، ودحض لمفهوم العبثية في المعاناة، لأن كل قطرة دم لها معنى وهدف.

ثم عززت الكلمات التالية فلسفة العمل والوجود المكتسب، متحدية السلبية: “شباب الكورد وقفوا بقدم صلبة كالأبطال / ليكتبوا بحياتهم تاج الحياة.” هنا يبرز فلسفة الوجودية الفعلية. فالحياة لا تُمنح، بل تُكتب وتُصنع بالعمل والتضحية. “الوقوف بقدم صلبة” يعني الثبات والمقاومة الفعالة، حتى لو كانت الأرض تهتز تحت الأقدام. “كتابة تاج الحياة بالحياة نفسها” تعني أن معنى الوجود وكرامته لا يأتيان إلا من خلال الفعل البطولي والتضحية، لا بالانتظار السلبي. هذا يُعطي قيمة للذات الفاعلة (شباب الكورد) التي لا تنتظر المصير، بل تصنعه بنفسها، وكأنهم يقولون لفلاسفة القدرية: “قدرنا ليس مكتوباً، بل نُنجزه بفعلنا، وهذه هي ولادة الفاعل الحقيقي.”

بعدها، جاءت الكلمات لتؤكد فلسفة الهوية الجذرية والوطن كدين، في مواجهة التفكك الذي فرضه التاريخ: “نحن أبناء ميديا وكيخسرو / ديننا وإيماننا هو الوطن.” هذا الجزء يعود بنا إلى الجذور التاريخية والأساطير القديمة، يربط الأمة بحضارتها العريقة، ويُعلي من شأن الوطن ليجعله دينًا وإيمانًا، هويةً وجودية لا يمكن التخلي عنها. الوطن هنا ليس مجرد قطعة أرض، بل هو الجوهر الروحي الذي يمنح الحياة معناها ويوحد الأفراد ضمن كيان واحد، ويتجاوز الانتماءات الضيقة. هذه الفلسفة تتحدى فكرة التفكك وتقول إن الولاء للوطن هو أعمق من أي انتماء آخر، إنه جوهر الكيان نفسه الذي تتجدد فيه الروح.

وأخيرًا، جسدت الكلمات فلسفة الفداء المطلق، كاستجابة لليأس الذي يحاول التسلل إلى النفوس: “شباب الكورد دائمًا حاضرون ومستعدون / أرواحهم فداء، فداء، دائمًا فداء.” هذه الأبيات تتحدث عن الاستعداد التام للتضحية القصوى. “فداء، فداء، دائمًا فداء” هو تكرار يشدد على الالتزام المطلق وغير المشروط. إنه يعكس الإيمان بالهدف الأسمى (الوطن والحرية) الذي يستحق بذل الروح. هذه الفلسفة تحارب اليأس بإبراز قوة الإرادة الجماعية والفردية التي لا ترى في الموت نهاية، بل تحولًا إلى رمز للحياة المتجددة، وإلى بذرة تُثمر حرية أبدية، وكأنها تجيب على سؤال العبثية: “لا معنى للعبث إن كان هناك من يفدي نفسه من أجل معنى أكبر“.

بمجرد أن تلاشى لحن النشيد، صدح صوتٌ مألوف، صوت البيشمركة الذي نعرفه جيدًا، صوتٌ كان بالأمس لا يجرؤ على الهمس إلا في الظلام الدامس، يصدح الآن بقوة عبر الأثير، متحديًا كل أشكال القمع والترهيب: “يا جماهير شعب كوردستان الأبيّ… يا أبناء وبنات كوردستان، يا أحفاد الميديين والكاردوخيين، يا أبناء جبال زاكروس وآكري وأرارات وسفين وهلكورد، يا حفدة كاوا الحداد في أرض ميزو، يا أبناء شيخ سعيد بيران في ديار بكر، يا أتباع قلندر في أغري! ها قد آن الأوان لنكسر قيود الظلم والاستبداد، لنقاوم التمييز العنصري الذي لطالما أذلنا وفتك بوجودنا.”

لم تكن الكلمات مجرد أحرف تُنطق، بل كانت سحرًا يوقظ الروح من سباتها العميق، تُعيد تعريف معنى الوجود نفسه في لحظة تجلٍّ لا تُنسى. كل جملة كانت كالنار التي تُشعل في قلوبنا جمرة الأمل، وكأنّ إذاعة الراديو المهترئة تلك، التي كانت تهمس لنا الأخبار بحذر دائم خوفًا من عيون النظام، قد تحولت فجأة إلى منبرٍ كوني، تعلن من خلاله الثورة عن ميلادها الجديد، وتُبث منه رسالة شعبٍ أَبَى أن يموت. كنا نتبادل النظرات، أنا وأهلي، وقلوبنا ترتجف فرحًا لا يُوصف، دموعنا تختلط بالابتسامات والقهقهات الحرة، كأننا نصحو من كابوس طويل الأمد، نُدرك فجأة أن الحلم لم يكن بعيدًا إلى هذا الحد، وأنه بات حقيقة تتجلى أمام أعيننا. كانت تلك الكلمات بمثابة “بيان رقم واحد” لوجودنا الميتافيزيقي، إعلانًا لا عن ثورة سياسية فحسب، بل عن تجلي وجودٍ كامل، عن روحٍ أبت أن تموت، وصوتٍ رفض أن يُكمم. كانت تلك هي اللحظة التي شعرت فيها بأن الوجود لم يعد عبئًا ثقيلًا على كاهلي، بل تحديًا وواجبًا مقدسًا، لحظةً أيقنت فيها أننا لسنا مجرد ضحايا للقدر المحتوم، بل صانعيه بدمائنا وعزيمتنا التي لا تلين.

البيان لم يتوقف عند حدود الماضي، بل رسم خريطة لمستقبلٍ يجب أن يُصنع بالدم والعرق. “من جبال هولير إلى سهول كركوك، من شوارع أربيل إلى أزقة دهوك، ندعوكم للنهوض كالأنهار المتدفقة، كالنسائم التي تحمل أنفاس الشهداء.” كان هذا النداء كدعوة كونية، دعوة من الأرض إلى أبنائها، دعوة من الجبال الشامخة إلى أبناء الجبال، من الأودية العميقة إلى الأرواح التي طالما ارتبطت بها، دعوة للنهوض من غياهب الصمت والخوف الذي خنق أنفاسنا لعقود طويلة. إنه استحضار للقوة الكامنة في الطبيعة الكوردية ذاتها، في الأنهار التي لا تتوقف عن الجريان، وفي النسائم التي تحمل عبير الحرية، وكأنها تقول: “استمدوا قوتكم من الأرض التي أنجبتكم، ومن التاريخ الذي شهد على صمودكم، فأنتم امتداد وجودي لهذه الأرض، وهذا هو سر ولادتكم المتجددة.”

أيها الأحرار، صوت الشهداء يناديكم لمعركة الشرف والكرامة والإنسانية والوجود! اليوم، نرفع السلاح ضد النظام الدكتاتوري، الطاغية الذي سفك دماء أبنائنا في حلبجة في كارثة لا تُغتفر، حيث أودت الغازات السامة بحياة الأبرياء، وحول الأنفال إلى جحيم المقابر الجماعية التي ابتلعت أرواح أكثر من 180,000 مواطن كوردي بريء. دمر 4500 قرية كوردية، تركها أطلالًا تبكي تحت الرماد، وتعامل مع حقوق شعبنا بالنار والحديد، بالرصاص الذي أجهز على الحياة، والإعدامات التي صنعت من جبالنا شاهدًا على العذاب.” كل كلمة في هذا الجزء كانت كطعنة في ذاكرة الألم، تذكيرًا بالوحشية التي لا يمكن نسيانها، تذكيرًا بالجرائم التي تتطلب الثأر لا الانتقام، بل الثأر لوجودنا المهدد. كان ذكر حلبجة والأنفال ليس مجرد استعراض للألم، بل كان مبررًا فلسفيًا للثورة، دليلًا على أن الصمت لم يعد خيارًا، وأن الحياة تحت هذا النظام كانت موتًا بطيئًا. “هذا النظام، بقسوته كالصحراء المحرقة، حول كوردستان إلى سجن مفتوح، جعل من أطفالنا أشباحًا ومن نسائنا أمهات الحزن.” صورة الصحراء المحرقة، السجن المفتوح، الأطفال الأشباح، ونساء الحزن—كلها صور قوية ومؤثرة، ترسم لوحة لمأساة إنسانية عميقة، تدفع السامع إلى الانضمام إلى الثورة، لا كخيار، بل كواجب مقدس لإنقاذ الوجود ذاته.

يا أحرار كوردستان، لتكن أيدينا أقلامًا تكتب الحرية، ولتكن خطواتكم أناشيد تدوي في الوديان. الجبال تناديكم، والأرض ترجوكم، فهيّا نطرد الظلام، نزرع الأمل، ونبني فجرًا جديدًا في أربيل وكركوك. من صوتنا هذا، من إذاعة الشعب، نعلن الانتفاضة: لن يكون هناك استسلام، لن يكون هناك صمت، حتى تعود كوردستان إلى أحضان أبنائها الأحرار!” هذا النداء الختامي كان أقوى ما في البيان، يجمع بين الرمزية والعملية. فالأيدي التي تُصبح أقلامًا تكتب الحرية، والخطوات التي تتحول إلى أناشيد، كلها تعبيرات عن تحول الوجود نفسه إلى فعل مقاومة. “لن يكون هناك استسلام، لن يكون هناك صمت، حتى تعود كوردستان إلى أحضان أبنائها الأحرار!” كانت هذه الكلمات ليست مجرد وعد، بل عهدًا مقدسًا بين الشعب وذاكرته، وبين الأجداد والأحفاد، عهدًا يُكتب بالدم ويُروى بالأمل، مؤكداً على الولادة الأبدية لروح المقاومة.

بمجرد أن تلاشى صوت المذيع تدريجيًا، ليترك مكانه دوي معارك بدأت في الأفق، مختلطًا بصوت المطرب الكوردي شيفان بيروار يصدح بأغنية “واهاتن بيشمركة مة” – “لقد جاءوا أبطالنا البيشمركة” – شعرتُ أن الأرض نفسها تغني لروح المقاومة. الأغنية لم تكن مجرد لحن، بل كانت روحًا تتجسد، دماءً تجري في العروق، إيذانًا ببدء فصل جديد من المقاومة الأبدية، وفصل جديد في سيرة هذه الأمة التي تأبى الفناء.

هل هذه هي حقيقة الوجود، أن تُولد الحرية من رحم المجهول، وأن يُصبح الصوت المقموع هو أول قيثارة تُعزف لحن النصر؟ هل كان هذا البيان الإذاعي، بنشيده الذي يعلو فوق كل صوت، مجرد إعلان سياسي، أم هو شهادة ميتافيزيقية على أن الروح الإنسانية، حين تُدفن تحت ركام القمع، تظل تنبض، وتصنع لنفسها ألف طريق وطريق لترى النور، كأنها تقول للعالم: “حتى في الصمت، أنا موجود، وسأصرخ حتى يسمعني الكون كله”؟ كان هذا الصوت، لحظتها، هو صوت وجودي يتجاوز الحدود، صوتًا يُعيد تعريف ماهية الحياة ذاتها، ويُعلن أن الصمود ليس مجرد خيار، بل هو جوهر البقاء في وجه العدم. هذا البيان، بهذه القوة، لم يترك مجالًا للشك بأن هذا الشعب، حتى بعد كل ما مرّ به من ظلم، لن يرضى بأقل من الوجود الكامل والحرية المطلقة. إنه تأكيد على أن الولادة المتجددة هي عملية مستمرة، كلما ظن العدم أنه انتصر، ولد الوجود من رحم الصرخة.

النص الكوردي للنشيد “ئەی‌ رەقیب”:
ئەی‌ رەقیب ھەر ماوە قەومی کورد زمان
نایشکێنێ دانەریی تۆپی زەمان
کەس نەڵێ کورد مردووە، کورد زیندووە
زیندووە قەت نانەوێ ئاڵا‌کەمان
ئێمە ڕۆڵەی ڕەنگی سوور و شۆڕشین
سەیری کە خوێناوییە ڕابردوومان
کەس نەڵێ کورد مردووە، کورد زیندووە
زیندووە قەت نانەوێ ئاڵا‌کەمان
لاوی کورد ھەستایە سەر‌ پێ وەک دلێر
تا بە خوێن نەخشی بکا تاجی ژیان
کەس نەڵێ کورد مردووە، کورد زیندووە
زیندووە قەت نانەوێ ئاڵا‌کەمان
ئێمە رۆڵەی میدیا و کەیخوسرەوین
دینمان، ئایینمان ھەر نیشتمان
کەس نەڵێ کورد مردووە، کورد زیندووە
زیندووە قەت نانەوێ ئاڵا‌کەمان
لاوی کورد ھەر ‌حازر و ئامادەیە
گیان فیدایە، گیان فیدا، ھەر گیان فیدا
کەس نەڵێ کورد مردووە، کورد زیندووە
زیندووە قەت نانەوێ ئاڵا‌کەمان

بإن البيان الإذاعي الأول، مع نشيد “ئەی‌ رەقیب”، يمثل تجسيدًا لما أسماه هايدغر “اللغة كبيت الوجود”. اللغة هنا لم تكن مجرد وسيلة للتواصل، بل كانت فعلًا أنطولوجيًا يؤكد وجود شعب بأكمله. النشيد، بكلماته التي تتحدى الزمن والعدم، هو ترنيمة وجودية تعلن أن الكورد ليسوا مجرد كيان تاريخي، بل هم كينونة حية ترفض الفناء. كل لازمة في النشيد، “کەس نەڵێ کورد مردووە، کورد زیندووە”، هي تأكيد ميتافيزيقي على خلود الروح الجماعية، كما لو أن الكورد يقاومون ليس فقط النظام السياسي، بل العدم ذاته، ذلك العدم الذي حاول محوهم من الوجود عبر القمع والإبادة.

هذا الصوت، الذي انبعث من راديو صغير، يعكس مفهوم سارتر عن “الفعل الحر” كجوهر الحرية. الكورد، في هذه اللحظة، اختاروا أن يكونوا أحرارًا من خلال إعلان وجودهم عبر الكلمة، متحدين بذلك الصمت الذي فرضته سنوات القمع. كما يقول سارتر: “الحرية ليست شيئًا يُمنح، بل شيء يُمارس.” هذا التمرين للحرية تجسد في الصوت الذي كسر جدران الخوف، في الكلمات التي تحولت إلى أسلحة مقاومة. إن ذكر حلبجة والأنفال في البيان لم يكن مجرد سرد للألم، بل كان، كما يصف فرانكل، محاولة لإيجاد المعنى في المعاناة. المعاناة هنا ليست عبثية، بل هي الوقود الذي أشعل الثورة، الدليل على أن الوجود الكوردي لا يمكن إلغاؤه، لأن كل قطرة دم وكل قرية مدمرة هي شهادة على إرادة الحياة.

إن دعوة البيان للنهوض “كالأنهار المتدفقة” و”النسائم التي تحمل أنفاس الشهداء” هي تعبير ميتافيزيقي عن ارتباط الكورد بالطبيعة كجزء من كينونتهم. هذا الارتباط يذكرنا بفلسفة هايدغر عن “الكينونة في العالم”، حيث الإنسان ليس منفصلاً عن بيئته، بل هو جزء من نسيجها الوجودي. الجبال والأنهار الكوردية ليست مجرد خلفية جغرافية، بل هي شريكة في الصراع، شاهدة على التضحيات، وحاملة لروح الشهداء. هذا البيان، إذن، لم يكن مجرد إعلان سياسي، بل كان طقسًا وجوديًا، تجليًا لروح شعب يرفض أن يكون مجرد ظل في التاريخ، مؤكدًا أن الوجود هو صرخة مستمرة ضد العدم، صرخة تتجدد في كل لحظة مقاومة.

لهيب الانتفاضة: قتال البيشمركة وفلسفة المقاومة

هل يُمكن للضعف أن يولد قوة؟ وهل الألم المتراكم يُصبح وقودًا لثورةٍ لا تلين؟ ربما تكمن الإجابة في تلك اللحظة التي تُدرك فيها الروح أنها لا تملك شيئًا لتخسره سوى قيودها، وأن الوجود ليس إلا صراعاً أبدياً بين النور والظلام، بين العدم الذي يتربص بالروح والوعي الذي يرفض الاستسلام. وكما قال نيتشه، الفيلسوف الذي آمن بقوة الإرادة: “ما لا يقتلني يجعلني أقوى”، هذه المقولة لم تكن مجرد حكمة، بل كانت تجليًا لحقيقة وجودية عشناها بدمائنا. حينما حملت السلاح في يدي، لم تكن يدي ترتجف من الخوف، بل من الحماس المتقد، من لهيب الغضب الذي سرى في عروقي، وكأنها ولادة رابعة للذات، ولادة من رحم الغضب المقدس. وقفت إلى جانب إخواني البيشمركة الشباب، الذين كانوا يواجهون الموت بصدور عارية، كدرع حي لكوردستان، تلك الأرض التي لم نكن نعرف سوى اسمها وحنينها. كانت الانتفاضة شرارة أمل لم نتجرأ على الحلم بها، فجرًا ينبثق من بين رماد الظلم الذي خلفه النظام البائد. غنينا أناشيد الحرية، تلك التي كانت محرمة، وسط دوي الرصاص الذي كان يعزف لحنًا مختلفًا هذه المرة، لحنًا للثورة لا للقمع. وكنت أرى وجوه إخواني مضيئة بالإيمان المطلق بقضيتنا، وكأن كل رصاصة تُطلق، وكل قطرة دم تُسفح، تنحت اسم قريتنا في صدر العدو، وتُرسخ وجودنا على هذه الأرض، مؤكدة على أن الحياة لا تكتمل إلا بالصراع من أجل المعنى، وأن “الولادة المتجددة” تكمن في فعل المقاومة ذاته. الجبال، تلك الحكيمات الصامتات، الشاهدات الأبديات على تاريخنا الطويل من النضال، شهدت تصدينا لجيش النظام البائد في معارك دامية، حيث رقصت الرصاصات كشياطين حقيقية على صدورنا، وانبعثت أنفاس الشهداء كغيوم بيضاء تحمل أرواحهم إلى السماء، تروي حكاياتهم للنجوم. كل طلقة كانت بيتًا في قصيدة المقاومة الخالدة، وكل خطوة تقدمنا بها كانت حفرًا لاسم كوردستان في التراب، بالدم والعرق والأمل الذي لا يموت.

في شقلاوة، حيث كانت البساتين الخضراء تترنح تحت وطأة القصف العشوائي، سقط أهلنا الأبرياء كأوراق نارية تذبل قبل أوانها، تحترق في لهيب لم يختاروه. تذكرت وجوه الأطفال الذين كانوا يلعبون بسعادة في الأزقة قبل أيام قليلة، كيف تحولت ضحكاتهم إلى أنات وأصواتهم إلى صدى في الريح. كل دمعة سالت كانت صرخة مدوية لا يُسمع صداها، وكل جثة سقطت كانت دليلاً لا يقبل الشك على الحياة التي نرفض أن نفقدها، على الوجود الذي نتمسك به. كنا فرحين، نعم، فرحين بظهور فجر جديد، فجر طال انتظاره لقرون. الشوارع غنّت بالثوار، والأطفال رقصوا رقصات الحرية، والرجال رفعوا أسلحتهم المتواضعة كأقلام تكتب تاريخًا جديدًا، تاريخًا خالياً من الخوف. لكن الفرحة كانت كزهرة برية جميلة تنبت في وسط الحقول، سرعان ما تُسحق تحت أقدام الدبابات. طاردنا الجيش من مدننا وقرانا، وحول أرضنا الخضراء إلى أتون جحيم لا يرحم. السلاح لم يكن مجرد حديد أصم، بل قلم نكتب به مقاومة وجودية، لكن الدماء التي سالت بغزارة على تراب شقلاوة، وأنين الأمهات اللواتي شيّعن أبناءهن في صمت دامٍ، كانت تذكيرًا مؤلمًا بأن الفجر الحقيقي يولد دائمًا من رماد الألم، وأن الحرية لها ثمن باهظ، ثمن يعمّق الوعي بالذات وبالوجود.

