سيرة الاغتراب: حفريات في جسد المنفى

سيرة الاغتراب: حفريات في جسد المنفى.


**”سيرة كوردي في زمن العدمية”**
> “هذا ليس مقالًا، بل نشيدٌ جنائزيٌّ للوطن الذي نحمله فينا، ونخاف أن يموت قبلنا.”
حسين خوشناو _أستراليا_
## البداية: سيرة التشظي
كُتبت هذه الكلمات بيدٍ ترتجفُ مِن سَكَرات الذاكرة، وقلبٍ ينزفُ كوردستانَ كلَّما همسَ له صوتٌ مِن شقلاوة.
ثلاثونَ عامًا وأنا أحفرُ في صخور المنفى، أبحثُ عن بصمةٍ لي في عالمٍ لا يعترفُ إلا بالغرباء.
وُلِدْتُ بين بساتين الكروم التي تُغنّي لأجدادي، وشبعتُ مِن رائحة الشاي التي كانت تُحمصُ على نار الحطب، حينما كان صوتُ حجر الرحى يُشبه أنشودةَ الخلود.
أكتبُ هذه السطورَ بيدٍ تترنحُ تحت وطأة ثلاثينَ عامًا مِن التشظِّي، وكأنما أحفرُ بأظافري في جدران الزمن.
وُلِدْتُ بين أحضان بساتين وجبال شقلاوة، حيث تُغنّي أشجارُ الجوز لحنًا قديمًا لكلِّ مَن يمرُّ بها، وتتنفَّسُ الأرضُ قصصَ الأجداد مع كلِّ نسيمٍ يعبرُ حقولَ القمح في “دشتي هولير” و”هرير”.
تنفَّستُ هواءَ هولير، المدينة التي لا تُشبه غيرَها، حيثُ تَعانَقَ عَرَقُ التاريخِ وَدَمُ الحُروبِ فوقَ مَقاهي الشّاي.
في قهوة “مَجكو” تحتَ ظلِّ القلعةِ التي وقَفَتْ في وَجهِ هولاكو، يَلُفُّ الدخانُ حِكاياتِ الأجدادِ كأشباحٍ تَتَهادى بَينَ الأكواب.
هذهِ القلعةُ التي تَحملُ تاجَ المَجدِ، تَخبئُ تحتَ أحجارِها دَمَ العُشّاقِ وَغُبارَ الثّورات.
وفي المئذنةِ العاليةِ، حيثُ كانَ الحاجُ لقلقُ يُنسّقُ هِجراتِه كسطورٍ مَنسيّةٍ في دَفتَرِ الزمنِ، صارَ عُشُّهُ التّذكاريُّ – بَعدَ رَحيلِه العَبثيّ – وَسماً أزرقَ على جَبينِ السّماءِ.”

## الفصل الأول: اغترابٌ وجوديٌّ
المنفى: موتٌ يوميٌّ في عالم مارتن هايدغر.
لم أكن أعلم أن الغربةَ ستكون جريمةً وجوديةً بهذا الوضوح.
كان هايدغر محقًّا حين وصف الاغترابَ كفقدانٍ للانتماء إلى «العالم-الحياة» (Lebenswelt، مصطلح إدموند هوسرل).
يقول الفيلسوف: “الوجود الإنساني هو وجودٌ مُلْقًى به في العالم”.
لكن ماذا لو كان «العالمُ الذي أُلْقِينا فيه» لا يتحدثُ بلغة القلبِ بل بلغة الأرقام؟
الغربة هنا ليست مجرد بُعدٍ جغرافيٍّ عن كوردستان، بل انفصامٌ عن “الذات” التي تشكَّلت في حضن الوطن.
الفيلسوف الوجودي سورين كيركغور يصف هذا الألم فيقول: “أعمق أشكال اليأس هو أن تفقدَ نفسك… وتدركَ أنك غريبٌ حتى عن ذاتك”.
في غربتي — فقدتُ نفسي، وفقدتُ الروابطَ التي تُعطي الحياةَ معنًى:
صوتَ الأمِّ في بساتين شقلاوة، ضحكةَ الإخوة والأصدقاء في سوق هولير القديم، حنانَ الأبِ وصراخَه، ضجيجَ الأطفال، غناءَ السكارى، دخانَ المطاعم، صوتَ “شالور” وماءَ “دنكارة”، حتى رائحةَ الترابِ بعد مطر كوردستان و أولادي وعائلتي وفوقَ هذا كلِّه، فقدتُ “نوروز” ونارَها الأزلية المقدسة.
قيل لي يومًا: “أعمقُ اليأس أن تفقدَ ذاتَك”.
لكنهم لم يخبروني أنَّ فقدانَ الذاتِ يبدأُ بفقدانِ رائحةِ خبزِ الأمِّ في الصباح.
الفيلسوف ألبير كامو يرى في الغربة تعبيرًا عن العبثية:
“الإنسانُ غريبٌ في كونٍ لا صوتَ له يردُّ على صراخه”.
يشير كامو إلى أن الجسدَ هو “الحقيقة الوحيدة المؤكدة” في مواجهة غياب المعنى.
لكن عبثيةَ كامو باردةٌ، أما غربتُنا فمحشوَّةٌ بذاكرةٍ دافئةٍ تزيدُ مِن قسوة الألم.
هنا، في ضواحي سيدني، صرتُ شبحًا بين لغتين: الكورديةُ تموتُ في حلقي مثل طائر ، والإنجليزيةُ جافةٌ لا تحملُ رائحةَ التينِ مِن بستان جدي.
«الوجودُ في العالم» كما وصفه هايدغر، لم يعد ممكنًا لي هنا.
تحوَّلَ المنفى مِن مجرَّد مسافةٍ جغرافيةٍ إلى انكسارٍ وجوديٍّ.
اللغةُ الكورديةُ تختنق في حلقي كطائر محبوس كلَّ يوم، فليس هناك مَن يسمعُها.
طقوسُ الصباحِ فقدت قداستها: قهوةٌ سريعةٌ مِن ماكينةٍ بدلًا مِن ذلك الطقسِ المقدَّس حيث كان أبي يعدُّها.
في أستراليا، حتى شايُ الصباحِ لا يُشبه شاي أمي في شقلاوة.. تلك التي كانت تُحمصُ على نار الحطب، وكُنا نسمعُ صوتَ رنين الاستكان كأنه أنشودةٌ للوطن.
الغربةُ هنا ليست نقصًا في المواطنة، بل هي اغترابٌ وجوديٌّ كما يعرفه هايدغر:
فقدانٌ للانتماء إلى «العالم-الحياة».

## الفصل الثاني: جسد المنفى
، في أرضٍ لا تعرفُ طعمَ الرمان الكورديِّ، أصابني السُّكَّري ..
الأطباءُ يقولون: “قلِّلْ مِن السكر”، لكنهم لا يفهمون أن المرضَ ليس جسديًّا فقط.
سُكَّري الروحِ أقسى من الجسد: عطشٌ إلى ترابٍ لم أعد أستطيعُ لمسَه. حتى ضغطُ الدمِّ يرتفعُ كلَّما سمعتُ نشيدًا وطنيًّا.
لأطباءُ يقولون إن السببَ وراثيٌّ، لكنني أعرفُ أن للاغترابِ يدًا في ذلك.
سُكَّري الروحِ فلا دواء له وهو أشدُّ قسوةً مِن سُكَّري الجسد.
إنه عطشٌ لا يُرْوَى، حنينٌ إلى ترابِ الوطنِ الذي لم أعد أستطيعُ لمسَه.
في المستشفيات الأسترالية، يعاملونني كآلةٍ مكسورةٍ: “مستوى السكر 250، خُذْ إبرةَ الأنسولين”!
لكنّ لا احد يستطيع ان يعالجُ ذلك الألمَ الذي ينخرُ روحي.
في عيادات سيدني، أتذكَّرُ مقولةً قديمة: “ذاكرةُ الوطنِ كندبةٍ في الجسد”.
نعم، كلُّ ندبةٍ في جسدي تُعيدُ رسمَ خريطةِ شقلاوة.
(غاستون باشلار: «ذاكرةُ الوطنِ كندبةٌ في الجسد»).
لكنني أرى أن المرضى في المنفى هو شاهد حي على جريمة الغربة”.
المرض الجسدي – كما أعانيه – يضاعف وحدة الروح.
الفيلسوف “فريدريك نيتشه” الذي عانى الأمراض طويلًا كتب كثيرا عن الامراض بمعنى ان:
“المرض يجعل العالم سجنًا، والجسد قضبانًا”.
لكنني أضيف: المرض في الغربة سجن بلا نوافذ لمحكوم بريء بالإعدام.
في كوردستان، كان المرضُ طقساً جماعياً، أمٌّ تضعُ يدها على جبين المريض، جاراتٌ يأتين بالحلوى، أصواتُ الدعاءِ تملأ الغرفة والمراقد تهتز.
### الفصل الثالث: خيانة الساسة الكورد.
لم أكن أعلم أن الخيانة ستأتي مِن الذين قاتلتُ مِن أجلهم.
أيها الزعماء الكورد بجميع ألوانكم وأصنافكم وانتماءاتكم، لقد نسيتُمونا! وطويتمونا في سجل النسيان!
لقد حوَّلتم دمَنا إلى عملةٍ في سوقِ النخاسةِ السياسية.
سُجِنتُ وعُمري ستةَ عشرَ عاماً ، وتعرَّضتُ للتعذيب لأنني رفضتُ أن أنكرَ هويتي… مثل آلافٍ مِن خيرة شباب قوميتي.
قدَّمتُ دَمي وحياتي لأجل قضية كوردستان، خَدمتُ ضمن صفوف البيشمركة… تَغَرَّبتُ… تاركًا وَطني وأهلي وحياتي.
ثلاثون عامًا وأنا أرى وجوهَكُم تُزيّنُ شاشاتِ الفضائيات… بينما عظامُ رفاقي تُزيّنُ المقابرَ والمنفى.
المفكر **”اللورد آكتون”** يقول: *«السُّلطة تُفْسِد… والسُّلطة المُطْلَقَة تُفْسِدُ بشكلٍ مُطْلَق»*.
قبل ثلاثون عاما وانا لوحدي في الغربة أسَّستُ أولَ صحيفةٍ كورديةٍ في أستراليا باسم “الكورد”، أطلقتُ أولَ إذاعةٍ كورديةٍ في جنوب أستراليا “صوت الكورد”.
وفي نيسان ، يوم سقوطِ صَنَمِ الطاغية ، أصدرتُ صحيفةَ “الفرات” بثلاث لغاتٍ (الكوردية، العربية، الإنجليزية)، لأُوثِّقَ أن الهويةَ لا تُقتَل، وأن كوردستانَ لا تُدفَنُ تحت أنقاض التاريخ.
منذ ثلاثون ربيعا وأنا أُمسكُ بِحرفٍ كورديٍّ أخضرَ في برية الغربة…
صحيفتان يولدان مِن دمي، وإذاعةٌ تَصُدحُ بصوتٍ يعبرُ المحيطات، ومقالاتٌ تُحوِّلُ آلامي إلى خريطةٍ للوجود.
كتبتُ عن البيشمركة و الشهداء والابطال و جبال زاغروس وسفين وخواكورك و عن كركوك وهي تُنزفُ دمَها الأسودَ في سجلات التاريخ…
عن رجالٍ رفعوا أسم كوردستانَ على أطراف الرماح، فصارت قبورُهم شواهدَ على أرضٍ لا تعترفُ إلا بالأرقام.
“ كتبت عن حبِّ الوطن، وعن الغربة التي تأكل الروح، وعن شعبي الكوردي الذي لا يزال يُذبَحُ على مذبح الجغرافيا السياسية
أريدُ أن أقولَها بِمَرَارَةٍ: لقد خانني السِّياسيون الكورد قبل أن تخونني الغربة!
نعم، أولئك الذين رفعتُ صوتَهم في الإذاعات والصحف التي أسَّستُها، وكاتبتُ زعماء العالم مِن أجلهم، نَسُوني كأنني غُبارٌ على جبين التاريخ.
والان الصحفَ صارت أوراقًا تأكلها النيرانُ في ساحات الدبلوماسية، والإذاعاتَ صارت صرخاتٍ تختنقُ في زجاجاتِ السياسة الفارغة.
اليوم، وأنا أُساقُ إلى سجنٍ أكبرَ: سجنِ النسيان و الانكار .
قد تنسونني، لكن التاريخ سيذكر أن رجلاً واحدًا في المنفى صنع إعلامًا للقضية بينما كنتم تصنعون لنفسكم قصورًا.
تعلمون ما هو جُرْمي؟
أنني لم أنتمِ إلى سياستهم ضدَّ بعضهم، ولم أكتبْ ضدَّ الذين عارضوهم واختلفوا معهم.
وكلما طلبتُ دعمًا لأيِّ شيءٍ يُخفِّفُ مِن معاناة الغربة… قالوا:
*«لا نُمَوِّلُ المَنافي!»* بينما اشتروا فيلاتٍ وعقاراتٍ وفنادقَ في مدنِ وسواحلِ أستراليا بعشرات الملايين مِن دولاراتِ المسروقة من قوت شعبِ كوردستان المظلوم.
اليوم، وأنا أموت وحيدًا، لا أحد منهم يتذكَّر أن رجلاً كورديًّا في أستراليا دافع عنهم يوم كانت أستراليا تجهل حتى اسمَ “كوردستان”.
حولتُ دمي إلى حبرٍ في صحفٍ صارت وقودًا لسياساتهم
جُرْمي أنني آمنتُ بِـ “كوردستان” التي تَجمعنا، لا بالزعيم الذي يُفرِّقنا. دافعت عن وطن لا املك شبرا من أرضها.!.
### الفصل الرابع: محاولات البقاء
اخترعتُ طقوسًا للبقاء:
اخترعتُ طقوسًا لأسرق الحياةَ مِن فَكِّ الغربة:

> – أسمعُ نشيدَ *”ئەی رەقیب”* كلَّ صباحٍ… كأنِّي أردِّدُ مع الأبطال: *”لا تُسلَبوا كوردستانَ منّا مرتين: مرةً بالحدود، ومرةً بالنسيان والخيانة”*.
> – أشربُ شايَ الصباحِ مع تينٍ مجفَّفٍ من بستان جدي… كي لا تذوبَ آخرُ بصماتِ التربةِ التي مشيتُ عليها حافيًا.
> – أصابعي تتجوّلُ على خريطةِ أربيلَ المُتهالكة… كأنما ألمسُ وجهَ أمٍّ نسيَتها عيوني لكنّ قلبي لا يزال يُناديها.
> – قصائدُ *”الهيراني”* تتدفّقُ مِن شفتيَّ قبل النوم… فتُعيدُ للّغةِ الكوردية نبضَها في عروقي كـ *”نهرٍ يبحثُ عن منبعه”*.
> – أنامُ على صوت *”طاهر توفيق”* يُناجي: *”شيرين بهاره… شيرين أنها الربيع واتذكر ملامح ابي المسكين وهو يردد كلماتها”*… فأحلمُ بأنَّ الغربةَ مجرَّدُ كابوسٍ.
ربما لم تُغنِ هذه المحاولاتُ عنّي وَحشةَ المنفى…
لكنّها صنعتْ لي وطنًا مؤقتًا: حروفٌ تُشبهُني، تُولدُ كلَّ صباحٍ مِن رماد الذاكرة.
### مقارنة رمزية بين الماضي والحاضر:
«في كوردستان ، كنتُ أطارد الفراشات في حقول القمح وأشمُّ رائحةَ تبنِ “كارة” المُعتَّقِ تحت أشعة الشمس**، وعندما يُثقِلُ التعبُ جفوني، ألقي بنفسي في احضان الأرضِ كطفلٍ ينام في حضنِ أمه، “أسمعُ همسَ حجرِ الرَّحى يطحنُ القمحَ كأنه يُناجي الأجداد”.
أحلمُ بفراشةٍ ذهبيةٍ تحملني إلى حيثُ **رائحةُ “الشيلان” تختلطُ بأنفاسِ النهرِ القديم**…
أما هنا، فأجري خلف مواعيد الاطباء وأضيع في مترو سيدني وفي شوارعها الضيقة كمتشردٍ يبحث عن ظلٍّ لجرحه، أو كمجنونَ هربَ من مصحَّةٍ لا تعالجُ إلا الأجسادَ وتقتلُ الأرواح”*.
*”ألتفتُ. من حولي مفزوعا… أشباحٌ… عيونٌ بلا نظرات، وأجسادٌ تتحركُ كآلاتٍ نُزعت أرواحُها”*.
لقد عَلِمتُ يومًا أن الأولى كانت حُريةً… والثانية سجنٌ مُذهَّبٌ يُعلِّمُك أن **صوتَ آلةِ المصنعِ أغلى مِن ضحكةِ طفلٍ**».
*”كنت أحلمُ بأن أبني مدرسةً في شقلاوة تُعلِّم الأطفالَ كيف يقرأون نبضَ الأرضِ قبل الحروف، ويَسألون عن سرِّ موت الفراشاتِ أكثرَ مِن سُرعةِ الإنترنت”*.
لكنّ الغربة جعلتني ترسًا في ماكينةٍ لا تعرفُ إلا صريرَ الإنتاج.
*”كما لو أن ماركوز كان يخاطبني شخصيًّا: «أنت في المصنع مجرد ذاكرةٍ مشوَّهةٍ لطفل كان يرقصُ مع الفراشات!»”*.
**”هربرت ماركوز”** (مِن مدرسة فرانكفورت) يُعلِّق: *« **”الأنظمة تختزلنا إلى أرقامٍ في جدولٍ إكسيل، بينما تدفنُ أحلامَنا تحت ركام الإنتاج، فتقتل فيه روح الإبداع»*.
“في شقلاوة أسمعُ في الليلِ صوتَ ماء “دةنكارة” يهمسُ بأسماء أصدقائي المفقودين والمعدومين، اما هنا أستيقظُ على رائحةِ دخان واصوات السيارات ُنذرُ بيومٍ آخرَ بلا معنى.
الغربةُ ليست مكانًا.. بل رائحةٌ تختنقُ بها الروح، وصوتٌ يقطعُ أوتارَ الذاكرة.
“في المنفى، حتى الروائحُ تخونك.. رائحةُ التينِ الكرديِّ تموتُ في أنفك، ليحلَّ محلَّها عطرُ مُعقّماتٍ تقتلُ جرحَ الذاكرة وتعمق الضياع.
في “كريكور” (شقلاوة) كان صوتُ خرير ماء (زندور) يُهدهدني كأغنيةٍ لم تكتمل،**”أما في سيدني، فصوتُ القطارِ يُشبهُ أنينَ روحٍ تُحاكيها آلةٌ بلا قلب”.**
في “تم تم” كنت أشمُّ رائحةَ الترابِ بعد مطرٍ عابرٍ ، فتختلطُ بي ذكرياتُ أمي وهي تُعَلِّقُ الغسيلَ بين أشجار الجوز.
أما هنا، تَلتصقُ بي رائحةُ البلاستيكِ كجلدٍ ثانٍ تُذكّرني بِخِيانةِ الزمن”.
لقد سرقت مِنّي الغربةُ شبابي وأولادي وصحتي…
الوحدة في الغربة ليست اختيارًا، بل قدرًا مفروضًا حين ينقطع حبل التواصل مع الماضي.
الفيلسوفة حنة أرندت تقول: “أسوأ ما في المنفى أن الآخرين لا يسمعونك، أو يسمعونك لكنهم لا يفهمون”.
هذا ما حدث مع أولادي، فالحضارة الغربية علمتهم الفردية والأنانية، لكنها نسيتهم أن الإنسان جذور وكوردستان وانا جذورهم.
“سيمون دي بوفوار”** تصف هذا الضياع: *«الشيخوخة ليست عدد السنوات… بل الفجوة بين مَن كُنتَ ومَن أصبحتَ»*.
وتقول أيضًا: *«لو عَرَضَ المرءُ نفسَهُ صفحةً مقروءةً أمام غيره بكل نزاهةٍ… فإن الجميعَ تقريبًا سيجدون أنفسهم متورطين»*.
فيا تُرى… مَن هم المتورطون معي؟!
“أحيانًا أسأل نفسي: هل أنا الخائن لأني تركت كوردستان؟
فيجيبي صوتٌ من أعماقي:
بل أنت الضحية.. ضحية حدودٍ رسمها المستعمر، وشتّتت شعبًا كان يجب أن يكون دولة” و وقع تحت حكم الاخوة الاعداء الفاسدين.
: اعترافات منفيّ
“حلمتُ…
عدتُ طفلًا في كوردستان.
أركضُ حافيًا في بستان أبي.
آكلُ الترابَ فرحًا…
أسقطُ.
يختلطُ دمي بالتراب.
أستيقظُ.
صوتُ إنذار السكري يصرخ:
«هذا ليس وطنك!».