في عالم حيث تُقاس الحرية بمعاناة الشعوب، وحيث تُباع الأوطان في مزادات المصالح، لا تأتي الحرية كهدية سماوية تُمنح بلا ثمن، بل تُنتزع بثمن غالٍ من الدم والدموع والأرواح. يقول الزعيم الثوري نيلسون مانديلا: “الحرية ليست هبة تُمنح، بل حق يُنتزع بالتضحيات والصمود.” ويؤكد الثائر الأبدي إرنستو تشي جيفارا: “الثورة ليست تفصيلاً صغيرًا في حياة الشعب، بل هي حدث يغير مسار التاريخ، يقلب كل الموازين.” هكذا كانت انتفاضة شعب كوردستان عام 1991، ليست فقط ثورة على الظلم السياسي والاقتصادي، بل تجسيدًا حيًا لحق الشعوب المغلوبة على أمرها في الوجود والكرامة الإنسانية، بعد قرون طويلة من الاضطهاد المنهجي، وخصوصاً منذ “اتفاقية سايكس بيكو” المشؤومة التي قسمت الوطن وأفرغته من حلم الحرية، وحولته إلى حقل معارك يتقاذف فيه الكبار شعوباً صغيرة كأدوات على رقعة الشطرنج العالمية. كان هذا الفصل من تاريخنا لحظة صرخة وجود مدوية، محاولة لاستعادة الإرادة الذاتية بين ركام الألم والخراب، لحظة تجمع فيها النضال والمقاومة في جوهر واحد، اللحظة التي يحين فيها اللقاء الأبدي بين الإنسان وقضيته الوجودية، وكأنها “ولادة خامسة” للوطن من رحم الموت. هذه الانتفاضة، بكل مرارتها وألمها، هي تأكيد على أن الحرية ليست حالة تعطى، بل فعل يستدعي الشجاعة المطلقة، والإرادة الصارمة في اللحظة نفسها التي يعاني فيها الإنسان أشد أنواع العذاب. الحرية هنا ليست مجرد حلم بعيد المنال، بل واقع يجب أن يُصنع بالدم والدموع والعزيمة التي لا تلين. هنا يثور سؤال وجودي عميق، سؤال يطرق أبواب الوعي واللاوعي: كيف يستمر شعب في الوجود حين يُحرم من حقوقه الأساسية كالبشر؟ كيف تكون هناك حياة حقيقية، حياة ذات معنى، بدون حرية؟ الانتفاضة كانت الإجابة الحية على هذا السؤال، كانت فعل وجود جماعي يتحدى الظلم، ويعلن بصوت مدوٍ يهز أركان الكون: “نحن هنا، لن نختفِ.” هذا الإعلان لم يكن مجرد شعار سياسي، بل كان إقرارًا بوجود ميتافيزيقي يتجاوز الحدود المرسومة بالدبابات والأسلاك الشائكة، إقرارًا بأن الروح الكوردية لا يمكن قهرها، وأنها ستبقى ترفرف فوق الجبال كنسرٍ لا يرى في القيد إلا سبيلاً للارتفاع نحو سماء الوجود.

إن قتال البيشمركة، كما وصفته، يتجاوز حدود المعركة العسكرية ليصبح تجسيدًا لفلسفة المقاومة الوجودية. يقول نيتشه: “ما لا يقتلني يجعلني أقوى”، وهذه العبارة تجد صداها في إرادة البيشمركة الذين حولوا ضعفهم المادي إلى قوة روحية لا تُقهر. هذه القوة لم تكن مستمدة من الأسلحة المتطورة أو الدعم الدولي، بل من إيمانهم بأن الوجود الكوردي لا يكتمل إلا من خلال الصراع ضد العدم. هذا الصراع يعكس مفهوم سارتر عن “الوجود يسبق الماهية”، حيث الكورد، من خلال أفعالهم المقاومة، يعيدون صياغة ماهيتهم كشعب حر، لا كضحايا للتاريخ. كل رصاصة أطلقها البيشمركة كانت فعلًا وجوديًا، تأكيدًا على أن الحرية ليست شيئًا يُمنح، بل شيء يُصنع بالدم والعرق.

كلام الشاب البيشمركة عن الحياة بلا كرامة كالموت الحقيقي يعكس مفهوم كامو عن “التمرد” كجوهر الحياة. التمرد هنا ليس مجرد رفض للقمع السياسي، بل هو رفض للعدمية التي تحاول إقناع الإنسان بأن وجوده لا معنى له. البيشمركة، بابتساماتهم رغم الجروح، وبأحلامهم رغم النيران، كانوا يؤكدون أن الحياة تستحق أن تُعاش فقط عندما تكون فعلًا مقاومًا، فعلًا يتحدى العبثية ويمنح الوجود معنى. هذه الفلسفة تجد صداها أيضًا في كلام فرانكل، الذي يرى أن المعاناة تصبح محتملة عندما يكون لها معنى. بالنسبة للبيشمركة، المعنى كان الحرية، الحلم بوطن يعيش فيه الأطفال دون خوف، واللغة الكوردية تُدرّس بحرية، والأرض تُزرع دون قصف.

إن هذا الصراع بين رؤيتين للوجود يذكرنا بمفهوم هايدغر عن “الكينونة نحو الموت”. البيشمركة، بمواجهتهم الموت يوميًا، لم يكونوا يهربون منه، بل كانوا يعيشون وجودهم بكامل أصالته، مدركين أن الموت ليس نهاية، بل جزء من الكينونة البشرية. هذا الوعي بالموت جعلهم أكثر حرية، لأنهم تخلصوا من الخوف الذي يقيد الآخرين. كل شهيد سقط كان بمثابة تأكيد على أن الوجود الكوردي لا يمكن إلغاؤه، لأن الروح التي تقاوم لا تموت، بل تتجدد في أحلام الأجيال القادمة. هذه الفلسفة تجعل من البيشمركة ليس فقط مقاتلين، بل شعراء الوجود، يكتبون قصيدة الحرية بدمائهم، مؤكدين أن الوجود هو فعل إبداعي يتحدى العدم في كل لحظة.

 

معركة كۆڕێ: نقطة تحول في مسيرة النضال

يُقال إن التاريخ يكتبه المنتصرون، لكن في بعض الأحيان، يكتبه الصامدون، أولئك الذين يحولون الهزيمة إلى بداية جديدة، ورماد الألم إلى فجرٍ آخر. فهل كانت معركة كۆڕێ مجرد صدام عسكري؟ أم كانت لحظة وعي جماعي، تجلت فيها إرادة الوجود بعد قرون من الإنكار؟ وكما قال تشي جيفارا، الملهم الثوري: “الثورة ليست تفاحًا يسقط عندما ينضج. عليك أن تجعله يسقط”. هذه الكلمات لم تكن مجرد نظرية، بل كانت جوهر فعلنا في كۆڕێ. مع تصاعد هجوم النظام، وبعد الانتفاضة وتحرير كركوك، لم ييأس شعبنا. جيش صدام، بكل ثقله من طائرات ودبابات، هاجم كوردستان وسيطر على كركوك وأربيل ومصيف صلاح الدين، ثم اتجه نحو مدينتي شقلاوة. في بوابة شقلاوة، تحديداً في قرية كۆڕێ، جرت معركة شرسة ومواجهة دامية بين أبطال البيشمركة وجيش النظام، معركة لم تكن مجرد صدام عسكري، بل كانت تجسيدًا فلسفيًا لإرادة الحياة، و”ولادة سادسة” لمقاومة ذات أبعاد أعمق.

في صباح الثامن من نيسان عام 1991، ارتفع الضباب عن سفح جبل سفين في كۆڕێ، ليكشف عن لحظة فارقة في نضال الكورد الطويلة مع النضال والوجود. لم تكن معركة كۆڕێ مجرد صدام عسكري بين قوى الظلام وقوى النور، بل كانت شرارة أضاءت دروباً جديدة في مسيرة شعب يبحث عن معنى لوجوده وسط عواصف التاريخ. لا ينكر عاقل أن هذه المعركة كانت محطة تحول فارقة، إذ أجبرت النظام على التراجع أمام إرادة شعب، وأجبرته أن يمد يده نحو الحوار، بعد أن كان السيف هو لغته الوحيدة.

لم تأتِ قصة كۆڕێ من فراغ، بل كانت نتيجة انتفاضة كبرى، ورد فعل عنيف من قوى القمع، حاولت إخماد جذوة الحرية التي أشعلها الكورد في كل مكان. قبيل المعركة، غطى الليل مدن كوردستان، وسيطرت قوى الظلام على أربيل، فانسحب البيشمركة، وفر ملايين من أبناء كوردستان نحو الحدود، وكأنهم يبحثون عن ملاذ في جغرافيا الغربة والضياع. لكن حتى في لحظات اليأس تلك، كان الأمل يلوح كنجم بعيد، معلناً أن معنى الوجود لا يكتمل إلا بالانتصار على الذات قبل الانتصار على الآخر، وأن هذه النكبة كانت بدورها “ولادة سادسة” لوعيٍ جديد بأهمية الوحدة.

في تاريخ النضال الكوردي، كثيراً ما جُعل البيشمركة وقوداً لأيديولوجيات الحزب، وصارت الذات الفردية ضحية لمشروع جماعي متعالٍ. كان الحزب، في بعض الأحيان، أكبر من الإنسان نفسه، وأصبح التمجيد الأعمى للحزب كارثة على جسد البيشمركة والثورة، مما أدى إلى تشتت الجهود وإضاعة التضحيات. لم يكن معظم تاريخنا الحزبي نابعاً من فكر قومي أصيل، بل كان الحزب يتعالى على كل شيء، حتى على إرادة الشعب وحلمه بالحرية. ولكن في كۆڕێ، حدث تحول فلسفي عميق. كانت هذه المعركة تجسيدًا لوعي جمعي تجاوز انتماءات الحزبية الضيقة. هنا، أدرك المقاتل أن وجوده يتعدى مجرد كونه “جندي حزب” ليصبح “إنساناً يقاتل من أجل وجوده ووجود أمته”. هذا الفارق جوهري؛ إنه يعكس ما قاله سورين كيركيغارد في تأكيده على أهمية الذات الفردية وتجاوزها للمفاهيم المجردة. لقد كانت لحظة وعي بأن الأيديولوجيا لا تصنع الحرية، بل الأفراد الذين يحملون إرادة الوجود. كانت كۆڕێ شهادة على أن “أنا” الفردية حين تتحد مع “نحن” الأمة في سياق وجودي عميق، تصنع المستحيل، رافضةً أن تكون مجرد رقم في معادلة حزبية، مؤكدة على “ولادة سابعة” للوعي الفردي والجمعي المتحد.

أما أهمية معركة كۆڕێ في تاريخ الكورد، فتتجاوز حدود الجغرافيا العسكرية لتلامس عمق الوجود الإنساني. لقد حولت المعركة الهزيمة إلى انتصار، وأجبرت النظام على الاعتراف بإرادة شعب، وأنقذت آلاف الأرواح من براثن القمع. لأول مرة في تاريخ الأحزاب الكوردية، توحد الجميع في خندق واحد، متجاوزين الخلافات الأيديولوجية، ليكتبوا معاً فصلاً جديداً في حكاية الحرية، وليثبتوا أن الوحدة هي بذرة الولادة الأكثر قوة.

في النهاية، تبقى قصة كۆڕێ شاهداً على قدرة الإنسان على تجاوز ذاته، وعلى إرادته في صنع مصيره، حتى في أشد لحظات الظلام. إنها درس في الوجود والحرية، ودعوة إلى كتابة التاريخ بأقلام الإنسان، لا بأقلام الحزب. في رحلة الكورد مع الاغتراب والحنين، تظل كوردستان هي الأرض التي تشكل الهوية وتغذي الروح، حتى في غياب العدالة أو الاعتراف الدولي. جبالها ووديانها ليست فقط جغرافيا، بل هي الذاكرة الحية التي تحمل أسرار الشهداء وأحلام الأحياء، وتظل الموسيقى الكوردية صدىً خالداً لهذه الروح، تروي حكايات المقاومة والثورة، وتزرع الأمل في قلوب المنفيين والمحاصرين، كأنها تقول: “لن يُنسى هذا الوجود، حتى لو حاولت كل قوى الأرض محوه. هذه هي الولادة السابعة للروح، الولادة من رحم الوحدة، من رحم الإدراك بأن الذات الفردية جزء من كيان أوسع يرفض الفناء“.

معركة كۆڕێ، كما وصفتها، ليست مجرد حدث عسكري، بل هي تجسيد لما أسماه كيركغور “اليأس كمحرك للوجود”. اليأس هنا ليس استسلامًا، بل هو تلك الحالة التي تدفع الإنسان إلى مواجهة مصيره بكامل وعيه، مدركًا أن الوجود لا يكتمل إلا من خلال الفعل الحر. الكورد في كۆڕێ، بمواجهتهم جيشًا يفوقهم عددًا وتسليحًا، كانوا يعيشون هذا اليأس بأعمق معانيه، لكنهم حولوه إلى إرادة مقاومة، إلى تأكيد وجودي على أن الحياة تستحق أن تُعاش فقط إذا كانت حرة. هذه الإرادة تعكس مفهوم نيتشه عن “إرادة القوة”، ليس كسلطة على الآخرين، بل كقدرة على تجاوز الذات، على تحويل الألم والضعف إلى قوة خلاقة.

إن صمود العجوز التي تحمل الطعام إلى المقاتلين يعكس فلسفة فرانكل عن “المعنى في المعاناة”. هذه المرأة، التي شهدت حلبجة وسنوات القمع، لم تكن تقاوم فقط النظام، بل كانت تقاوم العدمية التي تحاول إقناعها بأن وجودها لا قيمة له. كلماتها عن موت الخوف في حلبجة تذكرنا بما قاله كامو: “التمرد يخلق القيمة.” هذا التمرد، الذي تجسد في فعلها البسيط، كان تأكيدًا على أن المقاومة هي فعل جماعي، يشارك فيه الجميع، من المقاتل في الخطوط الأمامية إلى العجوز التي تحمل سلة الطعام. هذا الفعل الجماعي هو ما جعل كۆڕێ رمزًا للصمود، لأنه أثبت أن الوجود الكوردي ليس مجرد رد فعل على الظلم، بل هو فعل إبداعي يعيد صياغة التاريخ.

أما الصمت الذي خيّم بعد المعركة، فهو يذكرنا بمفهوم هايدغر عن “الدهشة” كبداية الفلسفة. هذا الصمت لم يكن خوفًا أو هزيمة، بل كان لحظة تأمل في عمق الوجود، لحظة أدرك فيها المقاتلون أن ما حققوه ليس مجرد انتصار عسكري، بل تأكيد ميتافيزيقي على خلود الروح الكوردية. كل شهيد سقط في كۆڕێ كان بمثابة بذرة وجودية، تؤكد أن الحياة لا تنتهي بالموت، بل تتجدد في إرادة الأحياء. هذه الفلسفة تجعل من معركة كۆڕێ ليس فقط نقطة تحول في التاريخ الكوردي، بل لحظة تجلي وجودي، حيث أثبت الكورد أن الوجود هو صراع مستمر ضد العدم، صراع يُكتب بدماء الشهداء ويُروى بأحلام الأجيال القادمة.

 

هروب الجحيم: المليونية عبر الجبال ومآسي المخيمات

في لحظات التاريخ القاتمة، حيث تصبح الأرض سجنًا والسماء عدوًا، يتجلى المعنى الحقيقي للصمود، لا كخيار، بل كقدرٍ وجودي يُصنع بالإرادة لا بالاستسلام. هل القدر هو ما يحدث لنا، أم هو ما نختار أن نفعله بما يحدث؟ وكما أكد فكتور فرانكل، رائد العلاج بالمعنى: “البشر ليسوا مجرد منتجات للظروف، بل هم من يقررون ما إذا كانوا سيستسلمون لها أو يقفون في وجهها”. هذه الحقيقة تجسدت في كل خطوة على الجبال الثلجية، كانت بمثابة “ولادة ثامنة” للوعي الجماعي بالصمود المطلق. ما إن بدأت القوات الحكومية بإعادة تنظيم صفوفها، مستغلة الهدوء النسبي في أعقاب الحرب، حتى قلبت المعادلة العسكرية رأسًا على عقب. القوات التي عادت من الكويت بأسلحتها الثقيلة، والمروحيات التي استثنتها اتفاقية وقف إطلاق النار المبرمة مع التحالف، أصبحت أداة البطش الوحيدة بيد النظام الذي لم يكن ليرحم. وبمباركة ضمنية من التحالف الدولي، الذي فضل الصمت على التدخل، تحولت المروحيات إلى آلة رعب حقيقية حلّقت فوق مدن كوردستان المنهكة، تلقي بحممها على رؤوس الأبرياء. مع اشتداد القصف المدفعي والجوي وعودة الحرس الجمهوري بضراوة، بدأت موجات النزوح الكبرى تتشكل. البيشمركة، رغم شجاعتهم الأسطورية وبسالتهم في القتال، كانوا عاجزين أمام الطيران المتفوق والقصف المدفعي الكثيف الذي لا يمكن مواجهته بأسلحتهم الخفيفة. فُتحت الجبال الشاهقة، وأُغلقت الحدود في وجوه الملايين. مليونان نفس بشرية، رجال ونساء وأطفال، غادروا بيوتهم في لحظة واحدة، حاملين ذكرياتهم كأحجار ثقيلة على قلوبهم، سلكوا طريق الموت نحو الحدود التركية والإيرانية، في رحلة أصبحت تعرف بـ “النزوح المليوني”، رحلة تُعيد تعريف معنى البقاء.

كنتُ هناك، أحمل بندقيتي المكسورة كرمز للمقاومة المنهكة، وأرى أمي، تلك المرأة الصامدة التي تجسد روح الوطن، تحمل أخي الصغير بين ذراعيها وسط الثلج القارس الذي كان يتساقط بلا رحمة. كانت الجبال كأم عجوز تمد ذراعيها المنهكتين لأبنائها الهاربين من جحيم الأرض، لكن الثلج كان غطاءً باردًا لجراحنا التي لا تندمل، والريح كانت تنادي بأسماء الذين سقطوا على طول الطريق، أرواحهم تحلّق في البرد، لتصبح جزءاً من الذاكرة الكونية لهذه المأساة. قطعنا المسافات الطويلة سيراً على الأقدام، والقصف يطاردنا كشبح لا يرحم، لا يرى ولا يسمع، والجوع يعصر أمعاءنا كالنار الملتهبة. لم تكن الجبال مجرد صخور صماء؛ كانت كائنات حية، تتنفس معنا الألم، شاهدة على صرخة الروح التي ترفض الانكسار وتصر على البقاء، مؤكدة على أن كل خطوة هي “ولادة جديدة” للإصرار على الحياة. الطفل الذي بكى بصمت في حضن أمه، والأم التي غطت طفلها بثوبها الرقيق الواهي، والشيخ الذي دعا الله بصوت مبحوح وسط العواصف الثلجية—كلهم كتبوا بأقدامهم المتهالكة أبجدية حياة جديدة، أبجدية الصمود، أبجدية الولادة المتجددة من رحم المعاناة.

تذكرت لحظة وقوفي على حافة جبل شاهق، حيث رأيت قريتي تحترق في الأفق البعيد، وشعرت أن الجبال نفسها تبكي معنا، تشاركنا أحزاننا. الطيور توقفت عن الغناء، كأنها في حداد، لكن دماء الهاربين صنعت نهرًا من الأمل، نهرًا يجري نحو المجهول، حاملًا معه بذرة وجود جديد.

وصلنا الحدود، حيث وقف العالم متفرجًا، يشاهد المأساة على شاشات التلفاز وكأنها فيلم لا يخصه. تركيا أغلقت أبوابها في وجهنا بقسوة، والإيران فتحت ذراعيها على استحياء. لكن الجبال ظلت الملجأ الأخير، همست لنا: “الصمود هو المعنى الحقيقي للوجود.” في تلك اللحظة الوجودية، شعرت بوجود يتجاوز الزمان والمكان، كأن الجبال كانت تحكي قصة أزلية عن العلاقة بين الأرض والإنسان، قصة لا يفهمها إلا من فقد وطنه وتيه في الفراغ، ليكتشف أن وطنه الحقيقي في روحه، وأن كل غياب هو ولادة أخرى للبحث عن الانتماء.

سألت نفسي سؤالاً ميتافيزيقياً عميقاً بينما كانت الرياح الباردة تصفع وجهي: “هل هذه الأرواح الهاربة، هذه الملايين التي تتجمد على سفوح الجبال، هي تجسيد لمصير أمة بأكملها محكوم عليها بالتيه الأبدي؟ هل هذا الألم المتجمد في العظام، وهذا الصقيع الذي ينهش اللحم، هو الثمن الميتافيزيقي لخطايا أمة لم تُرتكب، بل هي ضحية لقوى تتجاوز فهمنا؟” كان الجواب يتردد في أعماقي كصدى صوت بعيد: لا جواب، فقط المزيد من الصمود، كأن الوجود ذاته يهمس لنا: “هذا طريقكم إلى المعنى، و”الولادة المتجددة” لن تتوقف هنا، بل هي قدركم الوجودي. وإن سالت دماؤكم أنهاراً، فسيأتي يومٌ يروي فيه الأمل عطشكم الأبدي“.

إن رحلة النزوح المليوني عبر الجبال الثلجية ليست مجرد حدث تاريخي، بل هي تجسيد ميتافيزيقي لفلسفة الصمود الوجودي. يقول سارتر: “الإنسان محكوم عليه بالحرية”، وفي هذا السياق، فإن الكورد في نزوحهم لم يكونوا مجرد ضحايا للظروف، بل كانوا يمارسون حريتهم في اختيار الصمود على الرغم من العذاب. كل خطوة على الجبال الثلجية كانت فعلاً وجوديًا، تأكيدًا على أن الإنسان لا يُعرّف بما يُفرض عليه، بل بما يختاره في مواجهة العدم. هذا النزوح، بكل مآسيه، كان بمثابة “ولادة ثامنة” للوعي الجماعي، حيث أدرك الكورد أن الحياة ليست مجرد بقاء بيولوجي، بل هي إرادة مستمرة للبحث عن المعنى، حتى في أحلك الظروف.

كلام فرانكل عن المعاناة يجد صداه هنا بقوة. في كتابه “الإنسان يبحث عن المعنى”، يؤكد أن المعاناة تصبح محتملة عندما يكون لها هدف. بالنسبة للكورد في هذه الرحلة، كان الهدف هو الحفاظ على هويتهم، على وجودهم كشعب لا يقبل الإلغاء. الأم التي تحمل طفلها في الثلج، والشيخ الذي يدعو الله وسط العاصفة، كانوا يجسدون هذا الهدف، يحولون الألم إلى قوة خلاقة، إلى بذرة أمل تنبت في أرض اليأس. هذه الفلسفة تذكرنا أيضًا بكامو، الذي يرى في “التمرد” جوهر الحياة. النزوح لم يكن هروبًا من الموت، بل تمردًا على العدمية التي حاولت إقناع الكورد بأن وجودهم لا قيمة له. كل خطوة في تلك الرحلة كانت صرخة ضد العبثية، تأكيدًا على أن الحياة تستحق أن تُعاش، حتى لو كانت محفوفة بالمخاطر.