أعترفُ:
أنني لم أعد أتذكرُ وجة أمي بوضوح، وأنني بدأت أخلطُ بين أسماءِ إخوتي وأنسى أسماءَ الأزقةِ في أربيل،ولا أعرفُ كيف أتعاملُ مع مَنْ حولي” ،لكنني ما زلتُ أعرفُ كيف أبكي بالكوردية وارقص عطشاً كطير “القبج” المذبوح الذي ضحى بحياته من اجل انقاذ جنسه من القفص …..
ربما أموتُ هنا قريباً، في هذه الأرض البعيدة.
لكنّي سأطلبُ أن يُكتب على قبري:
“هنا يرقدُ كورديٌ حفر اسمَ وطنه على صخور الغربة..
فهل تسمعونه أخيراً؟”
ربما لن تنتهي غربتي بموتي، بل بموت آخر يتذكر كوردستان كما عرفتها.
سأظل أحفر في جسد المنفى، ليس بحثًا عن بصمة لي، بل عن بصمة للوطن في .
وعندما أعلم أن صوت حجر الرحى سيختفي يومًا، وأن رائحة شاي أمي ستتبخر من ذاكرتي.
حينها، سوف اصبح غريبًا حتى عن ذاتي ولن اتذكر حتى أسمي…
لكن اليوم، ما زلت أستطيع البكاء بعيون الشهداء… وما زلت أصرخ: ها هي ذي كوردستان — ليس فقط في الجغرافيا والخرائط المزيفة، بل في الجرح الذي احمله في اعماق روحي الذي لا يندمل, حتى الطائر المحبوس قد يغرد ذات صباح هنا كوردستان.
الخاتمة: رسالة إلى أبنائي.. وإلى كل شابٍّ….
جرحٌ يكتب نفسه
“أيها الأبناء…
لا تبيعوا ذاكرتكم كما باعوا دمي.
سأموت هنا غريبًا، لكنّ حروفِي ستظلُّ تُنزفُ اسمَ كوردستان على جدار الغربة.
(محمود درويش كان محقًا: المنفى هو آخر الأماكن… والوطنُ أولُّها.
لا تبيعوا ذاكرتكم في سوقِ الغربِ الرقميِّ.
الوطنُ ليس أرضًا فحسب… بل رائحةُ شايٍ تُرافقُ الموتَ في المنفى.
سيقولون لكم: “المستقبلُ هناك”.
لكن اِعلَموا أنَّ المستقبلَ سرابٌ…
إذا نسيتم أنَّ الماضيَ ينزفُ في عروقكم.
لا تنخدعوا ببريق الغرب، ولا بخطابات السياسيين الفارغة.
الغربة خيانةٌ مزدوجة: خيانةٌ للوطن الذي غادرتَ، وخيانةٌ للذات التي فقدتَ».
كما كان إدوارد سعيد محقاً حين قال: “المنفى هو المكان الذي يأتيك فيه البريد السياسي.. لكنه لا يأتي أبدًا من الوطن”.
أما أنا اصبحت كشجرة الدلب الكوردية (الشانة) التي تُقتلع من جبال زاغروس لِتُزرع في أرض غريبة..
تظل حية، لكن أوراقها تذبل، ولا تُزهر إلا حين تهمس لها الرياح بلغة كوردستان”.
“كما قال جبران خليل جبران” محقاً: “الغربة صمتٌ يابسٌ.. تشرب ماءه فلا يرتوي الظمأ”.
أعيشُ على “حقن الأنسولين” وذكريات الماضي، لكنني سأظلُّ أحذّركم:
لا تبيعوا عمركم في سوق الغربة.. فالشباب لا يعود، والأحلام إذا ماتت لا تُعود.
“سأموت غريبًا و وحيدا… لكن حروفي ستظل تنزف اسم كوردستان على جدار الغربة”
.. كتبتُ كي لا أموت.. وبقيتُ أموت كي أكتب….
***********
*هوامش فلسفية وأدبية:
مارتن هايدغر:
“الوجود الإنساني هو وجودٌ مُلقى به في العالم”
سورين كيركغور:
“أعمق أشكال اليأس هو أن تفقد نفسك.. وتدرك أنك غريبٌ حتى عن ذاتك”
ألبير كامو:
“الإنسان غريب في كون لا صوت له يردُّ على صراخه” ” اسطورة “سيزيف”
اللورد أكتون:
“السلطة المطلقة تُفسد بشكل مطلق”
نعوم تشومسكي:
“السياسي الفاسد كالثعبان.. يلدغ حتى يدافع عن نفسه”
بول ريكور (الذاكرة، التاريخ، النسيان):
“الذاكرة هي آخر ملجأ للهوية حين يُنهب الوطن”
غاستون باشلار:
“ذاكرة الوطن تظل كندبة في الجسد، تُؤلم كلما اقترب المطر”
هربرت ماركوز:
“الأنظمة تختزل الإنسان في كونه مُنتجًا ومستهلكًا فقط”
سيمون دي بوفوار:
“الشيخوخة ليست عدد السنوات، بل الفجوة بين من كنتَ ومن أصبحت”
جبران خليل جبران:
“الغربة صمتٌ يابسٌ.. تشرب ماءه فلا يرتوي الظمأ” .
محمود درويش:
“المنفى هو هذا المكان الأخير.. الوطن هو هذا المكان الأول”
حسين خوشناو :
كتبتُ كي لا أموت.. وبقيتُ أموت كي أكتب. انين الغربة.
هوامش اخرى:
– اي رقيب (بالكوردية: «Ey Reqîb» أو «ئەی ره‌قیب») قصيدة كتبها الشاعر الكوردي دلدار أثناء وجوده في أحد المعتقلات في كوردستان إيران في 1938، ولحّنها حسين البرزنجي. المعنى الحرفي لعنوان النشيد «أيها الرقيب» إذ يخاطب الشاعر رقيب الذي سجنه .
اتخذت هذه القصيدة نشيداً وطنياً لجمهورية مهاباد التي نشأت في شمال غرب إيران واستمرت 11 شهراً.
وهي كذلك النشيد الوطني في إقليم كوردستان وتعتبر من مقداسات الشعب الكوردي في العالم.
. نوروز (Newroz/نەورۆز)
رأس السنة الكوردية: يُحتفل به في 21 آذار/مارس.
الطقوس: إشعال النيران (رمزًا للنور والانتصار على الظلم)، والرقصات الفلكلورية، وارتداء الملابس التقليدية.
الرمزية: يرتبط بأسطورة كاوا الحداد الذي انتصر على الطاغية ضحّاك، وفق الميثولوجيا الكوردية.
في النص: عبَّر الكاتب عن حزنه لفقدان نوروز في المنفى، كجزء من اغترابه الوجودي.
– شقلاوة (Şeqlawe/شەقڵاوە)
الموقع: مدينة صغيرة تابعة لمحافظة أربيل في إقليم كوردستان ، تقع على شمال شرق مدينة أربيل، عند سفح جبل سفين.
السِّمات: تشتهر ببساتين الجوز والكرز، وشلالاتها الطبيعية، وجبالها المغطاة بأشجار الصنوبر.
الثقافة: تُعتبر مركزًا للتراث الكوردي، حيث تُقام فيها مهرجانات شعرية وفنية. ذُكرت في النص كمهد الكاتب الذي ارتبط بذكريات طفولته.
. هولير (Hewlêr/هه‌ولێر)
الاسم الكوردي لمدينة أربيل: عاصمة إقليم كوردستان ، وتُعد من أقدم المدن المأهولة في العالم (يعود تاريخها إلى 6000 ق.م).
المعالم: تشتهر بقلعتها التاريخية (قلعة أربيل) المُدرَجة على قائمة اليونسكو للتراث العالمي.
في النص: عبَّر الكاتب عن حنينه لرائحة المدينة التي تختلط فيها “رائحة الشاي بِدَمِ الحروب”، إشارة إلى تاريخها المليء بالصراعات والأمل.
دةشتي هولير (Dashtî Hewlêr/دەشتى هه‌ولێر)
المعنى: “سهل أربيل” بالكوردية.
الموقع: سهل واسع يحيط بمدينة أربيل، يُستخدم لزراعة القمح والشعير.
الأهمية: يُعد مصدرًا رئيسيًّا للحبوب في كوردستان، ويرمز إلى الخصوبة والعطاء في الأدب الكوردي.
– هرير (Herîr/هەریر)
منطقة زراعية: تقع في محافظة أربيل، تشتهر بحقول القمح الممتدة.
في النص: ذُكرت كرمز للذاكرة الزراعية الكوردية التي تربط الإنسان بالأرض.
. جبال زاكروس (Zagros/زاجرۆس)
أطول سلسلة جبال في كوردستان: تمتد من إيران عبر العراق وتركيا.
الأهمية: تُعتبر رمزًا للهوية الكوردية ومقاومة الشعب الكوردي عبر التاريخ.
في النص: ذُكرت كخلفية لقصص الأجداد وكرمز للصمود.
. سفين (Sefîn/سفين)
جبل في شقلاوة: يُشكل معلمًا طبيعيًّا بارزًا، تُحيط به غابات صنوبر وبساتين فاكهة.
في النص: ارتبط بذكريات الكاتب عن طفولته في أحضان الطبيعة والوطن والنضال.
. خواكورك (Xwakurk/خواكورك)
جبل قريب من شقلاوة: يشتهر بتضاريسه الوعرة وينابيع المياه العذبة.
– جبل كارة يبلغ ارتفاع قمة جبل كاره 2151 م، عن سطح البحر وتقع شمال شرق مدينة دهوك. تعتبر قمة جبل كاره موقعاً سياحياً طبيعياً , وهي من اجمل جبال المنطقة.
الأهمية: ارتبط اسمه بالتراث الكوردي، حيث تُروى حوله حكايات شعبية عن الشجاعة والصمود.
في النص: ذُكر كرمز للذاكرة الجبلية التي تُمثِّل هوية الكورد
. دنكارة (Dengare/دەنگارە)
نهر ينبع من جبل سفين: يمر عبر شقلاوة، ويُستخدم لري البساتين.
في النص: ذُكر كرمز لـ “صوت الطبيعة” الذي كان يُهدهد الكاتب في طفولته.
. زندور (Zendûr/زەندۆر)
جدول ماء في شقلاوة: يتفرع من نهر دنكارة، ويجري بين بساتين الجوز.
الثقافة: ارتبط بصوت خرير المياه الذي يصفه الكورد بـ “أنشودة الطبيعة”.
. كريكور وتم تم (Krikor & Tem Tem/کریکۆر و تەم تەم)
منطقتان سكنيتان في شقلاوة: يُعتقد أن أسماءهما تعود إلى عائلات أرمنية عاشت في المنطقة تاريخيًّا.
التاريخ: خلال الحرب العالمية الأولى، هاجر العديد من الأرمن إلى كوردستان، وتركوا بصمتهم في أسماء الأماكن.
– مجكو” باللغة الكوردية ” مەچکۆ” مقهى أو “چايخانة “مجكو” تاسست في عام 1940م على يد مجيد إسماعيل المعروف بـ (مجكو)، تجاوزت”مجكو” في أربيل دورها كمجرد مكان تجمع لقضاء أوقات الفراغ وتناول المشروبات، لتختص بنشاط سياسي وثقافي موازٍ لدورها الأساسي، وتتحول إلى رمز يفوح منه عبق التاريخ ويجسد روح أربيل التاريخية.
تفصيل أدبي: ورد في النص أن والد الكاتب عمل في مقهى “مەچکۆ” (مجكو) التاريخي في أربيل خلال الخمسينيات.
. طاهر توفيق (Tahir Tawfiq/تاهر تەوفیق)
فنان كوردي: مغنٍّ وملحّن كوردي (1930–1998)، يُعتبر أحد أعمدة الغناء الكلاسيكي الكوردي.
أشهر أغانيه: “شيرين بهاره” (شيرن انها الربيع)، التي ذُكرت في النص كجزء من طقوس الكاتب للبقاء في المنفى.
التأثير: ارتبطت أغانيه بذاكرة جيل كامل من الكورد المناضلين الذين شاركو في تاسيس جمهورية مهاباد وانتكاسة 1974 ، حيث تجسّد الحنين إلى الوطن والنضال والحرية ضمن اغنية سياسية .
. صافي الهيراني (Safi Hirani/سافى ھەیرانی)12ز م
شاعر كوردي صوفي من هيران – شقلاوة، عُرف بجمعِه بين الروحانيات والرومانسية. ينتمي إلى عائلة دينية أرستقراطية حملت لقب “كاك” (السيد)، وكانت رائدة في نشر الطريقة القادرية الصوفية. تُغنّى قصائده في المناسبات الدينية والاحتفالات، وتحوّلت بعضها إلى أغانٍ خالدة بأصوات فنانين مثل طاهر توفيق. وعدنان كريم يُعتبر رمزًا للهوية الكوردية التي تقاوم النسيان عبر الكلمة والموسيقى.
النص الثاني **التشظي تحت جسر الزمن**