مشهد الجبال وهي تبكي مع الهاربين يعكس مفهوم هايدغر عن “الكينونة في العالم”. الجبال لم تكن مجرد خلفية مادية، بل كانت جزءًا من الوجود الكوردي، شاهدة على صراعهم، مشاركة في ألمهم وأملهم. هذا الارتباط بين الإنسان والأرض يتجاوز المادة ليصبح علاقة ميتافيزيقية، حيث تصبح الجبال رمزًا للأبدية، للروح التي لا تموت. في لحظة الوقوف على حافة الجبل، ومشاهدة القرية تحترق، كان هناك وعي وجودي عميق: الوطن ليس مجرد أرض، بل هو الروح التي تحمل ذكريات الشعب وأحلامه. هذا الوعي يجعل من النزوح ليس هزيمة، بل بداية جديدة، “ولادة ثامنة” تؤكد أن الإنسان قادر على إعادة صياغة وجوده، حتى في أحلك اللحظات.

 

المآسي المتراكمة: المسنون والأطفال الرضع في المخيمات

في هذا الجحيم المتكرر، حيث الزمن يتوقف ويدور في حلقة مفرغة من المعاناة، لا يرحم الوقت إلا القليلين. هل هناك ألم أعمق من رؤية البراءة تذبل والشيخوخة تُهان، بينما العالم يراقب في صمتٍ مريب؟ وكما تساءل سيغموند فرويد، أبو التحليل النفسي، عن “انتحار الحضارة” حين تترك أطفالها يموتون على مرأى ومسمع العالم، هل هذا الصمت العالمي هو إقرار ضمني بأن بعض الأرواح تستحق أقل من غيرها؟ المسنون، الذين كان يفترض أن تكون أعمارهم المتقدمة فترة للراحة والسكينة بعد سنوات طويلة من العمل والعناء، يجدون أنفسهم في معركة يومية مع الألم المتزايد والوحدة القاتلة. أجسادهم المتعبة تكاد تُنهار تحت وطأة البرد القارس والجوع الذي لا يشبع، وأرواحهم المثقلة بالذكريات المؤلمة عن وطنٍ تآكل وانطفأ نوره. كثير منهم يعانون أمراضًا مزمنة لم يجدوا من يعالجها في هذا العراء، ويفقدون القدرة على الحركة بينما تنهش البرودة عظامهم الهشة. غياب الرعاية الطبية والإنسانية يجعل من كل سعال بسيط أو وجع في القلب قصة موت بطيء ومهين، يراها العالم بأسره في صمت مطبق. إنها “ولادة جديدة” للموت في عراء الحياة.
الأطفال الرضع، أكثر الفئات ضعفًا وهشاشة في هذه الأوضاع القاسية، يُتركوا في كهوف الخيام المهترئة، التي لا تقي من برد ولا من حر. البرودة تلتهم أجسادهم الصغيرة، وحليب أمهاتهم يجف من شدة الإرهاق والجوع، فلا يجدون ما يسد رمقهم إلا البكاء الصامت الذي لا يسمعه أحد. الكثير منهم يموتون في هدوء مخيف، تذبل أرواحهم الصغيرة قبل أن تفتّح عيونهم على الحياة. إنها أرواح غادرت هذا العالم دون أن تعرف معنى الدفء أو الشبع، أرواح تشهد بصمتها الميت على فشل الإنسانية في حماية براءتها. أجسادهم الهزيلة تُدفن في قبور جماعية، بلا أسماء، بلا حكايات، كأنهم لم يأتوا إلى الوجود أبدًا، وكأن وجودهم كان مجرد وميض عابر في عتمة الوجود. هذه اللحظات، حيث يتلاشى أمل الحياة ويتحول إلى غبار في مهب الريح، تطرح سؤالاً وجودياً أعمق: هل هذه المعاناة اللامتناهية هي قدر محتوم على أرواحٍ لم تختر مصيرها، أم أنها وصمة عار على جبين الإنسانية التي تدّعي التحضر والعدالة؟ هل يمكن أن يكون هناك معنى للوجود حين يُترك الأضعف والأكثر براءة للموت في العراء، بينما العالم ينظر؟ هذه المخيمات لم تكن مجرد تجمعات لأناس هربوا من الموت؛ كانت مقبرة لأرواحٍ حية، سجنًا زمنيًا للكرامة، ومختبرًا لأقصى درجات القسوة الإنسانية، حيث يتجلى العدم في أبشع صوره، ويُكشف عن هشاشة الوجود.


هذه المآسي المتراكمة، التي أودت بحياة المسنين والأطفال الرضع في المخيمات، ليست مجرد مآسي إنسانية، بل هي تجليات للعبثية التي تحدث عنها كامو، حيث يبدو العالم خاليًا من المعنى عندما تُترك البراءة والحكمة لتذبل في صمت. يقول كامو إن العبث ينشأ من التناقض بين رغبة الإنسان في المعنى وصمت الكون، وفي هذه المخيمات، كان هذا الصمت صاخبًا، يدوي في أذن كل من شهد موت طفل أو انهيار مسن. لكن، كما يؤكد كامو، فإن مواجهة العبث لا تكون باليأس، بل بالتمرد، وهذا التمرد تجسد في إصرار المسنين على البقاء، في كل نفس يتنفسونه رغم الألم، وفي صرخات الأطفال الصامتة التي كانت تتحدى العدم. يقول فرانكل إن “المعاناة تصبح محتملة عندما يكون لها هدف”، وفي هذه المخيمات، كان الهدف هو الحفاظ على بذرة الحياة، حتى لو كانت هشة، حتى لو كانت محكومة بالموت. هذه “الولادة الجديدة للموت”، كما وصفتها، هي في الواقع ولادة للمعنى، لأن كل لحظة صمود، كل لحظة حياة، كانت تأكيدًا على أن الوجود الكوردي لا يمكن أن يُمحى. يقول هايدغر إن “الكينونة تتجلى في مواجهة العدم”، وفي هذه المخيمات، كان العدم يتجلى في البرد، الجوع، والصمت العالمي، لكن الكينونة الكوردية تجلت في إرادة البقاء، في الذكريات التي يحملها المسنون، وفي البراءة التي حاولت الأرواح الصغيرة التمسك بها. هذه المآسي تطرح سؤال سارتر عن الحرية: هل يمكن للإنسان أن يكون حرًا عندما يكون محاصرًا بالموت؟ الجواب يكمن في فعل الصمود نفسه، فعل يؤكد أن الحرية ليست غياب القيود، بل هي اختيار المعنى في وجه العدم، اختيار “ولادة متجددة” للروح التي ترفض أن تنكسر.

التمييز والعنصرية من حكومات تركيا وإيران


في قلب هذه المأساة الإنسانية التي لا تنتهي، حيث تتجمد الأرواح قبل الأجساد، لم تكن الطبيعة وحدها هي العدو، بل كانت الأيديولوجيات السياسية المتمثلة في سياسات الحكومات المجاورة تُعّمق الجراح وتُضيف طبقات جديدة من الألم والمعاناة. فهل يمكن للحضارة أن تزدهر عندما تبنى على إنكار وجود الآخر؟ وهل يمكن للأمة أن تدعي الإنسانية وهي تساهم في إبادة أمة أخرى؟ كما يقول المفكر الفرنسي ميشيل فوكو في تحليله للسلطة والمعرفة: “إن السلطة لا تُمارس فقط من خلال القوانين، بل من خلال الخطاب الذي يُنتج الحقيقة ويُشكل الوعي”. هكذا، كانت السياسات العنصرية والخطاب التمييزي ضد الكورد في تركيا وإيران جزءًا لا يتجزأ من آلية القمع، تُعيد إنتاج “ولادة جديدة” من القهر النفسي والاجتماعي.
في تركيا، ولسنوات طويلة، لم يُعترف بوجود الكورد كأمة ذات لغة وثقافة وتاريخ. لقد كان الخطاب الرسمي يصر على أن الكورد مجرد “أتراك جبليين”، محاولاً طمس هويتهم وكيانهم الوجودي. هذا الإنكار للوجود الكوردي لم يكن مجرد خطأ سياسي، بل كان حرباً وجودية تهدف إلى إبادة الهوية عبر النكران. في المخيمات على الحدود التركية، حيث فرّ الملايين بحثًا عن الأمان، قوبلوا بالتمييز والعنصرية الصارخة. لم يُقدم لهم سوى الحد الأدنى من المساعدات، وكأنهم لاجئون من الدرجة الثانية، لا يستحقون التعاطف أو الكرامة الإنسانية الكاملة. كانت نظرات الازدراء، والكلمات المسيئة، والمعاملة القاسية، تزيد من مرارة غربتهم، وتُذكرهم بأنهم حتى في هروبهم من الموت، ما زالوا يواجهون إنكارًا لوجودهم. هذا السلوك لم يقلل من معاناتهم الجسدية فحسب، بل نزف من كرامتهم، ودفع بهم نحو نوع آخر من “العدمية الوجودية”: عدمية النكران.
أما في إيران، فلم يكن الوضع بأفضل حال. فمع أن إيران كانت قد فتحت حدودها لأعداد أكبر من اللاجئين، إلا أن السياسات التمييزية ضد الكورد لم تتوقف. الكورد في إيران، وخاصة أولئك الذين أتوا من العراق، واجهوا صعوبات جمة في الحصول على حقوقهم الأساسية، بدءًا من التعليم وانتهاءً بالعمل. الفقر المدقع، وغياب الفرص، والعيش في مخيمات تفتقر لأبسط مقومات الحياة الكريمة، كان يدفعهم إلى اليأس. كانت السلطات الإيرانية تنظر إلى الكورد كتهديد محتمل لأمنها القومي، مما زاد من الضغط عليهم وحرمهم من الشعور بالأمان الحقيقي. كانت هذه المعاملة تُجبر الكوردي على “ولادة” أخرى، لكنها ولادة في سجنٍ أكبر، سجنٍ تُحاط جدرانه بالعنصرية والإنكار المستمر للوجود.
هذه السياسات العنصرية لم تكن مجرد إجراءات إدارية، بل كانت تغلغلاً في عمق النفس الكوردية، محاولة لقتلها من الداخل. إنها تؤكد على أن الظلم لا يقتصر على العنف الجسدي، بل يتعداه إلى العنف الوجودي، عنف يُحرم الإنسان من الاعتراف به ككائن ذي قيمة وكرامة. هذه التجارب في المخيمات، تحت أنظار العالم، جعلت الكثيرين يتساءلون: هل الحرية التي ناضلنا من أجلها تستحق كل هذا الألم، إذا كانت نتيجتها هي الانتقال من سجن إلى آخر، من نوع من العدمية إلى نوع آخر؟ هل هذه هي الولادة المتجددة التي كنا نأملها؟ الجواب، كان يكمن في إصرار الروح على الصمود، إصرار على أن لا يختزل وجودها في نظرة الآخر، بل في إيمانها بذاتها، وهذا الإيمان هو بذرة “ولادة تاسعة” للذات، ولادة ترفض الانصهار في وعي الآخر القامع.


إن التمييز والعنصرية التي واجهها الكورد في المخيمات على الحدود التركية والإيرانية لم تكن مجرد سياسات، بل كانت هجومًا ميتافيزيقيًا على الكينونة، كما يراها هايدغر. يقول هايدغر إن الكينونة تتجلى في العلاقة مع العالم، ولكن عندما يُنكر العالم وجود الكائن، يصبح هذا الإنكار تهديدًا لجوهر الوجود نفسه. الخطاب التركي الذي قلل من الكورد إلى “أتراك جبليين”، والسياسات الإيرانية التي عاملتهم كتهديد، كانت محاولة لطمس الهوية، لتحويل الكوردي إلى “عدم” في وعي الآخر. لكن، كما يؤكد سارتر، فإن “الإنسان هو ما يصنعه بنفسه”، وفي هذا السياق، كان الكوردي يصنع وجوده من خلال رفضه لهذا الإنكار. هذا الرفض لم يكن مجرد مقاومة سياسية، بل كان تمردًا وجوديًا، كما يصفه كامو، تمردًا يؤكد على قيمة الذات في وجه العدمية التي تحاول إلغاءها. يقول نيتشه إن “ما لا يقتلني يجعلني أقوى”، وفي هذه المخيمات، كانت كل نظرة ازدراء، كل كلمة مسيئة، وقودًا لإرادة الصمود، لإيمان الكوردي بأن وجوده لا يُعرف بنظرة الآخر، بل بإرادته الحرة. هذه “الولادة التاسعة” للذات، كما وصفتها، هي ولادة للوعي بالحرية، حرية تتجاوز القيود المادية لتصبح إعلانًا عن كرامة الروح. يقول كيركغور إن “القلق هو دوار الحرية”، وفي هذا السياق، كان القلق الناتج عن التمييز دافعًا للقفزة الإيمانية، قفزة نحو إيمان الذات بقيمتها، بأحقيتها في الوجود، حتى في وجه العنصرية والنكران.

 

رحلة البحث عن المفقودين والشهداء: ألمٌ لا ينتهي وظلال لا تزول

في قلب كل مأساة، لا تكمن فقط الآلام الجسدية، بل الألم الوجودي الأعمق الذي ينبع من الفقدان والشك. فهل يمكن لروح أن تجد السلام قبل أن تُدرك مصير أحبائها؟ وهل الزمن قادر على شفاء جرح يبقى مفتوحًا على المجهول؟ كما يقول الشاعر اللبناني جبران خليل جبران: “حين تبكي، تبكي الروح لا العين”. وهذا البكاء الدائم الذي لم يتوقف هو إعلان عن “ولادة جديدة” للألم الذي يتجاوز الجسد ليغدو جزءاً من الكيان.
بعد تراجع جيش النظام، وفرحة التحرير التي كانت أشبه بومضة سريعة في ليلٍ طويل، بدأ فصل جديد من فصول الألم: البحث عن المفقودين. الآلاف من أبناء شعبنا، خاصة بعد عمليات الأنفال الوحشية في الثمانينات وبعد الانتفاضة، اختفوا وكأن الأرض ابتلعتهم. الرجال والنساء والأطفال، الذين لم يعودوا من تلك الرحلة المأساوية، تركوا خلفهم عائلات تحترق بنار الشك والحنين. كان كل بيت كوردي تقريبًا يحمل في ذاكرته قصة مفقود، أو شهيد لم يُدفن، أو قبر لم يُعرف مكانه. هذا الشك الوجودي، هذا السؤال المعلق “أين هم؟”، كان يؤرقنا أكثر من الألم الجسدي ذاته.


كان البحث عنهم رحلةً مضنية، أشبه بالبحث عن إبرة في كومة قش. توجهنا إلى السجون والمعتقلات التي كانت تتبع النظام، تلك التي أصبحت الآن مهجورة أو تحت سيطرة البيشمركة. كنا نأمل أن نجد آثارًا، أسماءً، أو حتى بقايا أمل. دخلنا “القصر الأحمر” في سليمانية، وهو رمز للوحشية البعثية، حيث تُركت خلف جدرانه حكايات لا تُحصى من التعذيب والقتل. كانت جدران الزنزانات تتحدث عن أنات الموت، وعن صرخات لم يُسمع صداها. على جدران إحدى الزنزانات، وجدتُ اسم “حسين” محفورًا بظفرٍ أو حجر، وعلى الجدار المقابل كلمة “حرية” كتبها سجينٌ آخر بدمه. كانت هذه الجدران تجسيدًا لـ”ولادة أخرى” للوعي بالوجود، حيث تتجسد الحرية حتى في أقصى درجات القيد. هل كان هذا حسين الذي أعرفه؟ هل كان هذا الخط الأخير الذي خطّه في حياته؟ لم أجد إجابة، سوى صدى الصمت ومرارة الفقدان.
كانت المقابر الجماعية التي عُثر عليها لاحقًا، والتي تُروى حكاياتها اليوم في كل محفل، شاهدًا على جرائم لا تُغتفر. كل جماجم وعظام كانت تُكتشف، كانت تُعيد “ولادة جديدة” للألم، تفتح جراحًا لم تكن قد شُفيت بعد. لم تكن مجرد رفات، بل كانت أرواحًا تنادي بالعدالة، ذكريات حية ترفض النسيان. إن رحلة البحث عن المفقودين ليست مجرد مهمة إنسانية، بل هي محاولة وجودية لإعادة ربط الحاضر بالماضي، لإعادة بناء الذاكرة التي حاول النظام طمسها، ولإعطاء معنى لوجود أولئك الذين سقطوا ضحايا للظلم. هذا البحث هو بمثابة “ولادة عاشرة” للأمل، أمل في أن العدالة ستتحقق يومًا ما، وأن الظلال التي تلاحقنا ستتبدد بنور الحقيقة، وأن كل روح فقدت ستجد سلامها.

 رحلة البحث عن المفقودين والشهداء هي رحلة في قلب القلق الوجودي، كما يصفه كيركغور، حيث يواجه الإنسان المجهول ويتساءل عن معنى وجوده في عالم يسمح بمثل هذه الجرائم. هذا السؤال المعلق “أين هم؟” ليس مجرد سؤال عن المكان، بل هو سؤال ميتافيزيقي عن الوجود نفسه: هل يمكن لروح أن تكتمل عندما يظل جزء منها مفقودًا؟ يقول هايدغر إن “الكينونة تتجلى في مواجهة العدم”، وفي هذه الرحلة، كان العدم يتجلى في المقابر الجماعية، في الجدران المحفورة، في الصمت الذي يحيط بالمفقودين. لكن هذا العدم لم يكن النهاية، بل كان دافعًا للتمرد، كما يقول كامو، تمرد يتجسد في البحث الدؤوب عن الحقيقة، في إصرار العائلات على إيجاد أحبائهم، حتى لو كان ذلك يعني مواجهة الألم مرة أخرى. هذه “الولادة العاشرة” للأمل، كما وصفتها، هي تأكيد على فلسفة فرانكل التي ترى أن المعاناة تصبح محتملة عندما تكون ذات هدف، وهنا كان الهدف هو إعادة ربط الحاضر بالماضي، إعطاء صوت للذين سُلبوا صوتهم. يقول نيتشه إن “الإنسان الأعلى” هو من يتجاوز آلامه، وفي هذا البحث، كان الكورد يتجاوزون آلامهم، يحفرون في الذاكرة كما يحفرون في الأرض، بحثًا عن بقايا أمل، عن بذرة عدالة. هذه الرحلة ليست مجرد بحث عن أجساد، بل هي بحث عن المعنى، عن الإيمان بأن الوجود لا يمكن أن يُمحى، حتى لو حاول النظام طمسه. إنها ولادة للوعي بالعدالة، للإيمان بأن الظلال التي تلاحقنا ليست أبدية، وأن الحقيقة، مهما تأخرت، ستجد طريقها إلى النور.

العزلة والصمت: انقطاع الاتصال وصعوبة الوصول إلى الأخبار


في أتون المأساة، حيث يتلاشى النور ويُخيم الظلام، تصبح المعلومة شريان حياة، والاتصال حبل نجاة. فهل يمكن لروح أن تصمد وهي معزولة عن العالم، محاطة بسياجٍ من الصمت لا يخترقه سوى صدى اليأس؟ وكما قال الكاتب الألماني هرمان هيسه: “العزلة هي مسار نحو الذات، ولكنها قد تكون أيضًا طريقًا إلى الجنون إذا لم تُروّح بالوعي”. في تلك الأيام العصيبة، لم نكن نعاني فقط من القصف والجوع والبرد، بل من عزلة خانقة، عزلة جعلتنا نشعر وكأننا نعيش في فقاعة زمنية خارج نطاق التاريخ، في “ولادة جديدة” لشعورٍ بالعدمية.
مع قطع الاتصالات، وانقطاع شبكات الهاتف، وغياب شبكات الإنترنت التي لم تكن منتشرة حينها، وغلق الطرق، أصبح العالم الخارجي بعيدًا عنا، ككوكبٍ آخر. لم نكن نعرف ماذا يحدث في المدن الأخرى، هل سقطت، هل صمدت؟ هل العالم يعلم بمأساتنا؟ هل هناك من يمد يد العون؟ كنا نعيش في صمت مطبق، لا يُكسره سوى صوت الراديو الذي كان المصدر الوحيد للأخبار، لكنه كان يعطينا أجزاءً من الصورة، لا الصورة الكاملة. هذا الانقطاع عن العالم الخارجي، وهذه العزلة القسرية، زادت من شعورنا بالوحدة والهشاشة. كنا نرى طائرات النظام تحلق فوق رؤوسنا، تلقي بحممها، ونحن لا نملك سوى الدعاء والصمت، والصبر الذي كان ينمو فينا كشجرة صلبة في صحراء العزلة، وهي بذرة “ولادة أخرى” لمرونة الروح.
في المخيمات، كانت الأخبار تنتقل عبر الهمس والشائعات، كل قصة تُروى تُعاد صياغتها لتُصبح أكثر درامية، أو أكثر يأسًا. كان اللاجئون يتبادلون قصص الموت والدمار، لكنهم في الوقت نفسه، كانوا يتشبثون بأي بصيص أمل، أي خبر قد يحمل في طياته نهاية لهذه المأساة. كان البحث عن الأخبار أشبه بالبحث عن الماء في صحراء قاحلة، كل معلومة صغيرة كانت تُشعل شرارة أمل أو يأس، لكنها كانت ضرورية لبقاء الروح. هذه العزلة جعلتنا ندرك قيمة التواصل، قيمة الكلمة التي تربطنا بالعالم، بالآخر، وبذاتنا. إنها “ولادة جديدة” للتقدير العميق للتواصل الإنساني، وللشعور بأن الإنسان لا يمكن أن يكتمل وجوده بمعزل عن الآخرين، حتى لو كان ذلك الآخر مجرد خبرٍ عابر.

العزلة التي عاشها الكورد في المخيمات ليست مجرد انقطاع مادي عن العالم، بل هي حالة وجودية، كما يصفها هايدغر، حيث يواجه الإنسان “القلق الأصيل” الناتج عن الانفصال عن العالم. يقول هايدغر إن “الكينونة في العالم” تتطلب علاقة مع الآخرين، ولكن في هذه المخيمات، كان هذا العالم مغلقًا، محصورًا في فقاعة الصمت والشائعات. هذه العزلة هي تجسيد لما يسميه سارتر “الوحدة الوجودية”، حيث يُدرك الإنسان أن وجوده يعتمد على اختياراته الخاصة، حتى عندما يكون محرومًا من أدوات التواصل. لكن، كما يؤكد كامو، فإن العبث لا يعني النهاية، بل هو دعوة للتمرد، وهذا التمرد تجسد في إصرار اللاجئين على البحث عن الأخبار، على التشبث بكل همسة أمل. يقول فرانكل إن “الإنسان يستطيع أن يتحمل كل شيء إذا وجد معنى”، وفي هذه العزلة، كان المعنى يكمن في الكلمة، في الخبر، في الاتصال الذي يربط الروح بالعالم. هذه “الولادة الجديدة” لمرونة الروح، كما وصفتها، هي تأكيد على فلسفة نيتشه عن “إرادة القوة”، حيث يصبح الصبر، الذي شبهته بشجرة صلبة، قوة خلاقة تنمو في صحراء اليأس. يقول كيركغور إن “الإيمان هو الشغف بالممكن”، وفي هذه المخيمات، كان الإيمان بالممكن يتجلى في كل محاولة لكسر الصمت، في كل شائعة تحمل أملًا، في كل دعاء يرتفع إلى السماء. هذه العزلة، رغم قسوتها، كانت مدرسة للوعي، مدرسة علمتهم أن الوجود لا يكتمل إلا بالعلاقة مع الآخر، وأن الكلمة، مهما كانت ضعيفة، هي سلاح الروح في مواجهة العدم.

 تأثير المعارك بين المعارضة الكوردية والحكومة التركية على مخيمات اللاجئين

لم تكن محنتنا، نحن الكورد، تقتصر على الصراع مع النظام العراقي فحسب. فكما أن الوجود الإنساني يتشكل بتفاعله مع محيطه، كانت المعارك الدائرة بين المعارضة الكوردية (خاصة حزب العمال الكوردستاني PKK) والحكومة التركية تزيد من تعقيد الوضع، وتُلقي بظلالها القاتمة على حياة اللاجئين في المخيمات الحدودية. فهل يمكن لروحٍ أن تجد السلام عندما تكون محاصرة بين نارين؟ وهل يمكن للأمل أن ينمو في تربةٍ مُثقلة بالصراعات المتشابكة؟ وكما يقول كارل ماركس: “تاريخ جميع المجتمعات الموجودة حتى الآن هو تاريخ صراع الطبقات”، وفي حالتنا، هو تاريخ صراع الهويات والوجود الذي لا يرحم. هذا الصراع المستمر كان “ولادة” لأبعاد جديدة من الألم، أبعاد تتجاوز حدود وطننا الأم.
في المخيمات الواقعة على الحدود التركية، حيث فرّ الآلاف من القصف والقتل، أصبحنا نعيش تحت تهديد مزدوج. من جهة، كان هناك خطر القصف العراقي الذي لم يتوقف تمامًا، ومن جهة أخرى، دخلنا في صراعٍ لا ناقة لنا فيه ولا جمل: الصراع بين الجيش التركي وحزب العمال الكوردستاني. كانت القوات التركية تشن عمليات عسكرية واسعة النطاق ضد مقاتلي الحزب في المناطق الحدودية، وهذه العمليات لم تكن تُفرّق بين المقاتل واللاجئ الأعزل. القصف التركي كان يستهدف القرى الحدودية والمخيمات أحيانًا، مما يُجبر اللاجئين على النزوح مرة أخرى، والبحث عن ملاذات جديدة في عمق الجبال أو في مناطق أقل خطورة.
هذا الوضع زاد من مرارة اللاجئين وشعورهم بالخذلان. كانوا قد هربوا من جحيم في وطنهم، ليجدوا أنفسهم محاصرين في جحيم آخر على الحدود. هذا التوتر المستمر، وهذا الخوف الدائم من أن تتحول المخيمات إلى ساحات قتال، جعل الحياة في المخيمات أشبه بانتظار الموت. الأطفال كانوا يترعرعون على أصوات المدافع والطائرات، ويشاهدون وجوه الخوف على وجوه أهاليهم، مما غرس فيهم شعورًا عميقًا بعدم الأمان، وبأن “الولادة” في هذا العالم كانت لعنة لا نعمة. النساء كن يعشن في رعب دائم على مصير أبنائهن وأزواجهن، ومعاناتهن لم تكن جسدية فحسب، بل نفسية عميقة.
هذا التأثير لم يقتصر على الجانب الأمني، بل امتد إلى الجانب الإنساني. المساعدات الإنسانية كانت تصل بصعوبة إلى المخيمات، وكثيرًا ما كانت تُعيقها العمليات العسكرية التركية. الفقر والمرض وسوء التغذية كانت سمات أساسية في هذه المخيمات، حيث كان اللاجئون يُعاملون كرهائن في صراع لا يخصهم، وكأن وجودهم أصبح مجرد أداة في لعبة سياسية أوسع. هذا الواقع المرير دفع بالعديد من اللاجئين إلى التفكير في الهجرة إلى دول أبعد، بعيدًا عن هذه الصراعات المتشابكة، بحثًا عن مكان يجدون فيه السلام والأمان والكرامة الإنسانية، بحثًا عن “ولادة حقيقية” في عالمٍ أكثر رحابة. لقد كانت هذه التجارب تذكيرًا مؤلمًا بأن معاناة الكورد ليست معزولة، بل هي جزء من نسيج معقد من الصراعات الإقليمية والدولية التي تُعيد تعريف معنى الوجود، وتُجبر الروح على التجدد في كل مرة تتعرض فيها للفناء.


الصراعات المزدوجة التي عاشها الكورد في المخيمات، بين القصف العراقي والعمليات التركية، هي تجسيد لما يسميه سارتر “الصراع مع الآخر”، حيث يصبح وجود الإنسان مهددًا ليس فقط بالقوة المادية، بل بنظرة الآخر التي تحاول اختزاله إلى مجرد موضوع. في هذه المخيمات، كان الكورد يُعاملون كرهائن في صراع لا يخصهم، لكن هذا الاختزال لم يُنهِ وجودهم، بل أثار فيهم تمردًا وجوديًا. يقول كامو إن “التمرد هو رفض الموت”، وفي هذه الحالة، كان التمرد هو إصرار اللاجئين على البقاء، على البحث عن ملاذات جديدة، على رفض أن يصبحوا مجرد ضحايا في لعبة سياسية. يقول نيتشه إن “الفوضى تولد النجوم”، وفي هذا الفضاء المضطرب من الصراعات، كانت كل خطوة للنزوح، كل محاولة للبقاء، نجمة في سماء الأمل الكوردي. هذه “الولادة الحقيقية” التي دفعتهم للبحث عنها في دول أبعد هي تجسيد لفكرة فرانكل عن المعنى، حيث يصبح البحث عن الأمان والكرامة هدفًا يعطي للحياة قيمة. يقول هايدغر إن “الإنسان هو كائن يسأل عن الكينونة”، وفي هذه المخيمات، كان السؤال الدائم هو: كيف نكون في عالم يرفضنا؟ الجواب كان في الصمود، في الأمل الذي ينمو رغم الخوف، في الإرادة التي تحول الأطفال الذين يترعرعون على أصوات المدافع إلى أبطال المستقبل. هذه الصراعات، رغم قسوتها، كانت مدرسة للوعي، علمتهم أن الوجود ليس مجرد بقاء، بل هو فعل إبداعي يتحدى الفناء، يتحدى الصراعات، ويؤكد على “ولادة متجددة” للروح الكوردية في وجه كل النيران.

محاولات الصمود: بين سيوف القتال وصخب المدن

في خضمّ الدمار والفوضى، حيث تُهدد الروح بالانكسار، يتجلى جوهر الإنسان في قدرته على الصمود، لا كفعلٍ تلقائي، بل كقرارٍ وجودي واعٍ. فهل يمكن للأمل أن يولد من رحم اليأس؟ وهل تُصبح الإرادة شراعًا في بحرٍ هائج؟ وكما قال ألبر كامو، فيلسوف العبث: “إنّ أفضل طريقة للتعامل مع واقع لا يطاق هو أن ترفض قبوله.” هذه المقولة كانت تتجسد في كل نفسٍ يخرج من صدر، وفي كل خطوةٍ تُتخذ، مُعلنةً عن “ولادة جديدة” للإصرار على الحياة.

في تلك اللحظات الفاصلة، كانت روح الصمود تتجلى في وجوه البيشمركة، أولئك الشباب الذين حملوا أرواحهم على أكفهم، وواجهوا جيشًا مدججًا بأحدث الأسلحة بصدور عارية، بقلوب مؤمنة بقضيتهم. لم يكن قتالهم مجرد صراع عسكري، بل كان فعلاً وجودياً عميقاً، إعلانًا عن حقهم في الحياة والكرامة، وتأكيدًا على أن الوجود لا يُمنح، بل يُنتزع بالدم والعرق والإرادة. في الجبال الشاهقة، وعلى سفوح الوديان، كانت كل قطرة دم تُسفح تُروي شجرة الحرية، وتُصبح بذرة “لخلق معنى” في عالمٍ بدا عبثيًا وقاسياً.

وفي الوقت نفسه، كانت المدن، رغم صخبها وضجيجها، ساحة أخرى للصمود. فمع تراجع جيش النظام بعد انتصارات البيشمركة في كۆڕێ، بدأت الحياة تعود تدريجيًا إلى المدن المحررة. كانت هذه العودة بحد ذاتها فعلًا وجوديًا، إعلانًا عن رفض الاستسلام. الناس الذين نزحوا إلى الجبال، بدأوا بالعودة إلى بيوتهم المدمرة، إلى أزقتهم التي شهدت الكثير من الألم. كانوا يعملون ليل نهار لإعادة بناء ما دمره القصف، لإصلاح الجدران المهدمة، ولإزالة آثار الدمار، وكأنهم يعيدون بناء أنفسهم من جديد. هذه الأعمال اليومية، البسيطة في ظاهرها، كانت تحمل في طياتها معنى عميقًا للصمود؛ إنها إصرار على الحياة في وجه الموت، على الأمل في وجه اليأس.

النساء، اللواتي كنّ يحملن عبء العائلة والمجتمع، لعبن دورًا بطوليًا في هذه المحاولات. كنّ يعِدن تنظيم الحياة في المخيمات، يُطبِخن الطعام، يُعِتن بالأطفال، ويُعلِّمن الأجيال الجديدة قيمة الصمود والحفاظ على الهوية. في أزقة المدن المدمرة، كنّ يرفعن رؤوسهن بفخر، ويُشاركن في أعمال إعادة البناء، وكأن كل حجر يُوضع هو “ولادة جديدة” للأمل في بناء مستقبل أفضل.

محاولات الصمود هذه لم تكن بلا ثمن. فالمعارك كانت لا تزال مستمرة في بعض الجبهات، والمدن كانت لا تزال تحت تهديد القصف، والحصار الاقتصادي كان يُضيّق الخناق على الناس. ولكن في كل هذه الظروف، كان هناك إصرار لا يتزعزع على البقاء، على مقاومة العدم. هذا الصمود ليس مجرد شجاعة في وجه الخطر، بل هو فلسفة حياة، إيمان بأن الوجود يستحق الكفاح من أجله، وأن “الولادة المتجددة” ليست مجيارية، بل هي جوهر هذا الشعب الذي يرفض الفناء. إنها إرادة عميقة للذات لا ترضخ للحتمية، بل تصنع قدرها بنفسها.

ان الصمود، كما تجلى في وجوه البيشمركة وجهود النساء وأهالي المدن، ليس مجرد فعل بقاء، بل هو تجسيد لفلسفة سارتر عن الحرية، حيث يُعرّف الإنسان وجوده من خلال اختياراته. في مواجهة الدمار والفوضى، كان اختيار الصمود قرارًا واعيًا، إعلانًا عن أن الوجود الكوردي لن يُختزل إلى ضحية. يقول سارتر إن “الإنسان محكوم عليه بالحرية”، وفي هذه اللحظات، كان الكورد محكومين بحرية اختيار الحياة، حتى في وجه الموت. هذا الصمود هو أيضًا تجلي لفكرة نيتشه عن “إرادة القوة”، حيث تتحول المعاناة إلى قوة خلاقة، تروي شجرة الحرية بدماء البيشمركة وتعيد بناء المدن بحجارة الأمل. يقول كامو إن “التمرد هو رفض قبول العبث”، وهنا كان التمرد يتجسد في كل خطوة نحو إعادة البناء، في كل وجبة تُعد في المخيمات، في كل درس تُعلمه الأمهات لأبنائهن. هذه “الولادة الجديدة” للإصرار على الحياة هي تأكيد على فلسفة فرانكل، التي ترى أن المعنى يمكن أن يُوجد حتى في أقسى الظروف. في هذا السياق، كان المعنى يكمن في الحفاظ على الهوية، في بناء مستقبل يتحدى الماضي. يقول هايدغر إن “الكينونة تتجلى في العناية”، وفي هذه المحاولات، كانت العناية بالوطن، بالعائلة، بالذات، هي ما أعطى للصمود بعده الميتافيزيقي. يضيف كيركغور أن “الإيمان هو القفزة نحو المجهول”، وفي هذه الجبال والمدن، كانت كل خطوة، كل حجر يُوضع، قفزة إيمانية نحو أمل لا يُرى، ولادة لروح ترفض أن تنكسر، ترفض أن تُختزل إلى مجرد ضحية للتاريخ.

 النساء والأطفال: براءة تُهددها الحرب والجوع في قلب العاصفة

في كل حرب، وفي كل مأساة، هناك فئة تدفع الثمن الأغلى، ليس فقط بالدم، بل بالروح والطفولة المنهوبة: إنهم النساء والأطفال. هل يمكن لبراءة الطفولة أن تزدهر في حقول الموت؟ وهل يُمكن لقلب أم أن يجد السكينة وهو يرى صغاره يذبلون جوعًا؟ وكما قال الفيلسوف الروسي فيودور دوستويفسكي: “إن مقياس الحضارة هو طريقة معاملتها لأطفالها”. في قلب العاصفة، كانت هذه الفئة هي الأكثر ضعفًا، والأكثر عرضة لـ”ولادة” في عالم لا يعرف الرحمة.

النساء، اللواتي هن رمز الحياة والعطاء، وجدن أنفسهن في جبهة أخرى من جبهات الحرب: جبهة البقاء. كنّ يحملن عبء الوطن على أكتافهن المنهكة، يُهرَبن بأطفالهن عبر الجبال الوعرة، يحملن الرضع الجائعين، ويُحاولن حماية الصغار من وحشية القصف وبرودة الثلج. أجسادهن كانت منهكة، وأرواحهن كانت تمزقها آلام الفقد، لكن إصرارهن على الصمود كان يفوق كل تصور. كنّ يجدن القوة في ضعفهن، الأمل في يأس اللحظة، والحياة في قلب الموت. كانت كل دمعة تسقط من عيونهن تُروي أرض الوطن، وكل همسة أمل منهن تُشعل شمعة في الظلام، وهذا الإصرار كان بمثابة “ولادة دائمة” للأمل في وسط اليأس.

أما الأطفال، أولئك الذين يجب أن يعيشوا طفولتهم بسلام وبراءة، فقد وُلدوا في زمنٍ لا يعرف البراءة. رأوا الموت بعيونهم الصغيرة، وذاقوا مرارة الجوع والخوف قبل أن يعرفوا معنى اللعب أو الدفء. كثير منهم قضوا نحبهم بصمت، أجسادهم الصغيرة تذبل من البرد والمرض، دون أن يُعرف مصيرهم. والذين بقوا، حملوا ندوب الحرب في أرواحهم، ندوبًا سترافقهم طوال حياتهم. لقد كانت طفولتهم أشبه بـ”ولادة مُبتسرة”، ولادة في عالم قاسٍ لم يُمهلهم ليعيشوا براءتهم.

في المخيمات، كانت معاناة النساء والأطفال تتجلى في أبشع صورها. كانت أمهات يرىن أطفالهن يتضورون جوعًا ولا يجدن ما يُطعِمنهم، ونساء يُجبَرن على تحمل مسؤوليات تفوق قدراتهن. الفقر المدقع، غياب الرعاية الصحية، ونقص الغذاء، جعل المخيمات بيئة قاتلة لهذه الأرواح البريئة. ومع كل موت لطفل أو كل دمعة أم، كانت تتردد في أعماق الروح أسئلة وجودية لا إجابة لها: هل هذا هو القدر المحتوم؟ هل هذه هي إنسانية العالم؟ هل “الولادة” في هذا العالم يمكن أن تكون لعنة لا نعمة؟ هذه الأسئلة تعمق الشعور بأن هذه التجربة ليست مجرد مأساة عابرة، بل هي حقيقة وجودية تُشكل جوهر الوعي بالذات، وتُعلن أن “الولادة المتجددة” لن تتوقف حتى يعمّ السلام.

معاناة النساء والأطفال في قلب الحرب هي تجسيد للعبثية التي تحدث عنها كامو، حيث يبدو العالم خاليًا من العدالة عندما تُسلب البراءة وتُهدد الحياة. لكن، كما يؤكد كامو، فإن مواجهة العبث تتطلب التمرد، وهذا التمرد تجسد في إصرار النساء على حماية أطفالهن، في كل دمعة تُروي الأرض، في كل همسة أمل تُشعل الظلام. يقول نيتشه إن “الألم هو المعلم الأعظم”، وفي هذه المخيمات، كان الألم يعلم النساء والأطفال قوة الصمود، يحولهن إلى رموز لإرادة الحياة. يقول فرانكل إن “المعاناة تصبح محتملة عندما تكون ذات هدف”، وهنا كان الهدف هو الحفاظ على بذرة الأمل، على البراءة، حتى لو كانت مهددة بالجوع والحرب. يقول هايدغر إن “الكينونة تتجلى في العناية”، وفي هذه الجبال والمخيمات، كانت العناية الأمومية، الحماية التي قدمتها النساء، تجسيدًا للكينونة في أنقى صورها. يضيف سارتر أن “الحرية هي ما نفعله بما يُفعل بنا”، وفي هذا السياق، كانت النساء يصنعن حريتهن من خلال تحويل ضعفهن إلى قوة، من خلال إيمانهن بأن الحياة تستحق الكفاح. يقول كيركغور إن “اليأس هو مرض الروح”، لكن هذه النساء والأطفال، رغم كل اليأس، كانوا يحملون في قلوبهم قفزة إيمانية، إيمانًا بأن “الولادة المتجددة” ليست لعنة، بل هي شهادة على قوة الروح الكوردية، على قدرتها على تحدي العاصفة والخروج منها أقوى، حاملة شعلة الأمل للأجيال القادمة.

 

مرارة اتفاقية سايكس بيكو: الوطن المُجزأ وإرثها الثقيل

في التاريخ، ليست كل الجروح تلتئم، وليست كل الخرائط تُعاد رسمها. فبعض القرارات العابرة تُصبح لعنة أبدية، تُقسم الأوطان وتُشتت الشعوب. هل يمكن لروح أن تجد السلام وهي مُقطّعة الأوصال، مُبعثرة بين حدود صنعها الغريب؟ وكما قال المفكر الفرنسي جاك دريدا، أن “التفكيك يكشف عن البحث عن المعنى الكامن في النص”، فهل اتفاقية سايكس بيكو كانت نصاً تاريخياً يتطلب تفكيكه ليعلن عن “ولادة مستمرة” للألم؟
إن اتفاقية سايكس بيكو، التي أبرمت عام 1916 بين فرنسا وبريطانيا خلال الحرب العالمية الأولى، لم تكن مجرد اتفاقية لتقسيم الأراضي العثمانية. كانت بمثابة “عملية جراحية كبرى” على جسد الشرق الأوسط، زرعت فيه بذور التفكك والانقسام، وقسمت شعب الكورد إلى أربع قطع، وزعتها على دول جديدة لم تعترف بوجودهم أو حقوقهم. لم تكن هذه الاتفاقية مجرد خطوط على خريطة، بل كانت خطوطًا على قلوبنا وأرواحنا، حولت الوطن الواحد إلى أربعة أوطان مبعثرة، كل قطعة منها تعاني تحت حكمٍ غريب.
منذ ذلك الحين، أصبح الكوردي يعيش في حالة دائمة من الاغتراب داخل وطنه الأم. في تركيا، في إيران، في سوريا، وفي العراق، كان يُعامل كغريب في أرضه، تُمنع لغته، وتُقمع هويته، وتُسفك دماؤه بلا رحمة. إرث سايكس بيكو لم يكن مجرد إرث سياسي، بل كان إرثًا وجوديًا ثقيلًا، فرض على الكورد “ولادة” قسرية في كل من هذه الأوطان الفرعية، ولادة تُجبرهم على التكيف مع واقع لا يعترف بوجودهم الكامل. كانت كل محاولة للمطالبة بالحقوق تُقابل بالقمع الوحشي، وكل حلم بالوحدة يُقابل بالتشظي والتمزيق.
مرارة هذه الاتفاقية لم تكن تكمن في التقسيم الجغرافي فحسب، بل في تقسيم الروح. لقد جعلت الكوردي يعيش في حالة دائمة من التمزق بين الانتماء إلى وطنه الأم الذي يتجاوز الحدود، وبين الضرورات القاسية للعيش تحت حكمٍ غريب. إنها “ولادة جديدة” لوعيٍ مؤلم بأن الوجود لا يمكن أن يتحقق بالكامل ما دام الوطن منقسماً، ما دامت الهوية مهددة، ما دامت الدماء تُسفك على حدودٍ رسمها الغرباء.
هذا الإرث الثقيل لسايكس بيكو يطرح سؤالاً وجودياً أعمق: هل يمكن لشعب أن يحقق “الولادة الكاملة” لوجوده وكرامته، وهو ما زال تحت تأثير لعنة تاريخية لم تُصنع بأيديه؟ هل يمكن أن يشفى جسدٌ مُقطّع، وتلتئم روحٌ مُبعثرة، ما دامت هذه الاتفاقية تُرخي بظلالها على حاضرنا ومستقبلنا؟ هذه المرارة هي جزء لا يتجزأ من سيرة الاغتراب الكوردية، فهي التي تُشكل وعينا الدائم بالظلم، وتدفعنا نحو البحث عن معنى للوجود يتجاوز هذه الحدود المصطنعة.