**المقدمة**
أكتب بحبر الذاكرة المتكسرة، روحي تترنح بين أنقاض المنفى، أبحث عن ظل كوردستان تحت جسر هابر في سيدني، حيث ضجيج السيارات حزن يهمس في الظلام.
وطن البلوط، مسقط رأسي، ينام في وادٍ بين سفين وسورك، حيث أشجار الجوز تهمس بالخلود، ورائحة الشاي المحمص كانت صلاة الأجداد. اليوم، قلبي يرتجف في غربة قاسية، جسدي مثقل بالسكري وضغط الدم، يجر نفسه كمكنسة أمي التي نكست أزقة الذكريات.
رأسي مصباح متصدع، يضيء ذكريات كالرصاص، وساقاي تتعثر تحت ندوب غير مرئية.
زنزانة صدام، تلك المرآة السريالية، حفرت في جسدي خريطة من كرستالات متوهجة، سياطها شوهت نقاء طفولتي، لكن نار نوروز أعادت النور إلى قلبي. أنا روح مشطورة كزجاج، كما قال هايدغر: “الوجود مُلقى به في العالم”[1].
ابن عربي يهمس: “الإنسان مرآة الكون، لكنها تكسرت في عينيه”[2].
في المنفى، صرتُ شبحًا يحمل نار كاوە، أحلم بشجرة رمان تنزف نجومًا، وخرير دەنکارە يروي ظمأ الروح.

في “مائة عام من العزلة”، كتب ماركيز: “كانوا يعيشون في عزلة لم يكن لها دواء، لأنها سبقت الوجود نفسه”[3]. هكذا أعيش، محاصرًا بصمت المنفى، قنبلة وجودية تنفجر في الظلام، حيث الزمن سكين يحفر الذاكرة حتى تنزف.

**الضياع: رقصة الظل في أنفاق الزمن**

تحت جسر هابر، أجر قدمي كطفل فقد حضن أمه، أنظف شوارع المنفى بجسد مثقل بالمرض، أبحث عن شجرة بلوط كوردستان.
الزمن سلسلة ترن في الظلمة، يحيل اللحظات رمادًا.
شوارع سيدني تذوب في سيريالية مرعبة:
كهف شاندر، عند سفح برادوست، ينبثق من الضباب، جدرانه المثلثة مرايا الأبدية، تحمل أنفاس النياندرتال الذين دفنوا موتاهم مع الزهور قبل سبعين ألف عام، كأنها أناشيد الحياة تحفر خريطة الروح[34].
أتخيل نفسي بينهم، أضع زهرة جبلية على قبر طفل نياندرتال، كأنني أودع شهداء الزيتونة.
السماء ستارة ممزقة تكشف فراغًا. نيتشه يصرخ: “إذا طال نظرك إلى الهاوية، تنظر إليك”[4].
أنظر، لكن لا أرى سوى تشظي نفسي.