لكن مرارة سايكس بيكو لا تكتمل إلا بفهم ما سبقها وما تلاها من خيانات تاريخية، أبرزها إلغاء معاهدة سيفر واستبدالها بمعاهدة لوزان، في واحدة من أبشع صفقات المصالح الدولية التي دُفنت فيها آمال شعب بأكمله. معاهدة سيفر، التي وُقّعت في 10 أغسطس 1920 عقب هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، كانت بمثابة وعدٍ نادر بالعدالة للكورد. لقد نصت هذه المعاهدة على حق الكورد في تقرير مصيرهم، ومنحتهم إمكانية إقامة دولة مستقلة في الأراضي التي يشكلون فيها الأغلبية. كانت لحظة تاريخية، وميض أمل في ظلام القمع، إعلانًا عن إمكانية “ولادة حقيقية” للوجود الكوردي كشعب حرّ يملك مصيره. لكن هذا الوعد لم يكن سوى وهمٍ سرعان ما تبخر تحت وطأة مصالح الدول الكبرى.
معاهدة سيفر، التي أُجبرت الدولة العثمانية على توقيعها كجزء من تفككها، أثارت غضب القوميين الأتراك بقيادة مصطفى كمال أتاتورك، الذين رأوا فيها تهديدًا لوحدة تركيا الناشئة. ألهبت شروط المعاهدة، التي تضمنت التخلي عن الأراضي العثمانية غير الناطقة بالتركية ومنح الكورد حق تقرير المصير، حالة من العداء القومي. قاد أتاتورك حرب الاستقلال التركية، التي أفضت إلى معاهدة لوزان في 24 يوليو 1923، وهي معاهدة سلام وُقّعت في سويسرا بين تركيا والحلفاء المنتصرين في الحرب العالمية الأولى. هذه المعاهدة، التي ألغت سيفر بالكامل، لم تُشر حتى إلى وجود الكورد كشعب له حقوق، بل كرّست تقسيم أراضيهم بين تركيا، العراق، سوريا، وإيران، وفق خطوط سايكس بيكو. لقد كانت لوزان خنجرًا آخر في قلب الروح الكوردية، تكريسًا لإلغاء وجودهم السياسي، وتأكيدًا على أن مصالح الدول الكبرى تتفوق على العدالة.
لم تكن هذه الصفقة الدولية مجرد نتيجة للصراعات الإقليمية، بل كانت تعبيرًا عن بشاعة السياسات الاستعمارية التي أدارت الدول الكبرى مصالحها بلا أدنى اعتبار لإنسانية الشعوب. فرنسا وبريطانيا، اللتان كانتا قد وعدتا الكورد بحق تقرير المصير في سيفر، تخلتا عن هذا الوعد لإرضاء تركيا الناشئة، التي كانت حجر زاوية في توازن القوى الإقليمي. لقد كانت مصالح الدول الكبرى، من النفط إلى النفوذ الجيوسياسي، هي المحرك الوحيد وراء هذا التواطؤ. الكورد، الذين قاتلوا إلى جانب الحلفاء في الحرب العالمية الأولى، وجدوا أنفسهم مُضحّى بهم على مذبح السياسة، أرواحهم مُهددة، وأحلامهم مُداسة. هذا التواطؤ لم يكن مجرد خيانة سياسية، بل كان اعتداءً ميتافيزيقيًا على الكينونة، محاولة لإلغاء الوجود الكوردي كشعب له حق في الحياة والحرية.
هذا الإلغاء لمعاهدة سيفر وتكريس معاهدة لوزان لم يُشكلا فقط تقسيمًا جغرافيًا، بل كانا تقسيمًا للروح، كما نصّ سايكس بيكو. الكوردي، الذي كان قد لمح وميض الحرية في سيفر، وجد نفسه محكومًا بالعيش في أوطان أربعة، كل منها يُنكر وجوده بطريقته. في تركيا، أُجبِر على أن يكون “تركيًا جبليًا”، وفي إيران وسوريا والعراق، عُومل كمواطن من الدرجة الثانية، أو كتهديد أمني. هذه الحدود المصطنعة لم تُقطّع الأرض فحسب، بل قطّعت الذاكرة، الهوية، والأمل. كانت كل محاولة للنهوض، كل صرخة للحرية، تُقابل بالقمع، كما لو أن العالم قد اتفق على أن الكوردي يجب أن يظل أسير هذه اللعنة التاريخية.
عدم إنسانية الدول الكبرى في إدارة مصالحها تتجلى في هذا التواطؤ السافر، حيث تم التضحية بحقوق شعب بأكمله لأجل استقرار إقليمي مؤقت، أو لضمان تدفق النفط، أو لإرضاء قوى قومية صاعدة. هذه البشاعة ليست مجرد سياسة، بل هي إعلان عن أن قيمة الإنسان تُقاس بقوة الدول التي ينتمي إليها، لا بكرامته الجوهرية. كانت هذه الخيانة بمثابة “ولادة قسرية” لوعي كوردي جديد، وعي بالظلم العالمي، بالحاجة إلى الاعتماد على الذات، بالإصرار على أن الوجود لا يُمنح من الخارج، بل يُصنع من الداخل.
هذا الإرث الثقيل، من سايكس بيكو إلى سيفر إلى لوزان، يطرح سؤالاً وجودياً لا يزال يتردد: هل يمكن لشعب أن يُحقق كينونته الكاملة في عالم يُدار بمثل هذه البشاعة؟ هل يمكن لروح أن تلتئم بعد أن قطّعتها أيدي الغرباء؟ الجواب يكمن في الصمود الكوردي، في كل تمرد ضد هذه الحدود، في كل حلم بالوحدة. هذه المرارة، رغم قسوتها، هي التي شكّلت الوعي الكوردي، ودفعته نحو “الولادة المتجددة”، ولادة لإرادة لا تُكسر، لروح ترفض أن تُمحى، حتى في وجه أعظم الخيانات.

اتفاقية سايكس بيكو، مع إلغاء سيفر وتكريس لوزان، ليست مجرد أحداث تاريخية، بل هي جروح ميتافيزيقية، كما يمكن أن يراها هايدغر، حيث تُقطّع الكينونة وتُبعثرها عبر حدود مصطنعة. يقول هايدغر إن “الكينونة تتجلى في العلاقة مع العالم”، لكن عندما يُقسم العالم نفسه، ويُنكر وجود شعب، يصبح الوجود مشوهًا، محكومًا بالاغتراب. هذا الاغتراب الذي عاشه الكورد هو تجسيد لما يسميه سارتر “الوجود للآخر”، حيث يُعرّف الإنسان من خلال نظرة الدول الكبرى القامعة. لكن، كما يؤكد سارتر، فإن الحرية تكمن في رفض هذا التعريف، وهذا الرفض تجسد في كل صرخة كوردية ضد الظلم، في كل تمرد ضد الحدود المفروضة. يقول نيتشه إن “الإنسان الأعلى” هو من يتجاوز آلامه، وفي هذا السياق، كان الكورد يتجاوزون خيانة سيفر ولوزان من خلال إصرارهم على الحلم بالوحدة، على التمسك بالهوية. يقول كامو إن “التمرد هو إعلان عن قيمة الإنسان”، وهنا كان التمرد الكوردي ضد إرث هذه المعاهدات إعلانًا عن قيمة وجودهم، عن أحقيتهم في الحرية. يقول فرانكل إن “المعنى يمكن أن يُوجد في المعاناة”، وفي هذه الحالة، كان المعنى يكمن في البحث عن وطن موحد، في الإيمان بأن الروح يمكن أن تلتئم رغم التقسيم. يضيف كيركغور أن “الإيمان هو الشغف بالممكن”، وفي هذه المرارة، كان الإيمان الكوردي بالممكن، بحلم العدالة، هو ما أعطى لـ”الولادة المتجددة” بعدها الميتافيزيقي. هذه الخيانات، من سيفر إلى لوزان، كشفت عن بشاعة العالم، لكنها أيضًا أيقظت وعيًا كورديًا، وعيًا بأن الوجود لا يُمنح من الدول الكبرى، بل يُصنع بالدم والإرادة، في تحدٍ أبدي للظلم والبشاعة.

 

بين التواطؤ الدولي والصمت الإقليمي: أسئلة عن الضمير الكوني

في عالمٍ يدّعي الحضارة والعدالة، ويُرفع فيه شعار حقوق الإنسان، تظل بعض المآسي حبيسة الصمت، وبعض الشعوب تُترك لمصيرها، وكأنها غير موجودة على خارطة الضمير الكوني. فهل الصمت تواطؤ؟ وهل غياب الفعل هو شكل آخر من أشكال القتل؟ وكما قال الكاتب الروماني إيلي ويزل: “الصمت في وجه الشر هو بحد ذاته شر: فالرب لا يصمت، ويجب ألا نصمت نحن”. في رحلتنا الطويلة مع الألم، كانت “الولادة المتجددة” للشك في هذا الضمير الكوني هي الأشد قسوة.

بعد الانتفاضة الكبرى عام 1991، وبعد النزوح المليوني الذي شهدته الجبال والحدود، حيث مات الآلاف من البرد والجوع والمرض، كان العالم يراقب بصمتٍ مريب. المجتمع الدولي، الذي كان قد تدخل لإنقاذ الكويت، ترك شعب كوردستان يواجه مصيرًا مجهولًا تحت قصف الطائرات والمدافع. لم تُرفع أصوات الإدانة بقوة، ولم تُقدم المساعدات الإنسانية الكافية، وكأن دم الكوردي أقل قيمة من دماء الآخرين. هذا التواطؤ الدولي الصامت، أو ما يُسمى “الصمت العظيم”، كان بمثابة حكمٍ بالإعدام على أرواحٍ بريئة، وإعلان عن أن مصالح الدول تتفوق على القيم الإنسانية.

هذا الصمت لم يكن فقط على المستوى الدولي، بل على المستوى الإقليمي أيضًا. فالدول المجاورة، التي كانت ترى في معاناة الكورد فرصة لتعزيز نفوذها أو لتحقيق أجنداتها الخاصة، لم تُقدم الدعم الكافي، بل بعضها، كما ذكرنا سابقاً، مارست التمييز والعنصرية، وزادت من معاناة اللاجئين. لم تكن هناك إرادة إقليمية لإنقاذ شعب يُذبح على مرأى ومسمع الجميع، بل كان هناك تفضيل للمصالح الجيوسياسية على حساب الأرواح البشرية.

هذا التواطؤ والصمت يطرح أسئلة وجودية عميقة عن الضمير الكوني: هل الإنسانية مجرد شعار أجوف يُرفع في المحافل الدولية، بينما تُمتهن كرامة الإنسان على أرض الواقع؟ هل قيمة الوجود تُحددها قوة الدول، أم أنها قيمة مطلقة لكل كائن بشري؟ هل يمكن لضمير العالم أن ينام مطمئنًا بينما يُقتل الأطفال وتُهدم القرى وتُطارد الشعوب؟ هذه الأسئلة تُعيد “ولادة جديدة” للشك في مفهوم العدالة العالمية، وتُرسخ في وعينا أن خلاصنا لن يأتي إلا من أنفسنا، وأن الوجود الحقيقي يُصنع بالصمود والإيمان بالذات، لا بالاعتماد على ضمير عالمي لا يتحرك إلا بالمصالح. إنها “ولادة للوعي بالاستقلالية الوجودية“.

الصمت الدولي والإقليمي إزاء مأساة الكورد هو تجسيد لما يسميه سارتر “سوء النية”، حيث يتجنب العالم مسؤوليته الأخلاقية بدعوى المصالح. هذا الصمت ليس مجرد غياب صوت، بل هو فعل وجودي يُسهم في إدامة المعاناة، كما يقول إيلي ويزل. يقول هايدغر إن “الكينونة تتطلب المواجهة مع العدم”، وفي هذا الصمت، كان العدم يتجلى في تجاهل العالم لأرواح الكورد، لكنه أيضًا أثار وعيًا جديدًا، وعيًا بالاستقلالية الوجودية. يقول كامو إن “التمرد هو إعلان عن الكرامة”، وهنا كان تمرد الكورد ضد هذا الصمت يتجسد في صمودهم، في إيمانهم بأن خلاصهم لن يأتي من الخارج. يقول نيتشه إن “الإنسان يجب أن يخلق قيمه الخاصة”، وفي هذه المأساة، كان الكورد يخلقون قيمهم من خلال الإصرار على الحياة، على الكرامة، رغم تواطؤ العالم. يقول فرانكل إن “المعنى يمكن أن يُوجد في أحلك الظروف”، وهنا كان المعنى يكمن في الإيمان بالذات، في الوعي بأن الوجود الكوردي لا يعتمد على اعتراف العالم، بل على إرادته الداخلية. يضيف كيركغور أن “القلق هو بوابة الإيمان”، وفي هذا الشك في الضمير الكوني، كان الكورد يقفزون قفزة إيمانية، إيمانًا بأن “الولادة المتجددة” ليست مجرد رد فعل على الصمت، بل هي إعلان عن قوة الروح التي تصنع مصيرها بنفسها، تتحدى العدم وتؤكد على وجودها في وجه كل التواطؤ.

 

العودة إلى الوطن: حماية وبناء… وتحديات الوجود الجديد

بعد طول غياب، وبعد رحلة شاقة عبر جبال الألم ومخيمات اليأس، بدأت إشراقة أمل تلوح في الأفق: العودة إلى الوطن. لم تكن هذه العودة مجرد حركة جسدية، بل كانت “ولادة متجددة” لأملٍ طال انتظاره، وعودة إلى جوهر الوجود ذاته. فهل يمكن للأرض أن تُحيي الأرواح المنهكة؟ وهل يُمكن للأمل أن ينمو في تربةٍ مُروّاة بالدم؟ كما قال الروائي الروسي ليو تولستوي: “السعادة ليست أن تفعل ما تحب، بل أن تحب ما تفعل”. وفي حب الوطن، تجد الأرواح المنهكة سعادة لا تُضاهى.

بعد أن تدخلت بعض القوى الدولية المتأخرة، وإعلان مناطق الحظر الجوي في شمال العراق (المنطقة الآمنة) في نيسان 1991، بدأت موجات العودة تتشكل. لقد كان قرارًا متأخرًا، لكنه أنقذ ما يُمكن إنقاذه من أرواح. عادت الملايين من اللاجئين إلى قراهم ومدنهم، التي كانت قد تحولت إلى أطلال. هذه العودة لم تكن سهلة، فالبنى التحتية كانت مدمرة بالكامل، والبيوت محروقة، والأراضي مزروعة بالألغام، والمستقبل مجهول. لكن في عيون العائدين، كانت هناك شرارة أمل، إيمان بأن الوطن يستحق كل هذا العناء.

بدأت عملية البناء من الصفر. الأيادي التي كانت بالأمس تحمل السلاح للدفاع عن الوجود، أصبحت اليوم تحمل معاول البناء لتعيد تشييد البيوت والمدارس والمستشفيات. كان الأطفال يشاركون في هذه العملية، ينقلون الحجارة الصغيرة، ويراقبون آباءهم وهم يبنون مستقبلهم بأيديهم. كانت هذه اللحظات تجسيدًا حقيقيًا لـ”الولادة المتجددة”، ليس فقط للبيوت والمدن، بل لروح المجتمع نفسه، روح ترفض اليأس وتصر على الحياة.

لكن تحديات الوجود الجديد لم تكن سهلة. فالحصار الاقتصادي المفروض على العراق، والصراعات السياسية الداخلية، ونقص الموارد، كلها كانت تُلقي بظلالها على عملية البناء. كانت هناك حاجة ماسة إلى دعم دولي حقيقي، لا مجرد إعلانات جوفاء. كان الشعب يعيش في حالة دائمة من التحدي، يبني بيد، ويقاوم بيد أخرى. لقد كانت تجربة مُرهقة، لكنها كانت تُعلمنا معنى الصمود الحقيقي، ومعنى الانتماء العميق إلى الأرض.

هذه العودة إلى الوطن، بكل ما حملته من آمال وتحديات، هي فصل جديد في سيرة الاغتراب. إنها تؤكد أن الوطن ليس مجرد مكان نولد فيه، بل هو مكان نصنعه بأيدينا، مكان نرويه بدموعنا وعرقنا وأملنا الذي لا يموت. إنها “ولادة ثامنة” للوطن من رحم الدمار، وللإنسان من رحم اليأس، تؤكد أن الوجود الحقيقي يكمن في القدرة على البناء، حتى في أقصى الظروف، وأن الأمل هو المحرك الدائم لـ”الولادات المتتالية” التي لا تتوقف.

العودة إلى الوطن هي أكثر من مجرد حركة جغرافية؛ إنها ولادة ميتافيزيقية، كما يمكن أن يراها هايدغر، حيث يعود الإنسان إلى “الكينونة في العالم”، إلى الأرض التي تُعطي لوجوده معنى. يقول هايدغر إن “السكن هو طريقة الإنسان في الكينونة”، وفي هذه العودة، كان الكورد يعيدون بناء ليس فقط بيوتهم، بل طريقتهم في الوجود، في السكن على أرضهم رغم الدمار. يقول سارتر إن “الإنسان يصنع ذاته من خلال أفعاله”، وهنا كان كل حجر يُوضع، كل مدرسة تُبنى، فعلًا يُعرّف الذات الكوردية، يؤكد على حريتها في تشكيل مصيرها. يقول نيتشه إن “الإنسان الأعلى” هو من يخلق قيمه في مواجهة الفوضى، وفي هذه الأطلال، كان الكورد يخلقون قيم الصمود، الأمل، والانتماء. يقول كامو إن “التمرد هو إعلان عن الحياة”، وهذه العودة كانت تمردًا ضد اليأس، ضد الحصار، ضد المجهول. يقول فرانكل إن “المعنى يمكن أن يُوجد في العمل الخلاق”، وفي هذه العملية، كان بناء الوطن عملًا خلاقًا، يُعطي للمعاناة هدفًا، يحول الدمار إلى بذرة للمستقبل. يضيف كيركغور أن “الإيمان هو مواجهة المستحيل”، وفي هذه العودة، كان الإيمان بالوطن، بالمستقبل، قفزة نحو المستحيل، ولادة لروح ترفض أن تُهزم، تؤكد أن “الولادة الثامنة” ليست مجرد استعادة للمكان، بل هي إعادة خلق للذات، للمجتمع، للوجود الكوردي بأسره.

 

لحظة التصويت: صدى الألم ووميض الأمل

في رحلة الشعوب نحو تقرير المصير، تأتي لحظات قليلة تُكثّف فيها قرون من الألم وتلخص آمال أجيالٍ كاملة. لحظة التصويت هي إحدى هذه اللحظات، فهي ليست مجرد فعل سياسي، بل هي تجلٍّ وجودي، إعلانٌ عن “ولادة جديدة” لإرادة شعبية تتجاوز القمع إلى فضاء الديمقراطية. فهل يمكن لصوتٍ واحدٍ، لقطرة حبرٍ على ورقة، أن تُغير مجرى التاريخ؟ وكما قال الروائي الإنجليزي جورج أورويل: “في زمن الخداع الشامل، قول الحقيقة هو عمل ثوري”. وهنا، كان التصويت هو الحقيقة المطلقة التي نطق بها شعبنا.

في عام 1992، بعد عام واحد فقط من الانتفاضة والعودة، وعلى الرغم من الظروف الصعبة والدمار الذي لحق بالبلاد، أُجريت أول انتخابات برلمانية في كوردستان. كانت هذه الانتخابات حدثًا غير مسبوق، لم يشهد له تاريخنا مثيلاً. كانت لحظة تاريخية، تجاوزت كل التوقعات، حيث اصطفّ الشعب الكوردي، نساءً ورجالاً، شيوخًا وأطفالًا، في طوابير طويلة أمام مراكز الاقتراع، حاملين في قلوبهم أحلامًا لم يُسمح لهم بها من قبل. كنتُ هناك، أقف في الطابور الطويل، وأرى في عيون الناس مزيجًا من الترقب والأمل، مزيجًا من الخوف من الماضي الذي لا يزال يُطاردنا، والفرح بمستقبلٍ نخطّه بأيدينا.