بلبل رمادي الريش يغرد على شجرة ميتة، صوته وجع ينبض كقلب الأرض من دەنکارە يسأل:
لماذا يستمر الكون؟
عيناه قلوب متصدعة كالصخر تلومني، كأنني خذلت أطفال الشهداء. وجوههم تطفو في مياه ساقية زندور، أيديهم الشفافة تمتد من الضباب. شيركو بيكس يكتب:
“في المنفى، أنا شجرة بلا جذور، أغصاني تذوب في الحلم”[5].
محمود درويش يضيف: “أحمل وطني كجمرة تحرق يدي، لكنني لا أتركها”[6]. أحتضن البلوط في خيالي، لكنه ينهار رمادًا، كأنه يرفض عزلتي.

**أم مصطفى: صمت يعوي كذئب في ظل الأنفال**

في شيخوسان، قرب باليسان النائمة تحت سفين، عاشت أم مصطفى، عجوز فقدت بصرها في قصف كيماوي عام 1988. نيران صدام أحرقت قراها، وغازاته أذابت أطفال باليسان كشمع تحت سماء صفراء. في منزل ابنها مصطفى، كان بكاؤها ودعاؤها يملأ الليل، يخترق جدران غرفتي في شقلاوة، يطرق روحي المعذبة.
شاب يحمل ندوب السجن والتعذيب، أغرق في تخيلاتها:
أرواح بريئة، محترقة بالظلم، تطفو كظلال تنفجر في صمت المنفى.
السياط في زنزانة صدام شوهت نقاء طفولتي، جدرانها الرمادية كضحكة جلاد، سلاسلها جوقة عبثية، لكن صوتي: “نعم، أنا كوردي!” كان نار كاوە تتحدى الظلمة.

صمتها يحفر ندوبي، يعيدني إلى أنفاس المعذبين كصلاة لا تنتهي. كامو يقول:
“في قلب الظلم، يولد التمرد”[7].
لكن أم مصطفى لا تمرد، فقط تبكي، وأنا أشاركها الحزن عبر جدار الليل. ماركيز يكتب:
“الأحياء يحملون موتاهم في قلوبهم، لكنهم لا يعرفون كيف يودعونهم”[8]. أحمل وجعها، لكنني لا أجد عزاء لروحها أو روحي. أمراضي وغربتي—امتداد لتلك الزنزانة، لكن روحي، كنار إبراهيم، برد وسلام.

**استيقاظ الشهداء: طقوس العشاء الأخير**

كل ليلة، حين يغرق وادي شقلاوة في الظلام، تستيقظ أرواح مقبرة الزيتونة في شقلاوة[9].
ثلاثة وعشرون شهيدًا، بينهم أبناء “دايكة” حليمة الأربعة، ينهضون كظلال شفافة، أجسادهم تنزف ضوءًا باهتًا تحت سماء ممزقة.
يسيرون عبر بساتين الجوز والتوت المنسية لأم “روشن”، متجهين إلى مزار شيخ وسو رحمان، “ربان بيا” الكهف المقدس في سفوح سفين، ملاذ التقوى للمسيحيين والمسلمين عبر أزمنة مضت[10].
تحت الكهف، بئر محفور من الصخر ينفث ضباب الزمن، وفي قلبه شجرة جوز عتيقة، عمرها قرون، جذورها تنبض بحياة أرض الجبال.
أرواح الشهداء تلامس أغصانها، تضع زهورًا جبلية كما فعل النياندرتال في كهف شاندر، كأنها تودع أحلام الوطن الجريح.

في الكهف، يجتمعون حول مائدة ضبابية، في طقوس تشبه “العشاء الأخير”، وحدة روحية تجمع الأديان:
خبز من ذكريات، كأس من دموع. يتلوون صلوات زرادشتية، ينادون بالنور ضد الظلام[11]،
لكن أصواتهم تذوب في صمت وجودي.
ريبين، ريناس، وسروك، أبناء الشتات، يظهرون في الخيال ككرستالات متوهجة: ريبين نجمة زاغروس، ريناس أنفاس دەنکارە، سروك شمعة المستقبل.
ماركيز يكتب: “لم يكن أحد يتذكرهم، لأن الزمن ألقى عليهم غبار النسيان، لكنهم عاشوا في عالم سري لا يموت فيه الأموات”[12].
شهداء الزيتونة يحيون هذا العالم، لكن طقوسهم تذكير بالظلم.
الرومي يهمس:
“النور يدخل من الندبة”[13].
ندوبهم، محروقة بالرصاص، تتراقص كظلال في الكهف.

**زرادشت على سفين: لوحة النار المقدسة**

على قمة جبل سفين، حيث الريح تهمس بأناشيد الأجداد، يقف زرادشت في لوحة سريالية مرسومة بحبر الذاكرة.
تحت ظل “جووتە دار”، شجرتي بلوط متلاصقتين كتوأم مقدس، مرجع القبلة للصلاة[14]، يرتفع زرادشت كمنارة نور، عباءته البيضاء ترفرف كجناحي نسر جريح، عيناه ناران تتحديان درو الظلام.
حوله، ثلاثة وعشرون شهيدًا من مقبرة الزيتونة، يرتدون أثوابًا بيضاء متوهجة، أجسادهم شبه شفافة، ندوبهم ككرستالات تلمع بنور أهورا مازدا.
في وسط اللوحة، شجرة جوز عتيقة، جذورها تمتد كخريطة كوردستان، أغصانها تحتضن أرواح الأنفال.
زرادشت يوقد نارًا مقدسة، كتلك التي أشعلها كاوە الحداد ضد الظلم، ويرسم بها على قماش السماء: جبال زاغروس، مياه دەنکارە، ودماء نوروز. ينادي: “قاوموا الظلام، فالنور يولد من الألم!”[15].

الشهداء يرفعون أيديهم، كأنهم يصلون لأهورا مازدا، أصواتهم أناشيد كاويس آغا تتردد في الوادي.
حزن أم مصطفى ينسج خيوط اللوحة، كأن دموعها حبر ينحت خريطة الوطن.
نيتشه يهمس: “يجب أن تحمل فوضاك لتلد نجمًا راقصًا”[16].
لكن نجمي محترق، كأطفال باليسان.
زرادشت ينظر إلي: “أين شعلتك؟”
أرفع يدي، لكنها مثقلة بندوب السجن.
جسدي لوحة من كرستالات، كل ندبة قصيدة تنبض بهوية كوردستان، لكنني أهمس: “كوردستان ليست حلمًا، بل نار لا تنطفئ.”

**الشوق: أنشودة الروح في حضن الأجداد**

الشوق نار تحرقني، لا تحييني.
تحت جسر هابر، أتذكر شجرة بلوط كوردستان، أهمس: “أنتِ ملاذي”. حاجي قادر كويي يكتب:
“يا وطني، ندبة في دمي”[17].
غرفتي في سيدني تتحول وهمًا: جدرانها تنهار، تصبح سفوح سفين ومياه دەنکارە، حيث جدي جلس تحت شجرة رمان تنزف نجومًا، غليونه يرسم خريطة كوردستان.
الرومي يقول: “خارج الصواب والخطأ، حقلٌ سألقاك فيه”[18].
لكن لا حقل، فقط أطفال الشهداء، أصواتهم صمت يعوي كذئب يطالب بحكايتهم. و أبناء الشتات، يحملون أحلام آبائهم كمشاعل.
ماركيز يكتب: “الأموات لا يعودون، لكنهم لا يغادرون”[19].
أطفال الشهداء أشباح في قلبي، يغنون مع كاويس آغا لكوردستان الحرة.

لاو تسي يهمس: “الوجود في التخلي”[20].
لكن كيف أتخلى عن كوردستان، دەنکارە، أسبينداره، حزن أم مصطفى؟ أنا سائل من الحياة، أحمل عزلتي كصليب.

**اللغة: جسر الروح إلى الوطن**

الكوردية ملاذي. “دار بەڕوو” ندبة تنطق تعيدني إلى أرض الجبال، “شەو” صلاة الضائعين. شيركو بيكس يكتب:
“لغتي وطني، أحملها في عظامي”[21].
أنطق الكوردية تحت جسر هابر، لكن صوتي يذوب في الضجيج. أقول “سەفین”، فأرى بلبلًا يغرد، صوته وجع يخترق الصمت.
بختيار علي يكتب:
“اللغة جسر من خيال”[22].
لكن الجسر ينهار في المنفى.
عبدالله بةشيو يضيف: “كلامنا نار، تحرقنا قبل أن تضيء”[23].
حبري دمي، كلماتي أناشيد كاويس آغا، أكتب بالكوردية لأحيي كوردستان، لأن الكتابة مقاومة، كما قال درويش:
“على هذه الأرض ما يستحق الحياة”[24].

أكتب قصيدة على صخور الغربة:
> في المنفى، ظلٌ بلا جسد،
> أحتضن البلوط، لكنه ينزف،
> لغتي نار، تحرقني،
> كوردستان جرح يتنفس.

**راعية الغنم: أنشودة الحنين المفقود**

في بساتين حلبجة، كانت راعية الغنم تغني عند عين الماء. صوت القبج دعاء، مواعيد العاشقين زهور الجوز، وخرير الماء أسرار الحياة. لكن الصمت اليوم قنبلة وجودية.
أين راعية الغنم؟ أين القبج؟ أين خرير الماء؟ الزمن سرق الأغنية، حولها وجعًا ينبض كقلب الجبال. أكتب أغنيتها، صلاة لأرض الجبال المفقودة:
> راعية الغنم، صوتها ندبة،
> أين القبج عند عين الماء؟
> أين مواعيد العاشقين؟
> أين خرير الماء؟
> الصمت شبح، يذيب الحلم.

نيتشه يقول: “من فقدان ما نحب، نجد أنفسنا أو نضيع”[25]. أنا ضائع في صمتها، أبحث عن صوتها في ظلال أسبينداره، حيث شجرة الرمان تنزف نجومًا.

**الطقوس: تمرد الروح على العبث**

طقوسي درعي ضد العزلة. أعد الشاي في كوب زجاجي، أضيف التين المجفف من بساتين شقلاوة، أقرأ لبيرميرد: “الغربة حلم يلبس ثوب اليقظة”[26].
شمس التبريزي يقول:
“في كل نفس، ابحث عن الحق”[27].
لكن الشاي مر، والحق غائب.
أتتبع كوردستان:
نار نوروز، أناشيد الجبال، صوت كاويس آغا يغني للحرية.
سارتر يقول: “الإنسان محكوم أن يكون حرًا”[28].
لكن حريتي سجن، أكتب أرض الجبال في كل رشفة، أحفر سفين في قلبي. أسمع “ئەی رەقیب”، نشيدًا يوقظ نار كاوە، كأنني أزرع بذور نوروز في شوارع الشتات.

ماركيز يكتب: “العالم كان حديثًا لدرجة أن أشياء كثيرة افتقرت إلى أسماء”[29].
في المنفى، أسمي وجعي: كوردستان.

**الذاكرة: لوحات سيريالية في قلب المنفى**

الذاكرة لوحة سيريالية: أركض في بساتين كوردستان، لكن الأشجار تنزف. أتذكر مقبرة الزيتونة في شقلاوة، 23 شهيدًا، و”دايكة” حليمة التي فقدت أبناءها. جذور البلوط تمتد في قلبي، لكنها تنهار غبارًا.
ليلى قاسم تغني في خيالي، صوتها ألم يحترق كنار كاوە.
شيركو بيكس يكتب: “ليلى تغني في جبالنا”[30].
أتذكر النزوح، القصف، أمي تحملني بين أنقاض الذكريات، أبي يقرأ من كتب المكتبة العامة كأنها بوابة إلى عوالم الفلسفة.
زنزانة صدام تعود:
السياط حفرت خريطة كوردستان على جسدي، ندوبي كرستالات متوهجة، كل ندبة لحن نوروز.

زرادشت يقول: “اختر طريقك، فالنور والظلام فيك”[31].
أختار الذاكرة، فتختارني سجنًا.
كامو يكتب:
“نتصور سيزيف حزينًا، لكنه متمرد”[32].
أحمل ذكرياتي كصخرة سيزيف، أصعد بها جبل المنفى.

**الخاتمة: رقصة الروح في فضاء الميتافيزيقا**

في المنفى، أقف على حافة الوجود، شبحًا يحمل خريطة من كرستالات، كل ندبة نجم ينبض في سماء كوردستان.
الزمن ليس نهرًا، بل سلسلة ترن في الظلمة، تحبس الروح في مسرح عبثي. لكنني، كما علّمني هايدغر، أُلقي به في العالم، أختار أن أكون، أن أقاوم درو المنفى بنار أهورا مازدا.
كوردستان ليست أرضًا، بل فضاء ميتافيزيقي، حيث الذاكرة لوحة سريالية، واللغة نشيد نوروز، والندوب أناشيد كاوە.
نيتشه يهمس:
“من فوضى الألم، يولد نجم راقص”[33]. ل
كن نجمي ليس راقصًا، بل مشعل يضيء لأبناء الشتات الذين يحملون نار الوطن.
الرومي يختم: “ما تبحث عنه يبحث عنك”[34].
أبحث عن كوردستان، فتجدني في شظايا المنفى، في دماء الشهداء، في صوت ليلى قاسم، في ظل شجرة الرمان.
أنا لست المنفي، بل المنفى نفسه، مسرح وجودي ينحت فيه الألم هوية لا تموت.

> أنا المنفي، كوردستان قبري،
> أطفال الشهداء ظلالي،
> أم مصطفى حزني،
> زرادشت صوتي، يتلاشى،
> أنا التشظي، أنا الحرمان،
> لكنني أغني: “ئەی رەقیب ھەر ماوە قومی کورد زمان”.

“لم انتهي بعد
… فانا ولدت لكي اكتب …و اموت لكي اكتب ….وكتبت لكي لاموت”
حسين خوشناو

الهوامش:
[1] هايدغر، مارتن. الوجود والزمان، ترجمة فؤاد كامل، (بيروت: دار الكتاب الجديد، 1988)، ص 174. يشير مفهوم “الملقى به” إلى وجود الإنسان في العالم دون اختيار مسبق.
[2] ابن عربي، محيي الدين. فصوص الحكم، تحقيق أبو العلا عفيفي، (بيروت: دار الكتاب العربي، 1946)، ص 50. استعارة المرآة تُستخدم لتصوير الإنسان كانعكاس للكون.
[3] ماركيز، غابرييل غارسيا. مائة عام من العزلة، ترجمة صالح علماني، (بيروت: دار المدى، 2000)، ص 45.
[4] نيتشه، فريدريك. هكذا تكلم زرادشت، ترجمة علي مصباح، (بيروت: دار التنوير، 2005)، ص 89.
[5] بيكس، شيركو. ديوان شيركو بيكس، (أربيل: دار آراس، 2002)، ص 134. اقتباس معبر عن تجربة المنفى في شعره.
[6] درويش، محمود. في حضرة الغياب، (بيروت: دار الريس، 2006)، ص 23.
[7] كامو، ألبير. الإنسان المتمرد، ترجمة محمد سعد الدين، (دمشق: دار الحصاد، 1990)، ص 55.
[8] ماركيز، مائة عام من العزلة، ص 112.

[9] مقبرة الزيتونة: مقبرة في شقلاوة تضم رفات 23 شهيد تم اعدامهم من قبل نظام الدكتاتور صدام عام 1986 ،.
[10] مزار شيخ وسو رحمان (ربان بويا ووسو رحمان): كهف مقدس في جبل سفين، شقلاوة، يُحترم من المسيحيين والمسلمين. .
[11] أشا ودرو: مصطلحان زرادشتيان يعنيان “الحقيقة” و”الكذب/الظلم” على التوالي. انظر: بويسي، ماري. الزرادشتية: ديانة إيران القديمة، (لندن: دار روتليدج، 1989)، ص 19.
[12] ماركيز، مائة عام من العزلة، ص 201.
[13] الرومي، جلال الدين. المثنوي، ترجمة إبراهيم الدسوقي، (القاهرة: دار الحديث، 2003)، ج2، ص 45.
[14] جووتة دار: شجرتان بلوط متلاصقتان في أعلى جبل سفين، تُعتبران مقدسة ومرجعًا لاتجاه القبلة في شقلاوة.
[15] إشارة إلى تعاليم زرادشت التي تدعو إلى مقاومة الشر (درو) بالنور والحقيقة. انظر: بويسي، الزرادشتية، ص 25.
[16] نيتشه، هكذا تكلم زرادشت، ص 17.
[17] كويي، حاجي قادر. ديوان حاجي قادر كويي، (أربيل: دار سؤال، 1998)، ص 67.
[18] الرومي، المثنوي، ج1، ص 123.
[19] ماركيز، مائة عام من العزلة، ص 189.
[20] لاوتسي. تاو تي تشينغ، ترجمة محمد حبيب، (بيروت: دار العودة، 1995)، ص 34.
[21] بيكس، ديوان شيركو بيكس، ص 189.
[22] ، بختيار. آخر الرمان، (دمشق: دار ورد، 2006)، ص 45.
[23] ، عبد الله بةشيو. ديوان عبد الله بةشيو، (السليمانية: دار سردم، 1990)، ص 78.
[24] نيتشه، هكذا تكلم زرادشت، ص 112.
[25] بيرميرد، محمد. ديوان بيرميرد، (بغداد: مطبعة الشعب، 1970)، ص 45.
[26] التبريزي، شمس الدين. المقالات، تحقيق محمد علي موحد، (طهران: دار خوارزمي، 1990)، ص 67.
[27] سارتر، جان بول. الوجودية مذهب إنساني، ترجمة عبد المنعم الحفني، (بيروت: دار الآداب، 1967)، ص 23.
[28] ماركيز، مائة عام من العزلة، ص 11.
[29] بيكس، ديوان شيركو بيكس، ص 201.
[30] إشارة إلى تعاليم زرادشت حول الاختيار بين النور والظلام. انظر: بويسي، الزرادشتية، ص 30.
[31] كامو، ألبير. أسطورة سيزيف، ترجمة علي مقلد، (بيروت: دار التنوير، 1980)، ص 89.