لقد كانت كل بصمة إصبع على ورقة الاقتراع بمثابة توقيع على عقدٍ جديد مع الوجود، توقيع يُعلن عن حقنا في تقرير مصيرنا، في بناء مستقبلنا بأنفسنا. لم تكن مجرد انتخابات، بل كانت طقسًا مقدسًا، احتفالًا بالوجود الذي انتُزع من بين أنياب الموت. في كل صوت، كان هناك صدى لصرخات الشهداء، وهمسات الأمهات الثكلى، وأنين الأطفال الذين ماتوا جوعًا. كانت هذه الأصوات ترتفع إلى السماء، تُعلن أن تضحياتهم لم تذهب سدى، وأن دمائهم روت شجرة الحرية، لتُثمر هذه “الولادة الديمقراطية“.

بالنسبة لي، كانت لحظة التصويت هذه بمثابة “ولادة تاسعة”، ولادة للذات السياسية التي تدرك أن وجودها ليس منفصلاً عن وجود شعبها. لقد شعرت بأنني جزء من كيان أكبر، جزء من حلمٍ جماعي يتجسد في صناديق الاقتراع. كانت هذه اللحظة تُعلمنا أن الحرية ليست مجرد غياب للقمع، بل هي قدرة على الاختيار، على تحديد مصيرنا بأنفسنا، وأن الديمقراطية ليست مجرد نظام حكم، بل هي فلسفة حياة، تُمكن الإنسان من أن يكون فاعلًا في تاريخه، لا مجرد متفرج.

لكن الفرحة لم تكن كاملة، فظل شبح الماضي يُطاردنا. الأراضي المتنازع عليها، مثل كركوك وخانقين وسنجار، ظلت خارج السيطرة الكوردية، وهذا كان تذكيرًا مؤلمًا بأن “الولادة” الديمقراطية هذه ما زالت ناقصة، وأن الوطن ما زال مُجزّأ. لكن حتى في هذا النقص، كان هناك أمل، أمل في أن يأتي يومٌ يُكتمل فيه حلم الوطن، وتتحقق فيه الولادة الكاملة للوجود الكوردي. هذه اللحظة، بكل ما حملته من ألم وأمل، كانت شاهدًا على أن إرادة الشعب هي القوة الحقيقية التي تُشكل التاريخ، وأن كل صوت، مهما كان خافتًا، يمكن أن يُحدث فرقًا، ويُسهم في “الولادة المتجددة” للوطن.

فلسفة اللحظة:

في أعماق كل تجربة بشرية، تكمن “فلسفة اللحظة”، تلك الفلسفة التي لا تُكتب في الكتب، بل تُعاش بالدم والروح. إنها تلك اللحظات الفاصلة التي تُعيد تعريف الوجود، وتُغير مسار القدر. فهل اللحظة مجرد نقطة في الزمن، أم أنها وعاءٌ يحوي أبعادًا لا نهائية من المعنى؟ وكما قال مارتن بوبر: “الحياة الحقيقية هي اللقاء”. وفي لحظات اللقاء هذه مع الألم، مع الحرية، مع الاغتراب، ومع الولادة المتجددة، تتجلى حقيقة الوجود.

في سيرة الاغتراب التي أعيشها، تتشكل “فلسفة اللحظة” من تراكُم الولادات المتجددة. الولادة الجسدية من رحم الأم، ثم الولادة الواعية في ظلمة السجن، ثم الولادة الجمعية مع الانتفاضة، فولادة الذات المقاوِمة في قتال البيشمركة، ثم ولادة الوعي بالوحدة في معركة كۆڕێ، فولادة الصمود في النزوح المليوني، ثم ولادة الأمل في العودة والبناء، وأخيرًا، ولادة الذات السياسية في لحظة التصويت. كل هذه الولادات ليست مجرد أحداث متسلسلة، بل هي طبقات من الوعي تتراكم، تُشكل جوهر “الولادة الأبدية” للذات التي ترفض الفناء.

إن “فلسفة اللحظة” تعلمنا أن المعاناة ليست نهاية، بل هي بوابة نحو فهم أعمق للوجود. الألم يُصبح معلمًا، واليأس يتحول إلى وقود للأمل، والفقدان يُصبح دافعًا للبحث عن المعنى. في كل لحظة قاسية، هناك فرصة للنمو، للتحول، لـ”ولادة جديدة” للروح. هذا لا يعني أننا نُمجّد الألم، بل نُدرك أن الحياة، بكل تناقضاتها، تُقدم لنا فرصًا لا نهاية لها لإعادة تعريف أنفسنا، وللتعبير عن إرادتنا الحرة في وجه كل القيود.

هذه الفلسفة تعلمنا أيضًا أن الوجود ليس ثابتًا، بل هو ديناميكي، يتجدد مع كل تحدٍّ جديد. نحن لا نولد مرة واحدة فحسب، بل نُولد مرارًا وتكرارًا، في كل مرة نُجبر فيها على مواجهة المجهول، على التخلي عن المألوف، وعلى البحث عن معنى جديد للحياة. إنها رحلة مستمرة من التحولات، من الموت الرمزي والبعث الدائم، حيث تتشكل الروح وتُصقل، لتصبح أكثر قوة، وأكثر وعيًا بحدودها اللانهائية.

إنها “فلسفة اللحظة” التي تُدرك أن الحاضر هو كل ما نملك، وأن المستقبل يُصنع من خلال اختياراتنا في اللحظة الراهنة. لا يمكننا تغيير الماضي، لكن يمكننا أن نُعيد تفسيره، وأن نُحول الألم الذي عشناه إلى قوة دافعة نحو مستقبل أكثر إشراقًا. هذه الفلسفة تُعيد “ولادة” الأمل في كل قلب يائس، وتُعلن أن الإرادة الحرة هي المفتاح الحقيقي للتحرر، وأن الوجود ليس مجرد قدر، بل هو مسارٌ نصنعه بأنفسنا، في كل لحظة من لحظات حياتنا.

خاتمة الفصل: الانتفاضة كإجابة حية لشعب كوردستان

في ختام هذا الفصل، الذي حاول أن يحفر في ذاكرة الألم والأمل، يتبين لنا أن الانتفاضة الكبرى عام 1991 لم تكن مجرد حدث تاريخي عابر، بل كانت “إجابة حية” لشعبٍ أُقنِع طويلاً بعبثية وجوده. لم تكن مجرد ثورة سياسية، بل كانت تجليًا وجوديًا، إعلانًا صريحًا عن حقنا في الحياة والكرامة، و”ولادة متجددة” لإرادة شعبية لا تعرف الانكسار.

لقد عاش الكورد قرونًا طويلة تحت وطأة الظلم والقمع والتمييز، مُجزّئين بين دول لا تعترف بوجودهم. لقد ذاقوا مرارة الأنفال وحلبجة، وتيهوا في جحيم المخيمات، لكنهم لم يستسلموا للعدمية التي حاولت أن تبتلع أرواحهم. الانتفاضة كانت صرخة جماعية، صرخةٌ تجاوزت الألم لتُعلن عن قوة الروح، عن قدرة الإنسان على الصمود في وجه أقسى الظروف. كانت بمثابة إجابة على سؤال الوجود الأعمق: كيف يمكن لروح أن تبقى حية حين يُحرم منها كل شيء؟ الإجابة كانت في فعل الثورة ذاته، في إصرارنا على البقاء، على البناء، وعلى استعادة المعنى.

إن هذه الانتفاضة لم تكن نهاية المطاف، بل كانت بداية لفصول جديدة من الصراع والتحديات. لقد ولدت لنا وطنًا محررًا، لكنه وطنٌ ما زال يواجه تحديات داخلية وخارجية. لقد منحتنا فرصة لبناء مستقبلنا بأنفسنا، لكنها فرضت علينا مسؤوليات جسيمة. إنها “ولادة مستمرة” لمشروع وطني لا يتوقف، مشروع يهدف إلى تحقيق الولادة الكاملة لوجودنا الحر والكريم.

هذا الفصل، بكل ما فيه من آلام وآمال، هو شهادة حية على أن الذاكرة لا تموت، وأن الأمل يتجدد، وأن الوجود ليس قدرًا مفروضًا، بل هو اختيار يومي، فعل مستمر من المقاومة والبناء. إنه دعوة لكل من يقرأ هذا الكتاب أن يؤمن بقوة الروح البشرية، وبقدرتها على تجاوز الظلام نحو النور، حتى لو كانت هذه الرحلة محفوفة بالصعاب والاغتراب.

 

خاتمة: في مرآة الروح – شفق الحرية وفجر الاغتراب

تلك الرياح التي عصفت بقلوبنا في “الفجر الدامي”، لم تكن مجرد نُذر ثورة عسكرية أو تحرر سياسي. كانت، في جوهرها العميق، إيقاظًا ميتافيزيقيًا لروحٍ أُقنِعت طويلاً بعبثية وجودها. لقد انتفضنا من رماد الأنفال وحلبجة، لا كضحايا فحسب، بل كفاعلٍ تاريخي، حُطّم قيد الصمت بسيف الصرخة. كل زقاق في أربيل ودهوك، كل جبل في السليمانية، شهد على ميلاد وعيٍ جماعيٍّ جديد، وعيٍ لم يأتِ من كتب الفلسفة، بل من لحمٍ ودمٍ وروعة الألم. كنا نلمس الحرية بأيدينا المرتعشة، لا كفكرة مجردة، بل كحقيقة ملموسة، كالماء البارد بعد ظمأٍ سرمدي. كان هذا هو الانتصار الأعظم: انتصار الروح على محاولات التذويب، انتصار الذاكرة على طمس التاريخ، وهو ما أعتبره “ولادة رابعة” للوعي الجمعي المتجدد الذي يرفض الفناء.

لقد كانت لحظة التصويت، تلك اليد الممدودة نحو صندوق الاقتراع، أكثر من مجرد فعل سياسي؛ كانت طقسًا وجوديًا، ولادة خامسة لروحٍ تمردت على الموت البطيء. في كل بصمة إصبع، كان هناك صوت شهيد يُبعث من قبر جماعي، وهمسُ أمٍّ ثكلى تُعلن أن ألمها لم يذهب سدى. لقد تحول الكوردي من “مفعول به” في معادلة القهر إلى “فاعل” يكتب بدموعه وقلمه دستور وجوده. هذه ليست مجرد حكاية شعبٍ ناضل، بل هي ملحمة “كايزن” على المستوى الوجودي: كيف يمكن للبشر، في أقسى الظروف، أن يجدوا معنىً، أن يخلقوا نظاماً من الفوضى، وأن يزرعوا بذور العدالة في تربة مُروّاة بالظلم؟ لقد كانت تلك هي اللحظة التي أثبتنا فيها، ليس للعالم فحسب، بل لأنفسنا قبل كل شيء، أننا كائنات قادرة على تجاوز الألم، على صناعة المعنى، وعلى بناء مستقبل لا ينبثق فقط من الرغبة، بل من ضرورة بقاء الروح، وكأننا نُجادل الفلسفة العدمية بفعلنا الحي، مؤكدين أن الوجود هو اختيار لا حتمية.

لكن ما قيمة الحرية إن كانت أسوارها خفية، وأغلالها تُصاغ من ضرورات البقاء؟ فبينما كنا نُشيّد برلماننا الأول، ونبني حكومة وليدة من رحم الانتخابات الديمقراطية – وهي خطوة لم يشهدها تاريخنا المكتوب من قبل – كانت رياح الواقع تهبّ بعنف، حاملة معها غبار الحصار والفقر. إنها المفارقة الوجودية الكبرى: أن تُكافح لتنال حريتك، ثم تجد أن هذه الحرية نفسها تُكبّلها قيود اقتصادية واجتماعية أكثر خفاءً وأشد وطأة من السلاسل الظاهرة. كان الوطن الذي حلمنا به “مُنهكًا حتى العظم”، كجسدٍ أرهقته الحمى، ما زال يئن من جراحٍ لم تلتئم، وحصارٌ لم يُرفع. هنا قد يُجادل البعض بأن “الوجود” في الحرية المادية قد يكون كافيًا، لكن تجربتنا تقول إن “الماهية” الحقيقية، أي معنى وكيفية هذا الوجود، تظل مهددة ما دامت الظروف القاسية تُجبرنا على خيارات لا نرغبها.

هنا تتجلى حقيقة ما قاله جان بول سارتر: “الوجود يسبق الماهية”. لقد وُجدنا ككورد، حُررنا، أقمنا مؤسساتنا. لكن ماهيتنا – كيف سنكون، وكيف سنعيش – كانت تتشكل في سياقٍ قاسٍ، دفعنا إلى سؤالٍ وجودي جديد: هل يمكن للروح أن تزدهر في جسدٍ مُعذّب، وهل يمكن للحرية أن تتحقق في فقرٍ مدقع؟ كانت هذه التحديات، على قسوتها، هي التي دفعت بفعل “الاغتراب” نحو فضاءٍ آخر. فالهجرة التي بدأت كـ “نزيف للأرواح”، لم تكن مجرد هروب من الفقر، بل كانت بحثًا عن معنى، عن كرامة، عن فضاءٍ تُستكمل فيه الولادة الخامسة التي بدأناها، أي ولادة الماهية التي نبحث عنها، والتي تُدشن “ولادة سادسة” للذات في عالم جديد. قد يقول البعض إنها مجرد هروب، لكننا نراها كفعل وجودي: إعادة تعريف الذات في مواجهة واقع لا يمنحنا فرصة العيش بكرامة على أرضنا.


وكيف يمكن للإنسان أن يجد وطنه في عالمٍ يرفضه؟ هذا السؤال تجسد في لحظات العبور الأولى نحو المنفى، عندما غادرتُ كوردستان عبر طرق غير شرعية، متسللاً بين جبالها الشامخة، حيث كانت الحدود بين كوردستان المقسمة وتركيا ليست مجرد خطوط، بل جروحاً نازفة في جسد الأمة. في منطقة “جل ميرك”، حيث اشتعلت نيران المعارك الدامية بين المعارضة الكوردستانية والجيش التركي، بدأ الاغتراب الحقيقي. لم يكن الاغتراب مجرد فراق للأرض، بل كان انقطاعاً ميتافيزيقياً عن الذات، عن الوطن الذي كان ينبض في قلبي كجزء من كينونتي. تلك الجبال، التي كانت يوماً ملجأً لأحلامنا، تحولت إلى ساحة صراع، حيث كل رصاصة كانت صرخة ضد النسيان، وكل انفجار كان تأكيداً على أن الوجود الكوردي لن يُمحى. لكن في تلك اللحظات، وسط دوي الحرب، أدركتُ أن المنفى ليس مجرد مكان، بل حالة وجودية، رحلة داخلية تبدأ عندما تُجبر على التخلي عن جزء من روحك لتبقى حياً. كان عبور الحدود، تحت وطأة الرصاص وهدير المدافع، بمثابة “ولادة سابعة”، ولادة الذات التي تُعيد تعريف نفسها في مواجهة العدم، حاملة معها ذكريات الوطن كشعلةٍ لا تنطفئ، لكنها مضطرة للبحث عن معنى جديد في أرض غريبة.

هذا العبور لم يكن مجرد هروب من الموت، بل كان تمرداً على العبثية، كما يقول كامو، حيث يصبح الفعل نفسه، فعل الرحيل، تأكيداً على قيمة الحياة. في جل ميرك، بينما كنت أختبئ خلف صخرة باردة، محاطاً بنيران المعركة، شعرتُ بأنني أحمل كوردستان في قلبي، ليس كأرض فحسب، بل كفكرة، كإرادة لا تلين. كل خطوة كانت اختباراً للروح، كأن الجبال نفسها تسألني: “هل تستحق الحرية؟ هل تستحق أن تحمل اسم شعبك في المنفى؟” وكان جوابي في كل نفس أتنفسه، في كل لحظة أقاوم فيها اليأس: “نعم، لأن الوجود الكوردي هو مقاومة، ولأن المنفى ليس نهاية، بل بداية لصراع جديد.” هذا الصراع، الذي بدأ في جل ميرك، كان بمثابة إعلان ميتافيزيقي: الوطن ليس مجرد تراب، بل هو الروح التي تحمل ذكريات الشعب وأحلامه، وهذه الروح لا يمكن أن تُسجن بحدود أو تُمحى بنيران الحرب.

في تلك اللحظات، تذكرتُ كلام كيركغور عن “قفزة الإيمان”، حيث يصبح الإنسان، في مواجهة المجهول، مضطراً للقفز نحو الإيمان بذاته، بقدرته على التجدد. عبور الحدود كان قفزة إيمان، ليس بالوطن فحسب، بل بالذات التي ترفض أن تنكسر. لكن هذه القفزة لم تكن خالية من القلق الوجودي، ذلك القلق الذي ينشأ عندما تدرك أنك أصبحت غريباً في عالم لا يعرفك. ومع ذلك، كان هذا القلق نفسه وقوداً للإرادة، دافعاً للبحث عن معنى في المنفى. يقول فرانكل إن المعاناة تصبح محتملة عندما يكون لها هدف، وفي جل ميرك، كان الهدف هو البقاء، ليس كفرد فحسب، بل كحامل لروح شعب يرفض العدم. هذه “الولادة السابعة” لم تكن نهاية الرحلة، بل كانت بداية لرحلة أعمق، رحلة البحث عن الماهية في فضاء المنفى، حيث يُعاد تشكيل الذات والوطن في مواجهة الغربة.

كيف يمكن للإنسان أن يجد وطنه في عالمٍ يرفضه؟ هذا هو السؤال الجوهري الذي ستُجيب عنه الفصول القادمة من هذه السيرة. إنها الفصول التي تتحدث عن “الولادة السابعة”، الولادة من رحم المنفى. لم يكن الانتقال من كوردستان إلى تركيا، ثم إلى أستراليا، مجرد رحلة جغرافية؛ لقد كان عبورًا وجوديًا من عالمٍ مُعلّق بين التحرير والدمار، إلى عوالم جديدة ستُعيد تشكيل مفهوم الذات والوطن. ستُخبرنا الفصول القادمة عن طبيعة هذا المنفى الروحي والمادي، عن الوجوه التي سنلتقيها، عن اللغات التي ستُحيط بنا، وعن الثقافات التي ستُعيد تشكيل نظرتنا للعالم. ففي المنفى، يولد الإنسان مرة أخرى، ولكن هذه المرة في فضاء مفتوح، حيث تتفاعل هويته مع هويات أخرى، ليتساءل: هل الهوية شيء ثابت، أم أنها تتجدد مع كل ولادة جديدة؟ هل هي تتلاشى أم تتصلب؟ وكما قال أحدهم، وصدّقت هذه التجربة قولته: “الغربة ليست فراق الأوطان، بل فراق الأرواح”. وها نحن نجد أنفسنا في غربةٍ مزدوجة: غربة عن الوطن الذي ما زال يتشكل، وغربة في أوطانٍ جديدة لا تعرف حقيقة ماضينا، مما يدفعنا نحو “ولادة ثامنة” تتجاوز مفهوم الوطن الجغرافي.

لقد كانت الفصول الماضية حكاية الصراع من أجل الوجود والحرية المادية؛ أما الفصول القادمة، فستكون حفريات في جسد المنفى، بحثًا عن “الماهية” في زمنٍ جديد، ومحاولة لتعريف “الوطن” خارج حدود الجغرافيا. إنها رحلة في عالمٍ سيتسع فيه الفضاء لكنه قد يضيق على الروح، مما يستدعي “ولادة تاسعة” للبحث عن السكينة الداخلية. سنرى كيف يتشكل الإنسان الكوردي في الغربة، هل ينصهر، أم يحتفظ بفرادته؟ هل تضعفه المسافات، أم تصقل إرادته؟ هذه الرحلة القادمة هي امتداد للبحث عن المعنى في عالمٍ لا يتوقف عن التغير. فإذا كانت الانتفاضة هي صرخة “أنا موجود”، فإن الاغتراب سيكون همسة “كيف أكون؟” في مساحةٍ لا تنتمي إليّ بالكامل. إنها قصة البحث عن البيت الذي ليس بالضرورة بناءً من حجر، بل هو حالة من السكينة الروحية، وشعور بالانتماء، حتى لو كانت أقدامنا تطأ أرضًا غريبة. وكما قال إدوارد سعيد: “كل المنفيين يعيشون على هامش وجودهم”. الفصول القادمة ستكون محاولة للعيش في هذا الهامش، ليس كضحية، بل ككيان فاعل يبحث عن معنى عميق لوجوده، عن وطنٍ يحمله في روحه أينما حلّ، مؤكداً على أن “الولادة المتجددة” هي سر بقاء الإنسان في وجه التيه والفناء، وصولاً إلى “ولادة عاشرة” للوطن الجديد في الروح.

إن هذه السيرة ليست مجرد قصة حياة؛ إنها قصة عن قدر الإنسان على التكيف، على الصمود، وعلى إيجاد المعنى في أكثر الظروف عبثية. إنها قصة عن الذاكرة التي ترفض النسيان، وعن الأمل الذي يتجدد في كل صباح، حتى في أبعد بقاع الأرض. فهل سنكتشف في الفصول القادمة أن الوطن الحقيقي ليس مجرد قطعة أرض، بل هو تلك المساحة المقدسة التي نبنيها داخلنا، حيث تلتقي جذورنا بتاريخنا، وحيث تُصاغ أحلامنا لمستقبل لا يعرف حدوداً؟ هذا ما سيكشفه مسار “سيرة الاغتراب: حفريات في جسد المنفى”، مسار يحفل بولادات متجددة للروح، تجعلها عصية على الفناء.

 

قائمة المراجع والهوامش:

[1]  كارل ماركس، تاريخ جميع المجتمعات الموجودة حتى الآن هو تاريخ صراع الطبقات.