[32] بختيار علي ، آخر الرمان، ص 78.
[33] الرومي، المثنوي، ج3، ص 56
————————————————
النص الثالث
جذور الذاكرة: اليمامة وشجرة التوت


جغرافية الوجود الضائع:

شقلاوة لم تكن مكانًا، بل كانت جرحًا دائريًا في جسد الزمن.
كل شارع فيها يشبه شريانًا ممتدًا من طفولتي، وكل حجرٍ في أزقتها القديمة يحمل بصمةً من بصمات العدم.
كنتُ أسير بين بيوتها المتداعية كشبحٍ يبحث عن جسده، بينما كانت أشجار الجوز العتيقة تمتد كأذرعٍ نحو السماء، وكأنها تحاول لمس كينونة مفقودة.
كل وجه يمر هو شبحٌ من شواخص الطفولة، وكل نسمة هواء تحمل همسًا من ذاكرة غائبة. هنا، حيث يذوب الواقع في ضباب الحنين، يصبح الماضي كائنًا حيًا يسكن الحاضر مثل ظلٍ طويل.
الشتاء في شقلاوة كان كائنًا حيًا ينزف ضبابًا أبيض.
أتذكر كيف كان البرد يخترق جسدي النحيل وأنا في طريقي إلى المدرسة، كأنه سكينٌ جليدي يُذيب حدود الجسد والروح.
القميص الأبيض الملطخ بالطين كان أشبه بعلم استسلام لمعركةٍ خسرتها قبل أن أبدأها.
كنتُ أمشي، شفتاي تتراقصان من البرد، أحمل كتبًا ممزقة كأجنحةٍ مبللة، وأتساءل في سري: هل أنا موجود حقًا، أم أنني مجرد ظلٍ مرسوم على جدار الزمن؟
شقلاوة لم تكن مجرد مدينة، بل كانت فضاءً ميتافيزيقيًا حيث الوجود نفسه يتشظى، وكل خطوة هي حوار مع العدم.
في تلك الأيام، كنتُ أعتقد أن الطفولة هي المكان الوحيد الذي لا يموت. كنتُ أسير بين أشجار الرمان، أضع يدي على جذوعها المتشققة، فأسمعها تهمس بأسماء كل الذين مرّوا هنا قبل أن يصيروا ترابًا.
حتى العصفور الذي دفنته ذات ظهيرة—جسده الصغير ينبض بأسئلةٍ لا جواب لها:
أين تذهب الأرواح عندما تفقد براءتها؟
كنتُ أحفر له قبرًا بإصبعي، أغطيه بأوراق الخريف، وأقول في سري: “لو عرفت أنني سأكبر، لما دفنتك.” كنتُ أدفن جزءًا مني لم أعد أعرف كيف أحمله، وكأن الطفولة جنازةٌ لا تنتهي.

الحفلة الجماهيرية: تيه الفرح…

في ربيع السبعينيات، حين كنتُ طفلًا لا يتجاوز الثامنة، تحولت “بەستۆرە”” إلى لوحة حية تنبض بألوان كوردستان. تحت سفوح جبل سفين “سري بلند”، امتدت آلاف العوائل كسجادة منسوجة من الأحلام، تفترش الأرض احتفالًا بذكرى اتفاقية 11 آذار.
كانت التلال تنحدر كأنها تحتضن الربيع، والهواء مشبع بعبق العشب الندي، ممزوجًا برائحة الكباب المشوي والخبز الطازج.
أصوات الزغاريد ترتفع كأصداء من الجبال، تتشابك مع أنغام الدبكات الكوردية، كأن الأرض نفسها ترقص.
الملابس الزاهية، كقوس قزح، تتماوج مع الريح: الأحمر الناري يحاكي نار نوروز، والأصفر الذهبي يعكس شمس كوردستان، والأخضر يهمس بأسرار الغابات.
في قلب الحفل، ارتفعت خيمة عظيمة كمعبد للموسيقى، يتردد فيها صدى أعظم أصوات تلك الحقبة.
“شمال صائب”، بصوته الذي يوقظ الجبال، كان يغني “ئەرێ لەیلى”، ويردد “فواد أحمد وتحسين طە” معه: “هاوار لەيلى!” كأن الأغنية نداء من قلب كوردستان.
المكبرات نادت قلبي الصغير، فأركض باتجاه الخيمة، أترك عائلتي خلفي، غارقًا في لوحة مارك شاغال حيث الأحلام تطير دون أجنحة.
نزلتُ إلى الوادي، حيث الحشود ترقص، والألوان تتشابك كأنها لوحة لا نهائية.
لكن وسط الزحام، ضعت… !
آلاف العوائل، وأنا لا أعرف أين تجلس أمي، “دايك”، أو أين يقف أبي.
حاولتُ العودة، لكن الدبكات ابتلعتني، والأغاني أغرقتني.
كنتُ طفلًا تائهًا، لكن قلبي كان يرقص.
لم أخف، فكيف أخاف وكوردستان تحتضنني؟
أمسك بي أناس طيبون، رفعوني إلى المنصة حيث كان “شمال صائب وفواد أحمد وتحسين طە” يغنون كأن أصواتهم نار زرادشت.
أعلنوا: “هذا الطفل ضائع!” تخيلتُ نفسي أمسك المكبر بيدين مرتجفتين، لكنني لم أفعل.
قلت في قلبي: “أنا طفل ضائع، لكني فرح لأني بينكم!”
أصبحت روحي جزءًا من نوروز وكوردستان، كما قال محمود درويش: “الحياة هناك، حيث نغني معًا.”
الجموع هتفت، والزغاريد ارتفعت كأجنحة تحملني إلى السماء.
رجل عجوز بلحيته البيضاء رفع عصاه وقال: “هذا ابن كوردستان!” امرأة بثوب أحمر ألقت وردة، وأطفال ركضوا نحو الخيمة يلوحون.
شعرتُ أنني جزء من نسيج هذا الشعب، كحبة توت في بستان شقلاوة.
اليوم، وأنا في سيدني، أتخيل أبنائي—ريبين، ريناس، سروك—يرقصون دبكات “بەستۆرە”، يحملون إرث الفرح.
تلك الزغاريد كانت نشيدًا ينسج نفسه مع “ئەمرۆژی ساڵی تازەی نەورۆزە هاتەوە”، كأن الجميع يغني لنوروز، للحياة، لكوردستان.
سمعتُ صوت عائلتي ينادي، أصواتهم تتردد بين الزغاريد، كجزء من نشيد “حسن زيرەك”.
تخيلتُ النداء كطير قبج يحلق فوق جبل سري بلند.
أمي اندفعت نحوي، عيناها تلمعان بالدموع والفرح، تهمس: “كوردستان لن تتركك تتوه!” جدتي”دایکە حبيبة” قالت: “مثل كاوە الحداد، رقصتَ مع النار!” تلك اللحظة كانت لوحة لبيكاسو قبل “غيرنيكا”، حيث الألوان نابضة بالحياة.

طقوس نوروز: نار الحياة..

في نوروز، كانت النار تتراقص على تلال شقلاوة، وكأن زرادشت يبارك الربيع. كما كتب نيتشه: “عليك أن تصبح رماداً قبل أن تتجدد.” اليمامة تحلق فوق البستان، وأنا أركض بين الألوان، أظن العالم كله هذه اللحظة.
جدتي حكت عن كاوە الحداد، بطل لم أفهم قصته بعد. صوت “ئەی رەقيب” هز قلبي الصغير، كأن الجبال تغني معنا. نوروز كان احتفالًا بالحياة، لكن في سيدني، المرض يذكّرني أن الحياة مؤقتة.
كما قال كامو: “في مواجهة العبث، التمرد هو خلق المعنى.”
نوروز بالنسبة للكورد هو نشيد المقاومة، رمز الانتصار على الظلم. كنتُ أقف مع عائلتي على تلة مشرفة، النيران تشتعل كقلوبنا، والدبكات تدق الأرض كأنها تستدعي أرواح أجدادنا.
رائحة الدخان تمتزج بعبق العشب، وأصوات الزورنا والدهول تتردد كأصداء من زمن كاوە.
كنا نرتدي ملابسنا التقليدية—أمي بثوبها الأخضر المطرز، وأبي بجبته الكوردية”شەدەی سۆر”—ونرقص في حلقات لا نهائية، كأننا نرسم حدود كوردستان بأقدامنا.
ذات شتاء، حين سقطت أول ثلجة على شقلاوة، تجمعت العائلات في بيوتها الطينية، تشعل النيران في المدافئ، وتتبادل قصص الأجداد.
كانت جدتي”دايكه حبيبة”: تحكي عن كيف كان الأطفال يركضون تحت الثلج، يصنعون رجال ثلج بأعين من حبات البلوط، وكأنهم يخلقون حراسًا للوطن.
كنا نأكل خبز التنور مع العسل، والنار ترقص في المدفأة، كأنها تحكي قصة نوروز بصمت.
تلك الطقوس كانت صلاة، وعدًا بأن الربيع سيأتي، مهما طال الشتاء.
جدتي قالت: “نوروز هو يوم قتل كاوە التنين.
نارنا لتذكيرنا بأننا شعب لا يُكسر.” أشارت إلى النار: “النار تحترق مثل قلبك.” شعرتُ بالفخر يملأ صدري، كأنني أحمل إرث كاوە.
كنا نغني مع الحشود، وأصواتنا تتعالى مع “ئەی رەقيب”، والكبار يرددون أبياتًا مستوحاة من الشعر الكوردي:

نوروز، يا يوم النصر والأمل
فيكِ كوردستان تُبعث من جديد
ناركِ تحرق الظلم،
يا عيدنا الأبدي يا رمز الحرية،
يا درب الشهيد …

هذه الأبيات كانت صلاة، وعدًا بالحرية.
كنتُ أرى في عيون أبي حلمًا لم يكتمل، لكنه زرعه فينا.
نوروز كان تحديًا لكل من حاول إخماد روحنا.
الزغاريد تصعد كأرواح الأبطال، والأطفال يركضون حاملين أعلام كوردستان.