[2]  جان بول سارتر، الصراع مع الآخر.

[3]  ألبير كامو، التمرد هو رفض الموت.

[4]  فريدريك نيتشه، الفوضى تولد النجوم.

[5]  فيكتور فرانكل، فكرة فرانكل عن المعنى.

[6]  مارتن هايدغر، الإنسان هو كائن يسأل عن الكينونة.

[7]  ألبير كامو، إنّ أفضل طريقة للتعامل مع واقع لا يطاق هو أن ترفض قبوله.

[8]  جان بول سارتر، الإنسان يُعرّف وجوده من خلال اختياراته.

[9]  جان بول سارتر، الإنسان محكوم عليه بالحرية.

[10]  فريدريك نيتشه، إرادة القوة.

[11]  ألبير كامو، التمرد هو رفض قبول العبث.

[12]  فيكتور فرانكل، المعنى يمكن أن يُوجد حتى في أقسى الظروف.

[13]  مارتن هايدغر، الكينونة تتجلى في العناية.

[14]  سورين كيركغور، الإيمان هو القفزة نحو المجهول.

[15]  فيودور دوستويفسكي، إن مقياس الحضارة هو طريقة معاملتها لأطفالها.

[16]  ألبير كامو، العبثية (عن عالم خالي من العدالة).

[17]  فريدريك نيتشه، الألم هو المعلم الأعظم.

[18]  فيكتور فرانكل، المعاناة تصبح محتملة عندما تكون ذات هدف.

[19]  مارتن هايدغر، الكينونة تتجلى في العناية.

[20]  جان بول سارتر، الحرية هي ما نفعله بما يُفعل بنا.

[21]  سورين كيركغور، اليأس هو مرض الروح.

[22]  ليو تولستوي، السعادة ليست أن تفعل ما تحب، بل أن تحب ما تفعل.

[23]  مارتن هايدغر، السكن هو طريقة الإنسان في الكينونة.

[24]  جان بول سارتر، الإنسان يصنع ذاته من خلال أفعاله.

[25]  فريدريك نيتشه، الإنسان الأعلى (يخلق قيمه في مواجهة الفوضى).

[26]  ألبير كامو، التمرد هو إعلان عن الحياة.

[27]  فيكتور فرانكل، المعنى يمكن أن يُوجد في العمل الخلاق.

[28]  سورين كيركغور، الإيمان هو مواجهة المستحيل.

[29]  جاك دريدا، التفكيك يكشف عن البحث عن المعنى الكامن في النص.

[30]  إيلي ويزل، الصمت في وجه الشر هو بحد ذاته شر: فالرب لا يصمت، ويجب ألا نصمت نحن.

[31]  مارتن هايدغر، جروح ميتافيزيقية (تقطيع الكينونة).

[32]  جان بول سارتر، الوجود للآخر (تعريف الإنسان من خلال نظرة الآخر).

[33]  ألبير كامو، التمرد هو إعلان عن قيمة الإنسان.

[34]  فيكتور فرانكل، المعنى يمكن أن يُوجد في المعاناة.

[35]  سورين كيركغور، الإيمان هو الشغف بالممكن.

[36]  إيلي ويزل، الصمت ليس مجرد غياب صوت، بل هو فعل وجودي يُسهم في إدامة المعاناة.

[37]  مارتن هايدغر، الكينونة تتطلب المواجهة مع العدم.

[38]  ألبير كامو، التمرد هو إعلان عن الكرامة.

[39]  فريدريك نيتشه، الإنسان يجب أن يخلق قيمه الخاصة.

[40]  فيكتور فرانكل، المعنى يمكن أن يُوجد في أحلك الظروف.

[41]  سورين كيركغور، القلق هو بوابة الإيمان.

[42]  إدوارد سعيد، كل المنفيين يعيشون على هامش وجودهم.

Translation Service

Artboard-1 Translation Service



 

 

سوسان لي تصبح أول امرأة تقود الحزب الليبرالي الأسترالي

ا

ley-sussan-e1624595745621 سوسان لي تصبح أول امرأة تقود الحزب الليبرالي الأسترالي

لفرات خاص:  ستكون سوسان لي القائدة الجديدة للحزب الليبرالي إلى جانب المتحدث السابق باسم الطاقة تيد أوبراين الذي سيكون نائب القائد. جاء القرار بعد خسارة الائتلاف في الانتخابات الفيدرالية القاسية، حيث تغلبت السيدة لي على منافسها سيمون كينيدي في

 تصويت ال

قيادة بين أعضاء البرلمان من الحزب. الحزب الليبرالي، الذي أصبح الآن في المعارضة بعد تسع سنوات في الحكم، يتطلع إلى السيدة لي لإعادة بناء صورته واستعادة ثقة الناخبين قبل الانتخابات القادمة. السيدة لي، عضو البرلمان منذ فترة طويلة عن دائرة فارر ووزيرة الصحة السابقة، تعهدت بالتركيز على القضايا الاقتصادية، والمجتمعات الإقليمية، والمساواة بين الجنسين داخل الحزب.

الخلفي

  • من هي سوسان لي؟: سوسان لي (مواليد 14 ديسمبر 1961) هي سياسية Mariah Carey 2014ية أسترالية تمثل دائرة فارر منذ عام 2001. شغلت مناصب وزارية مثل وزيرة الصحة (2014-2017) ووزيرة البيئة (2016).

  • الأهمية التاريخية: لي هي أول امرأة تقود الحزب الليبرالي، وهو إنجاز تاريخي للحزب الذي تأسس عام 1944.

  • السياق السياسي: بعد خسارة الائتلاف في انتخابات مايو 2025، يواجه الحزب تحديات كبيرة، بما في ذلك انهيار التحالف مع الحزب الوطني ومنافسة المستقلين.

  • التحديات: تشمل مهام لي إعادة توحيد الحزب، مواجهة قضايا تغير المناخ، وجذب الناخبين الشباب من خلال إصلاحات داخلية.

التفاصيل الإضافية

  • تيد أوبراين: نائب القائد، وهو سياسي بارز في قضايا الطاقة، سيدعم لي في تقديم رؤية اقتصادية قوية.

  • ردود الفعل: أشاد البعض بتعيين لي كخطوة نحو التنوع، بينما طالب آخرون بإصلاحات أعمق داخل الحزب.

  • الخطوات المستقبلية: تتضمن خطة لي تعزيز تمثيل النساء وزيادة التركيز على القضايا الاقتصادية والإقليمية

اقفز إلى متعة عيد الفصح في مدينة فيرفيلد

frank-carbone اقفز إلى متعة عيد الفصح في مدينة فيرفيلد Fairfield City Council Mayors Column

الفرات/خاص:
مجلس المدينة ينشر فرحة عيد الفصح مع مجموعة مثيرة من الفعاليات والأنشطة التي تقام في أنحاء المدينة للعائلات للاستمتاع بها.
من زيارات خاصة لأرنب عيد الفصح في مراكز المدينة إلى أنشطة مكتبة يدوية، هناك شيء للجميع.
أنا متحمس للإعلان عن عودة معرض فيرفيلد لعيد الفصح الشهير إلى معرض فيرفيلد من الخميس 17 أبريل إلى الثلاثاء 22 أبريل هذا العام، مما يسهل على العائلات الخروج والاستمتاع بمتعة معرض سيدني الملكي لعيد الفصح دون السفر والأسعار المرتفعة.
يتميز المعرض ببرنامج مليء بالفعاليات بما في ذلك عروض الدراجات النارية، الألعاب، الألعاب النارية، لقاءات مع الحيوانات، سباقات الخنازير، وأكثر من ذلك.
الدخول بقيمة 2 دولار فقط، ويمكنك شراء أساور ركوب غير محدودة مسبقًا (صالحة من 18 أبريل إلى 22 أبريل) على صفحة فيسبوك معرض فيرفيلد لعيد الفصح بسعر مخفض 30 دولارًا (أو 35 دولارًا عند البوابة). الوقوف مجاني، ويوم “الأطفال الكبير” يوم الخميس 17 أبريل سيشهد حصول أول 500 طفل يصلون إلى المعرض على لعبة قطيفة مجانية.

المجلس فخور بكونه راعيًا رئيسيًا لمعرض فيرفيلد لعيد الفصح، وسيدعم دائمًا المبادرات التي تجلب تجارب ممتعة وبأسعار معقولة لمدينتنا.
بالإضافة إلى ذلك، سيقوم أرنب عيد الفصح بجلب الحلويات إلى شوارع مدينة فيرفيلد في مركز فيرفيلد هايتس يوم 16 أبريل من الساعة 12:30 إلى 3:30 عصرًا، ومركز كانلي هايتس يوم 17 أبريل من الساعة 3 إلى 5 مساءً. ستُقام مطاردة بيض عيد الفصح الشهيرة في حديقة بارينا، كانلي فال يوم 17 أبريل من الساعة 3 إلى 6 مساءً، واحتفالية متعة عيد الفصح في ساحة توماس وير في مركز مدينة فيرفيلد، والتي تتضمن حديقة حيوانات أليفة، رسم على الوجه، فن البالونات، دي جي، وهدايا، وستكون أيضًا من الساعة 3 إلى 6 مساءً يوم 17 أبريل.

نحن أيضًا نضيء الشوارع لعيد الفصح مرة أخرى، بأضواء وزينة في 15 موقعًا، ولافتات ملونة في جميع أنحاء المدينة.f1-scaled اقفز إلى متعة عيد الفصح في مدينة فيرفيلد

سيرة الاغتراب: حفريات في جسد المنفى.-سيرة كوردي في زمن العدمية

سيرة الاغتراب: حفريات في جسد المنفى.-**”سيرة كوردي في زمن العدمية
495540432_10236189615698718_3004688773639522404_n سيرة الاغتراب: حفريات في جسد المنفى.-سيرة كوردي في زمن العدمية
> “هذا ليس مقالًا، بل نشيدٌ جنائزيٌّ للوطن الذي نحمله فينا، ونخاف أن يموت قبلنا.”
حسين خوشناو _أستراليا_
## البداية: سيرة التشظي
كُتبت هذه الكلمات بيدٍ ترتجفُ مِن سَكَرات الذاكرة، وقلبٍ ينزفُ كوردستانَ كلَّما همسَ له صوتٌ مِن شقلاوة.
ثلاثونَ عامًا وأنا أحفرُ في صخور المنفى، أبحثُ عن بصمةٍ لي في عالمٍ لا يعترفُ إلا بالغرباء.
وُلِدْتُ بين بساتين الكروم التي تُغنّي لأجدادي، وشبعتُ مِن رائحة الشاي التي كانت تُحمصُ على نار الحطب، حينما كان صوتُ حجر الرحى يُشبه أنشودةَ الخلود.
أكتبُ هذه السطورَ بيدٍ تترنحُ تحت وطأة ثلاثينَ عامًا مِن التشظِّي، وكأنما أحفرُ بأظافري في جدران الزمن.
وُلِدْتُ بين أحضان بساتين وجبال شقلاوة، حيث تُغنّي أشجارُ الجوز لحنًا قديمًا لكلِّ مَن يمرُّ بها، وتتنفَّسُ الأرضُ قصصَ الأجداد مع كلِّ نسيمٍ يعبرُ حقولَ القمح في “دشتي هولير” و”هرير”.
تنفَّستُ هواءَ هولير، المدينة التي لا تُشبه غيرَها، حيثُ تَعانَقَ عَرَقُ التاريخِ وَدَمُ الحُروبِ فوقَ مَقاهي الشّاي.
في قهوة “مَجكو” تحتَ ظلِّ القلعةِ التي وقَفَتْ في وَجهِ هولاكو، يَلُفُّ الدخانُ حِكاياتِ الأجدادِ كأشباحٍ تَتَهادى بَينَ الأكواب.
هذهِ القلعةُ التي تَحملُ تاجَ المَجدِ، تَخبئُ تحتَ أحجارِها دَمَ العُشّاقِ وَغُبارَ الثّورات.
وفي المئذنةِ العاليةِ، حيثُ كانَ الحاجُ لقلقُ يُنسّقُ هِجراتِه كسطورٍ مَنسيّةٍ في دَفتَرِ الزمنِ، صارَ عُشُّهُ التّذكاريُّ – بَعدَ رَحيلِه العَبثيّ – وَسماً أزرقَ على جَبينِ السّماءِ.”
## الفصل الأول: اغترابٌ وجوديٌّ
المنفى: موتٌ يوميٌّ في عالم مارتن هايدغر.
لم أكن أعلم أن الغربةَ ستكون جريمةً وجوديةً بهذا الوضوح.
كان هايدغر محقًّا حين وصف الاغترابَ كفقدانٍ للانتماء إلى «العالم-الحياة» (Lebenswelt، مصطلح إدموند هوسرل).
يقول الفيلسوف: “الوجود الإنساني هو وجودٌ مُلْقًى به في العالم”.
لكن ماذا لو كان «العالمُ الذي أُلْقِينا فيه» لا يتحدثُ بلغة القلبِ بل بلغة الأرقام؟
الغربة هنا ليست مجرد بُعدٍ جغرافيٍّ عن كوردستان، بل انفصامٌ عن “الذات” التي تشكَّلت في حضن الوطن.
الفيلسوف الوجودي سورين كيركغور يصف هذا الألم فيقول: “أعمق أشكال اليأس هو أن تفقدَ نفسك… وتدركَ أنك غريبٌ حتى عن ذاتك”.
في غربتي — فقدتُ نفسي، وفقدتُ الروابطَ التي تُعطي الحياةَ معنًى:
صوتَ الأمِّ في بساتين شقلاوة، ضحكةَ الإخوة والأصدقاء في سوق هولير القديم، حنانَ الأبِ وصراخَه، ضجيجَ الأطفال، غناءَ السكارى، دخانَ المطاعم، صوتَ “شالور” وماءَ “دنكارة”، حتى رائحةَ الترابِ بعد مطر كوردستان و أولادي وعائلتي وفوقَ هذا كلِّه، فقدتُ “نوروز” ونارَها الأزلية المقدسة.
قيل لي يومًا: “أعمقُ اليأس أن تفقدَ ذاتَك”.
لكنهم لم يخبروني أنَّ فقدانَ الذاتِ يبدأُ بفقدانِ رائحةِ خبزِ الأمِّ في الصباح.
الفيلسوف ألبير كامو يرى في الغربة تعبيرًا عن العبثية:
“الإنسانُ غريبٌ في كونٍ لا صوتَ له يردُّ على صراخه”.
يشير كامو إلى أن الجسدَ هو “الحقيقة الوحيدة المؤكدة” في مواجهة غياب المعنى.
لكن عبثيةَ كامو باردةٌ، أما غربتُنا فمحشوَّةٌ بذاكرةٍ دافئةٍ تزيدُ مِن قسوة الألم.
هنا، في ضواحي سيدني، صرتُ شبحًا بين لغتين: الكورديةُ تموتُ في حلقي مثل طائر ، والإنجليزيةُ جافةٌ لا تحملُ رائحةَ التينِ مِن بستان جدي.
«الوجودُ في العالم» كما وصفه هايدغر، لم يعد ممكنًا لي هنا.
تحوَّلَ المنفى مِن مجرَّد مسافةٍ جغرافيةٍ إلى انكسارٍ وجوديٍّ.
اللغةُ الكورديةُ تختنق في حلقي كطائر محبوس كلَّ يوم، فليس هناك مَن يسمعُها.
طقوسُ الصباحِ فقدت قداستها: قهوةٌ سريعةٌ مِن ماكينةٍ بدلًا مِن ذلك الطقسِ المقدَّس حيث كان أبي يعدُّها.
في أستراليا، حتى شايُ الصباحِ لا يُشبه شاي أمي في شقلاوة.. تلك التي كانت تُحمصُ على نار الحطب، وكُنا نسمعُ صوتَ رنين الاستكان كأنه أنشودةٌ للوطن.
الغربةُ هنا ليست نقصًا في المواطنة، بل هي اغترابٌ وجوديٌّ كما يعرفه هايدغر:
فقدانٌ للانتماء إلى «العالم-الحياة».
## الفصل الثاني: جسد المنفى
، في أرضٍ لا تعرفُ طعمَ الرمان الكورديِّ، أصابني السُّكَّري ..
الأطباءُ يقولون: “قلِّلْ مِن السكر”، لكنهم لا يفهمون أن المرضَ ليس جسديًّا فقط.
سُكَّري الروحِ أقسى من الجسد: عطشٌ إلى ترابٍ لم أعد أستطيعُ لمسَه. حتى ضغطُ الدمِّ يرتفعُ كلَّما سمعتُ نشيدًا وطنيًّا.
لأطباءُ يقولون إن السببَ وراثيٌّ، لكنني أعرفُ أن للاغترابِ يدًا في ذلك.
سُكَّري الروحِ فلا دواء له وهو أشدُّ قسوةً مِن سُكَّري الجسد.
إنه عطشٌ لا يُرْوَى، حنينٌ إلى ترابِ الوطنِ الذي لم أعد أستطيعُ لمسَه.
في المستشفيات الأسترالية، يعاملونني كآلةٍ مكسورةٍ: “مستوى السكر 250، خُذْ إبرةَ الأنسولين”!
لكنّ لا احد يستطيع ان يعالجُ ذلك الألمَ الذي ينخرُ روحي.
في عيادات سيدني، أتذكَّرُ مقولةً قديمة: “ذاكرةُ الوطنِ كندبةٍ في الجسد”.
نعم، كلُّ ندبةٍ في جسدي تُعيدُ رسمَ خريطةِ شقلاوة.
(غاستون باشلار: «ذاكرةُ الوطنِ كندبةٌ في الجسد»).
لكنني أرى أن المرضى في المنفى هو شاهد حي على جريمة الغربة”.
المرض الجسدي – كما أعانيه – يضاعف وحدة الروح.
الفيلسوف “فريدريك نيتشه” الذي عانى الأمراض طويلًا كتب كثيرا عن الامراض بمعنى ان:
“المرض يجعل العالم سجنًا، والجسد قضبانًا”.
لكنني أضيف: المرض في الغربة سجن بلا نوافذ لمحكوم بريء بالإعدام.
في كوردستان، كان المرضُ طقساً جماعياً، أمٌّ تضعُ يدها على جبين المريض، جاراتٌ يأتين بالحلوى، أصواتُ الدعاءِ تملأ الغرفة والمراقد تهتز.
### الفصل الثالث: خيانة الساسة الكورد.
لم أكن أعلم أن الخيانة ستأتي مِن الذين قاتلتُ مِن أجلهم.
أيها الزعماء الكورد بجميع ألوانكم وأصنافكم وانتماءاتكم، لقد نسيتُمونا! وطويتمونا في سجل النسيان!
لقد حوَّلتم دمَنا إلى عملةٍ في سوقِ النخاسةِ السياسية.
سُجِنتُ وعُمري ستةَ عشرَ عاماً ، وتعرَّضتُ للتعذيب لأنني رفضتُ أن أنكرَ هويتي… مثل آلافٍ مِن خيرة شباب قوميتي.
قدَّمتُ دَمي وحياتي لأجل قضية كوردستان، خَدمتُ ضمن صفوف البيشمركة… تَغَرَّبتُ… تاركًا وَطني وأهلي وحياتي.
ثلاثون عامًا وأنا أرى وجوهَكُم تُزيّنُ شاشاتِ الفضائيات… بينما عظامُ رفاقي تُزيّنُ المقابرَ والمنفى.
المفكر **”اللورد آكتون”** يقول: *«السُّلطة تُفْسِد… والسُّلطة المُطْلَقَة تُفْسِدُ بشكلٍ مُطْلَق»*.
قبل ثلاثون عاما وانا لوحدي في الغربة أسَّستُ أولَ صحيفةٍ كورديةٍ في أستراليا باسم “الكورد”، أطلقتُ أولَ إذاعةٍ كورديةٍ في جنوب أستراليا “صوت الكورد”.
وفي نيسان ، يوم سقوطِ صَنَمِ الطاغية ، أصدرتُ صحيفةَ “الفرات” بثلاث لغاتٍ (الكوردية، العربية، الإنجليزية)، لأُوثِّقَ أن الهويةَ لا تُقتَل، وأن كوردستانَ لا تُدفَنُ تحت أنقاض التاريخ.
منذ ثلاثون ربيعا وأنا أُمسكُ بِحرفٍ كورديٍّ أخضرَ في برية الغربة…
صحيفتان يولدان مِن دمي، وإذاعةٌ تَصُدحُ بصوتٍ يعبرُ المحيطات، ومقالاتٌ تُحوِّلُ آلامي إلى خريطةٍ للوجود.
كتبتُ عن البيشمركة و الشهداء والابطال و جبال زاغروس وسفين وخواكورك و عن كركوك وهي تُنزفُ دمَها الأسودَ في سجلات التاريخ…
عن رجالٍ رفعوا أسم كوردستانَ على أطراف الرماح، فصارت قبورُهم شواهدَ على أرضٍ لا تعترفُ إلا بالأرقام.
“ كتبت عن حبِّ الوطن، وعن الغربة التي تأكل الروح، وعن شعبي الكوردي الذي لا يزال يُذبَحُ على مذبح الجغرافيا السياسية
أريدُ أن أقولَها بِمَرَارَةٍ: لقد خانني السِّياسيون الكورد قبل أن تخونني الغربة!
نعم، أولئك الذين رفعتُ صوتَهم في الإذاعات والصحف التي أسَّستُها، وكاتبتُ زعماء العالم مِن أجلهم، نَسُوني كأنني غُبارٌ على جبين التاريخ.
والان الصحفَ صارت أوراقًا تأكلها النيرانُ في ساحات الدبلوماسية، والإذاعاتَ صارت صرخاتٍ تختنقُ في زجاجاتِ السياسة الفارغة.
اليوم، وأنا أُساقُ إلى سجنٍ أكبرَ: سجنِ النسيان و الانكار .
قد تنسونني، لكن التاريخ سيذكر أن رجلاً واحدًا في المنفى صنع إعلامًا للقضية بينما كنتم تصنعون لنفسكم قصورًا.
تعلمون ما هو جُرْمي؟
أنني لم أنتمِ إلى سياستهم ضدَّ بعضهم، ولم أكتبْ ضدَّ الذين عارضوهم واختلفوا معهم.
وكلما طلبتُ دعمًا لأيِّ شيءٍ يُخفِّفُ مِن معاناة الغربة… قالوا:
*«لا نُمَوِّلُ المَنافي!»* بينما اشتروا فيلاتٍ وعقاراتٍ وفنادقَ في مدنِ وسواحلِ أستراليا بعشرات الملايين مِن دولاراتِ المسروقة من قوت شعبِ كوردستان المظلوم.
اليوم، وأنا أموت وحيدًا، لا أحد منهم يتذكَّر أن رجلاً كورديًّا في أستراليا دافع عنهم يوم كانت أستراليا تجهل حتى اسمَ “كوردستان”.
حولتُ دمي إلى حبرٍ في صحفٍ صارت وقودًا لسياساتهم
جُرْمي أنني آمنتُ بِـ “كوردستان” التي تَجمعنا، لا بالزعيم الذي يُفرِّقنا. دافعت عن وطن لا املك شبرا من أرضها.!.
### الفصل الرابع: محاولات البقاء
اخترعتُ طقوسًا للبقاء:
اخترعتُ طقوسًا لأسرق الحياةَ مِن فَكِّ الغربة:
> – أسمعُ نشيدَ *”ئەی رەقیب”* كلَّ صباحٍ… كأنِّي أردِّدُ مع الأبطال: *”لا تُسلَبوا كوردستانَ منّا مرتين: مرةً بالحدود، ومرةً بالنسيان والخيانة”*.
> – أشربُ شايَ الصباحِ مع تينٍ مجفَّفٍ من بستان جدي… كي لا تذوبَ آخرُ بصماتِ التربةِ التي مشيتُ عليها حافيًا.
> – أصابعي تتجوّلُ على خريطةِ أربيلَ المُتهالكة… كأنما ألمسُ وجهَ أمٍّ نسيَتها عيوني لكنّ قلبي لا يزال يُناديها.
> – قصائدُ *”الهيراني”* تتدفّقُ مِن شفتيَّ قبل النوم… فتُعيدُ للّغةِ الكوردية نبضَها في عروقي كـ *”نهرٍ يبحثُ عن منبعه”*.
> – أنامُ على صوت *”طاهر توفيق”* يُناجي: *”شيرين بهاره… شيرين أنها الربيع واتذكر ملامح ابي المسكين وهو يردد كلماتها”*… فأحلمُ بأنَّ الغربةَ مجرَّدُ كابوسٍ.
ربما لم تُغنِ هذه المحاولاتُ عنّي وَحشةَ المنفى…
لكنّها صنعتْ لي وطنًا مؤقتًا: حروفٌ تُشبهُني، تُولدُ كلَّ صباحٍ مِن رماد الذاكرة.
### مقارنة رمزية بين الماضي والحاضر:
«في كوردستان ، كنتُ أطارد الفراشات في حقول القمح وأشمُّ رائحةَ تبنِ “كارة” المُعتَّقِ تحت أشعة الشمس**، وعندما يُثقِلُ التعبُ جفوني، ألقي بنفسي في احضان الأرضِ كطفلٍ ينام في حضنِ أمه، “أسمعُ همسَ حجرِ الرَّحى يطحنُ القمحَ كأنه يُناجي الأجداد”.
أحلمُ بفراشةٍ ذهبيةٍ تحملني إلى حيثُ **رائحةُ “الشيلان” تختلطُ بأنفاسِ النهرِ القديم**…
أما هنا، فأجري خلف مواعيد الاطباء وأضيع في مترو سيدني وفي شوارعها الضيقة كمتشردٍ يبحث عن ظلٍّ لجرحه، أو كمجنونَ هربَ من مصحَّةٍ لا تعالجُ إلا الأجسادَ وتقتلُ الأرواح”*.
*”ألتفتُ. من حولي مفزوعا… أشباحٌ… عيونٌ بلا نظرات، وأجسادٌ تتحركُ كآلاتٍ نُزعت أرواحُها”*.
لقد عَلِمتُ يومًا أن الأولى كانت حُريةً… والثانية سجنٌ مُذهَّبٌ يُعلِّمُك أن **صوتَ آلةِ المصنعِ أغلى مِن ضحكةِ طفلٍ**».
*”كنت أحلمُ بأن أبني مدرسةً في شقلاوة تُعلِّم الأطفالَ كيف يقرأون نبضَ الأرضِ قبل الحروف، ويَسألون عن سرِّ موت الفراشاتِ أكثرَ مِن سُرعةِ الإنترنت”*.
لكنّ الغربة جعلتني ترسًا في ماكينةٍ لا تعرفُ إلا صريرَ الإنتاج.
*”كما لو أن ماركوز كان يخاطبني شخصيًّا: «أنت في المصنع مجرد ذاكرةٍ مشوَّهةٍ لطفل كان يرقصُ مع الفراشات!»”*.
**”هربرت ماركوز”** (مِن مدرسة فرانكفورت) يُعلِّق: *« **”الأنظمة تختزلنا إلى أرقامٍ في جدولٍ إكسيل، بينما تدفنُ أحلامَنا تحت ركام الإنتاج، فتقتل فيه روح الإبداع»*.
“في شقلاوة أسمعُ في الليلِ صوتَ ماء “دةنكارة” يهمسُ بأسماء أصدقائي المفقودين والمعدومين، اما هنا أستيقظُ على رائحةِ دخان واصوات السيارات ُنذرُ بيومٍ آخرَ بلا معنى.
الغربةُ ليست مكانًا.. بل رائحةٌ تختنقُ بها الروح، وصوتٌ يقطعُ أوتارَ الذاكرة.
“في المنفى، حتى الروائحُ تخونك.. رائحةُ التينِ الكرديِّ تموتُ في أنفك، ليحلَّ محلَّها عطرُ مُعقّماتٍ تقتلُ جرحَ الذاكرة وتعمق الضياع.
في “كريكور” (شقلاوة) كان صوتُ خرير ماء (زندور) يُهدهدني كأغنيةٍ لم تكتمل،**”أما في سيدني، فصوتُ القطارِ يُشبهُ أنينَ روحٍ تُحاكيها آلةٌ بلا قلب”.**
في “تم تم” كنت أشمُّ رائحةَ الترابِ بعد مطرٍ عابرٍ ، فتختلطُ بي ذكرياتُ أمي وهي تُعَلِّقُ الغسيلَ بين أشجار الجوز.
أما هنا، تَلتصقُ بي رائحةُ البلاستيكِ كجلدٍ ثانٍ تُذكّرني بِخِيانةِ الزمن”.
لقد سرقت مِنّي الغربةُ شبابي وأولادي وصحتي…
الوحدة في الغربة ليست اختيارًا، بل قدرًا مفروضًا حين ينقطع حبل التواصل مع الماضي.
الفيلسوفة حنة أرندت تقول: “أسوأ ما في المنفى أن الآخرين لا يسمعونك، أو يسمعونك لكنهم لا يفهمون”.
هذا ما حدث مع أولادي، فالحضارة الغربية علمتهم الفردية والأنانية، لكنها نسيتهم أن الإنسان جذور وكوردستان وانا جذورهم.
“سيمون دي بوفوار”** تصف هذا الضياع: *«الشيخوخة ليست عدد السنوات… بل الفجوة بين مَن كُنتَ ومَن أصبحتَ»*.
وتقول أيضًا: *«لو عَرَضَ المرءُ نفسَهُ صفحةً مقروءةً أمام غيره بكل نزاهةٍ… فإن الجميعَ تقريبًا سيجدون أنفسهم متورطين»*.
فيا تُرى… مَن هم المتورطون معي؟!
“أحيانًا أسأل نفسي: هل أنا الخائن لأني تركت كوردستان؟
فيجيبي صوتٌ من أعماقي:
بل أنت الضحية.. ضحية حدودٍ رسمها المستعمر، وشتّتت شعبًا كان يجب أن يكون دولة” و وقع تحت حكم الاخوة الاعداء الفاسدين.
: اعترافات منفيّ
“حلمتُ…
عدتُ طفلًا في كوردستان.
أركضُ حافيًا في بستان أبي.
آكلُ الترابَ فرحًا…
أسقطُ.
يختلطُ دمي بالتراب.
أستيقظُ.
صوتُ إنذار السكري يصرخ:
«هذا ليس وطنك!».
أعترفُ:
أنني لم أعد أتذكرُ وجة أمي بوضوح، وأنني بدأت أخلطُ بين أسماءِ إخوتي وأنسى أسماءَ الأزقةِ في أربيل،ولا أعرفُ كيف أتعاملُ مع مَنْ حولي” ،لكنني ما زلتُ أعرفُ كيف أبكي بالكوردية وارقص عطشاً كطير “القبج” المذبوح الذي ضحى بحياته من اجل انقاذ جنسه من القفص …..
ربما أموتُ هنا قريباً، في هذه الأرض البعيدة.
لكنّي سأطلبُ أن يُكتب على قبري:
“هنا يرقدُ كورديٌ حفر اسمَ وطنه على صخور الغربة..
فهل تسمعونه أخيراً؟”
ربما لن تنتهي غربتي بموتي، بل بموت آخر يتذكر كوردستان كما عرفتها.
سأظل أحفر في جسد المنفى، ليس بحثًا عن بصمة لي، بل عن بصمة للوطن في .
وعندما أعلم أن صوت حجر الرحى سيختفي يومًا، وأن رائحة شاي أمي ستتبخر من ذاكرتي.
حينها، سوف اصبح غريبًا حتى عن ذاتي ولن اتذكر حتى أسمي…
لكن اليوم، ما زلت أستطيع البكاء بعيون الشهداء… وما زلت أصرخ: ها هي ذي كوردستان — ليس فقط في الجغرافيا والخرائط المزيفة، بل في الجرح الذي احمله في اعماق روحي الذي لا يندمل, حتى الطائر المحبوس قد يغرد ذات صباح هنا كوردستان.
الخاتمة: رسالة إلى أبنائي.. وإلى كل شابٍّ….
جرحٌ يكتب نفسه
“أيها الأبناء…
لا تبيعوا ذاكرتكم كما باعوا دمي.
سأموت هنا غريبًا، لكنّ حروفِي ستظلُّ تُنزفُ اسمَ كوردستان على جدار الغربة.
(محمود درويش كان محقًا: المنفى هو آخر الأماكن… والوطنُ أولُّها.
لا تبيعوا ذاكرتكم في سوقِ الغربِ الرقميِّ.
الوطنُ ليس أرضًا فحسب… بل رائحةُ شايٍ تُرافقُ الموتَ في المنفى.
سيقولون لكم: “المستقبلُ هناك”.
لكن اِعلَموا أنَّ المستقبلَ سرابٌ…
إذا نسيتم أنَّ الماضيَ ينزفُ في عروقكم.
لا تنخدعوا ببريق الغرب، ولا بخطابات السياسيين الفارغة.
الغربة خيانةٌ مزدوجة: خيانةٌ للوطن الذي غادرتَ، وخيانةٌ للذات التي فقدتَ».
كما كان إدوارد سعيد محقاً حين قال: “المنفى هو المكان الذي يأتيك فيه البريد السياسي.. لكنه لا يأتي أبدًا من الوطن”.
أما أنا اصبحت كشجرة الدلب الكوردية (الشانة) التي تُقتلع من جبال زاغروس لِتُزرع في أرض غريبة..
تظل حية، لكن أوراقها تذبل، ولا تُزهر إلا حين تهمس لها الرياح بلغة كوردستان”.
“كما قال جبران خليل جبران” محقاً: “الغربة صمتٌ يابسٌ.. تشرب ماءه فلا يرتوي الظمأ”.
أعيشُ على “حقن الأنسولين” وذكريات الماضي، لكنني سأظلُّ أحذّركم:
لا تبيعوا عمركم في سوق الغربة.. فالشباب لا يعود، والأحلام إذا ماتت لا تُعود.
“سأموت غريبًا و وحيدا… لكن حروفي ستظل تنزف اسم كوردستان على جدار الغربة”
.. كتبتُ كي لا أموت.. وبقيتُ أموت كي أكتب….
***********
**
*هوامش فلسفية وأدبية:
مارتن هايدغر:
“الوجود الإنساني هو وجودٌ مُلقى به في العالم”
سورين كيركغور:
“أعمق أشكال اليأس هو أن تفقد نفسك.. وتدرك أنك غريبٌ حتى عن ذاتك”
ألبير كامو:
“الإنسان غريب في كون لا صوت له يردُّ على صراخه” ” اسطورة “سيزيف”
اللورد أكتون:
“السلطة المطلقة تُفسد بشكل مطلق”
نعوم تشومسكي:
“السياسي الفاسد كالثعبان.. يلدغ حتى يدافع عن نفسه”
بول ريكور (الذاكرة، التاريخ، النسيان):
“الذاكرة هي آخر ملجأ للهوية حين يُنهب الوطن”
غاستون باشلار:
“ذاكرة الوطن تظل كندبة في الجسد، تُؤلم كلما اقترب المطر”
هربرت ماركوز:
“الأنظمة تختزل الإنسان في كونه مُنتجًا ومستهلكًا فقط”
سيمون دي بوفوار:
“الشيخوخة ليست عدد السنوات، بل الفجوة بين من كنتَ ومن أصبحت”
جبران خليل جبران:
“الغربة صمتٌ يابسٌ.. تشرب ماءه فلا يرتوي الظمأ” .
محمود درويش:
“المنفى هو هذا المكان الأخير.. الوطن هو هذا المكان الأول”
حسين خوشناو :
كتبتُ كي لا أموت.. وبقيتُ أموت كي أكتب. انين الغربة.
هوامش اخرى:
– اي رقيب (بالكوردية: «Ey Reqîb» أو «ئەی ره‌قیب») قصيدة كتبها الشاعر الكوردي دلدار أثناء وجوده في أحد المعتقلات في كوردستان إيران في 1938، ولحّنها حسين البرزنجي. المعنى الحرفي لعنوان النشيد «أيها الرقيب» إذ يخاطب الشاعر رقيب الذي سجنه .
اتخذت هذه القصيدة نشيداً وطنياً لجمهورية مهاباد التي نشأت في شمال غرب إيران واستمرت 11 شهراً.
وهي كذلك النشيد الوطني في إقليم كوردستان وتعتبر من مقداسات الشعب الكوردي في العالم.
. نوروز (Newroz/نەورۆز)
رأس السنة الكوردية: يُحتفل به في 21 آذار/مارس.
الطقوس: إشعال النيران (رمزًا للنور والانتصار على الظلم)، والرقصات الفلكلورية، وارتداء الملابس التقليدية.
الرمزية: يرتبط بأسطورة كاوا الحداد الذي انتصر على الطاغية ضحّاك، وفق الميثولوجيا الكوردية.
في النص: عبَّر الكاتب عن حزنه لفقدان نوروز في المنفى، كجزء من اغترابه الوجودي.
– شقلاوة (Şeqlawe/شەقڵاوە)
الموقع: مدينة صغيرة تابعة لمحافظة أربيل في إقليم كوردستان ، تقع على شمال شرق مدينة أربيل، عند سفح جبل سفين.
السِّمات: تشتهر ببساتين الجوز والكرز، وشلالاتها الطبيعية، وجبالها المغطاة بأشجار الصنوبر.
الثقافة: تُعتبر مركزًا للتراث الكوردي، حيث تُقام فيها مهرجانات شعرية وفنية. ذُكرت في النص كمهد الكاتب الذي ارتبط بذكريات طفولته.
. هولير (Hewlêr/هه‌ولێر)
الاسم الكوردي لمدينة أربيل: عاصمة إقليم كوردستان ، وتُعد من أقدم المدن المأهولة في العالم (يعود تاريخها إلى 6000 ق.م).
المعالم: تشتهر بقلعتها التاريخية (قلعة أربيل) المُدرَجة على قائمة اليونسكو للتراث العالمي.
في النص: عبَّر الكاتب عن حنينه لرائحة المدينة التي تختلط فيها “رائحة الشاي بِدَمِ الحروب”، إشارة إلى تاريخها المليء بالصراعات والأمل.
دةشتي هولير (Dashtî Hewlêr/دەشتى هه‌ولێر)
المعنى: “سهل أربيل” بالكوردية.
الموقع: سهل واسع يحيط بمدينة أربيل، يُستخدم لزراعة القمح والشعير.
الأهمية: يُعد مصدرًا رئيسيًّا للحبوب في كوردستان، ويرمز إلى الخصوبة والعطاء في الأدب الكوردي.
– هرير (Herîr/هەریر)
منطقة زراعية: تقع في محافظة أربيل، تشتهر بحقول القمح الممتدة.
في النص: ذُكرت كرمز للذاكرة الزراعية الكوردية التي تربط الإنسان بالأرض.
. جبال زاكروس (Zagros/زاجرۆس)
أطول سلسلة جبال في كوردستان: تمتد من إيران عبر العراق وتركيا.
الأهمية: تُعتبر رمزًا للهوية الكوردية ومقاومة الشعب الكوردي عبر التاريخ.
في النص: ذُكرت كخلفية لقصص الأجداد وكرمز للصمود.
. سفين (Sefîn/سفين)
جبل في شقلاوة: يُشكل معلمًا طبيعيًّا بارزًا، تُحيط به غابات صنوبر وبساتين فاكهة.
في النص: ارتبط بذكريات الكاتب عن طفولته في أحضان الطبيعة والوطن والنضال.
. خواكورك (Xwakurk/خواكورك)
جبل قريب من شقلاوة: يشتهر بتضاريسه الوعرة وينابيع المياه العذبة.
– جبل كارة يبلغ ارتفاع قمة جبل كاره 2151 م، عن سطح البحر وتقع شمال شرق مدينة دهوك. تعتبر قمة جبل كاره موقعاً سياحياً طبيعياً , وهي من اجمل جبال المنطقة.
الأهمية: ارتبط اسمه بالتراث الكوردي، حيث تُروى حوله حكايات شعبية عن الشجاعة والصمود.
في النص: ذُكر كرمز للذاكرة الجبلية التي تُمثِّل هوية الكورد
. دنكارة (Dengare/دەنگارە)
نهر ينبع من جبل سفين: يمر عبر شقلاوة، ويُستخدم لري البساتين.
في النص: ذُكر كرمز لـ “صوت الطبيعة” الذي كان يُهدهد الكاتب في طفولته.
. زندور (Zendûr/زەندۆر)
جدول ماء في شقلاوة: يتفرع من نهر دنكارة، ويجري بين بساتين الجوز.
الثقافة: ارتبط بصوت خرير المياه الذي يصفه الكورد بـ “أنشودة الطبيعة”.
. كريكور وتم تم (Krikor & Tem Tem/کریکۆر و تەم تەم)
منطقتان سكنيتان في شقلاوة: يُعتقد أن أسماءهما تعود إلى عائلات أرمنية عاشت في المنطقة تاريخيًّا.
التاريخ: خلال الحرب العالمية الأولى، هاجر العديد من الأرمن إلى كوردستان، وتركوا بصمتهم في أسماء الأماكن.
– مجكو” باللغة الكوردية ” مەچکۆ” مقهى أو “چايخانة “مجكو” تاسست في عام 1940م على يد مجيد إسماعيل المعروف بـ (مجكو)، تجاوزت”مجكو” في أربيل دورها كمجرد مكان تجمع لقضاء أوقات الفراغ وتناول المشروبات، لتختص بنشاط سياسي وثقافي موازٍ لدورها الأساسي، وتتحول إلى رمز يفوح منه عبق التاريخ ويجسد روح أربيل التاريخية.
تفصيل أدبي: ورد في النص أن والد الكاتب عمل في مقهى “مەچکۆ” (مجكو) التاريخي في أربيل خلال الخمسينيات.
. طاهر توفيق (Tahir Tawfiq/تاهر تەوفیق)
فنان كوردي: مغنٍّ وملحّن كوردي (1930–1998)، يُعتبر أحد أعمدة الغناء الكلاسيكي الكوردي.
أشهر أغانيه: “شيرين بهاره” (شيرن انها الربيع)، التي ذُكرت في النص كجزء من طقوس الكاتب للبقاء في المنفى.
التأثير: ارتبطت أغانيه بذاكرة جيل كامل من الكورد المناضلين الذين شاركو في تاسيس جمهورية مهاباد وانتكاسة 1974 ، حيث تجسّد الحنين إلى الوطن والنضال والحرية ضمن اغنية سياسية .
. صافي الهيراني (Safi Hirani/سافى ھەیرانی)12ز م
شاعر كوردي صوفي من هيران – شقلاوة، عُرف بجمعِه بين الروحانيات والرومانسية. ينتمي إلى عائلة دينية أرستقراطية حملت لقب “كاك” (السيد)، وكانت رائدة في نشر الطريقة القادرية الصوفية. تُغنّى قصائده في المناسبات الدينية والاحتفالات، وتحوّلت بعضها إلى أغانٍ خالدة بأصوات فنانين مثل طاهر توفيق. وعدنان كريم يُعتبر رمزًا للهوية الكوردية التي تقاوم النسيان عبر الكلمة والموسيقى.