بائعو التوت والنرجس: لوحة البراءة….!

في صيف الثمانينيات، كانت شقلاوة تتحول إلى لوحة حية من الألوان والحركة، ملاذًا ربيعيًا للسياح الهاربين من لهيب المدن العراقية وحرارة الخليج.
كنا نسميهم “المصطافين”، أولئك الذين يأتون إلى شقلاوة ليتنفسوا هواءها النقي، ويغسلوا أرواحهم بمياهها العذبة المتدفقة من نبع دەنكارە، ويستمتعوا بجمالها الذي يحاكي جنة زرادشت.
كانت الطرقات تعج بالحياة: أصوات بائعي الكباب، ضحكات العائلات، وخرير الماء في الجداول الصغيرة التي تنحدر من الجبال. كنتُ أنا وأختي،”ژیان” في التاسعة من عمري، جزءًا من هذه اللوحة، بائعي توت أسود نجنيه من بستان أبي، نحمل سلالنا الصغيرة ونركض بين الزوار، ننادي بأصواتنا الطفولية: “توت! توت أسود من شقلاوة!”
كنا نقف على جانب الطريق الرئيسي المؤدي إلى شلال گەلی عەلی بەگ امام مطعم ” كاويس اغا”، حيث تتوقف سيارات المصطافين لالتقاط الصور أو شراء الهدايا.
رائحة التوت الأسود كانت تملأ الهواء، ممزوجة بعبق النعناع البري الذي ينمو على ضفاف الجداول. كانت أختي ترتدي ثوبًا أحمر مزخرفًا بزخارف كوردية، وأنا بقميص بسيط ملطخ بعصير التوت.
كنا نضحك ونتبادل النظرات المرحة ونحن نرتب الحبات في السلال، كأننا نرسم لوحة لماتيس بألوان الأرض.
كانت الشمس تداعب وجوهنا، والنسيم يحمل أصوات السياح وهم يتحدثون عن جمال شقلاوة: “هذا هواء لا يُشترى!” يقول أحدهم، بينما يشتري سلة توت من يدي الصغيرة.
لكننا لم نكن وحدنا.
على امتداد الطريق، كانت مجموعات من الأطفال، مثل الفراشات الملونة، يبيعون الفواکە و النرجس الجبلي الذي يجمعونه من البساتین و سفوح الجبال.
كانت الفتيات الصغيرات، بثيابهن الزاهية، يحملن باقات النرجس الأبيض الممزوج بالأصفر، يركضن نحو السيارات ويقلن بأصواتهن الناعمة: “نرجس! نرجس من جبال كوردستان!
” كانت ابتساماتهن كالشمس الصغيرة، تضيء وجوه المصطافين الذين يأتون من بغداد أو الخليج بحثًا عن لحظات سلام.
اتذكر إحداهن، فتاة “نيشتمان” لا تتجاوز السابعة، تقف على حجر بجانب الطريق، تمد باقة نرجس إلى سيدة في سيارة فاخرة، وتقول: “خذي زهرة، ستجعلكِ تبتسمين!” ضحكت السيدة وأعطتها قطعة نقود، لكن الفتاة أضافت زهرة أخرى كهدية، كأنها تقول: الفرح لا يُباع.

كنا، أنا وأختي “ژیان”وبائعات النرجس، جزء من سيمفونية شقلاوة الصيفية.
كنا نتبادل النكات، نغني أغنيات طفولية، ونركض بين الأشجار لنجمع المزيد من التوت .
كانت أختي تغني أغنية كوردية قديمة، صوتها يتردد بين الجداول: “شقلاوة، يا قلب الربيع، يا أرض الأحلام!” وكنتُ أقلدها، أحاول الغناء بصوتي الأجش، فتضحك وترميني بحبة توت. كنا نعيش اللحظة، غارقين في البراءة، كأن العالم كله هو هذا السوق الصغير، هذه السلال، هذه الابتسامات.
لكن وراء تلك الضحكات، كان هناك ظل خفي.
كنا أطفالًا فقراء، نبيع التوت والنرجس لنساعد عائلاتنا في زمن كان الظلم فيه يخيم على كوردستان. في الثمانينيات، كانت الحياة صعبة؛ الحروب والقمع كانا يلقيان بظلالهما على قرى و مدن مثل شقلاوة، حتى وهي تحتضن السياح.
كنتُ أرى في عيون أختي، وهي تعد النقود في نهاية اليوم، مزيجًا من الفخر والتعب.
كنا نعلم أن هذه النقود ستشتري الخبز أو الدواء لأمي، لكننا لم نترك الفقر يسرق فرحنا.
كانت بائعات النرجس، مثل الفراشات، يواجهن الحرمان بابتساماتهن.
كنتُ أرى إحداهن تعطي زهرة مجانًا لطفل صغير مع أمه، كأنها تقول: “الفقر لا يملك قلبي.
” تلك البراءة، تلك الضحكات، كانت تمردًا صامتًا ضد الظلم، كأننا، بسلالنا وباقاتنا، نعلن أن كوردستان، حتى في أحلك أيامها، لا تزال تغني.

ذات ظهيرة مشمسة، بينما كنتُ أنا وأختي نركض بين السيارات على الشارع العام في منطقة “كريكور” حاملين سلال التوت كأجنحة فراشات، اندفعت سيارة “فوكس” كريح غاضبة من الوادي.
لم أرَ سوى وميض معدني، ثم طار جسدي النحيف كيمامة في سماء شقلاوة، لتصطدم رأسي برصيف الشارع العام أمام “مطعم كاويس”. امتزج دمي بدم التوت الأسود، كأن الأرض نفسها تنزف معي.
سلالنا تكسرت، والتوت تناثر كنجوم محطمة على الأسفلت. السائق، ظلٌ جبان، هرب تاركًا طفلًا ملقى وسط الطريق. أمام المطعم ، حيث أنغام كاويس آغا القومية كانت تتردد في ذاكرة الرواد، توقف العالم للحظة: صوت النرجس يهمس، والجداول تسكت.
أيدٍ طيبة هرعت إلينا، امرأة بثوب أخضر تهمس: “هل أنتم بخير، يا أبناء كوردستان!” استيقظتُ في المستشفى، رأسي ينبض كإيقاع طبل نوروز، وأبي المسكين وأمي وإخوتي بجانبي، أعينهم تلمع بالصمود. نهضنا، نلملم ملابسي الملطخة بالدم والتوت المتناثرة كأننا نلملم كرامتنا، وعدنا إلى البيت، كأن الأرض تقول: “كوردستان لا تسقط.
” تلك الصدمة، مثل ضربة فرشاة على لوحة طفولتنا، تركت ندبة في روحي، لكنها لم تسرق ضحكاتنا.
بعد أيام، عدت أبيع التوت مع أختي، رأسي ملفوف بشاش طبي أبيض كأنني ألبس تاج كاوە، وأود أن أقول للعالم: أنا حفيد كاوە الحداد، هذا الجرح لن يوقفني، حتى وإن اختلط لون دمي مع دم التوت الأسود وتراب شقلاوة ليصبحا عجين الروح لما تبقى من العمر.
كما قال غاستون باشلار: “الطفولة هي أرض المطلق”، وفي تلك الأيام، كانت شقلاوة أرضنا المطلقة.
كنتُ أرى في كل حبة توت، في كل زهرة نرجس، قطعة من كوردستان. كنا، أنا وأختي والأطفال الآخرون، كأننا نرسم لوحة لكلي: ألوان زاهية تخفي خلفها قصصًا عن الحرمان، لكنها لا تفقد بريقها.
كنتُ أتخيل أننا مثل طير قبج، نحلق فوق الجبال بجناحين من الفرح، نضحك رغم القفص الذي حاول الزمن أن يحبسنا فيه.
في إحدى اللحظات، جاءت سيدة من بغداد، اشترت سلة توت ونظرت إليّ وقالت: “ابتسامتك أحلى من التوت!” ضحكتُ وأعطيتها سلة إضافية، كأنني أقول: هذا هو كرم كوردستان.

جبل سفين وكهف ربان بويا” شيخ وسو رحمان”: الحج إلى قلب الوجود⁄..

قررت عائلتي أن نذهب في رحلة إلى جبل سفين، الجبل الشامخ الذي يقف كحارس لتاريخ كوردستان.
كنتُ صبيا انذاك، وكانت تلك الرحلة بمثابة طقس مرور بالنسبة لي. جبل سفين، بقممه التي تخترق الغيوم، كان يبدو لي كأنه لوحة لفان غوغ، حيث تتداخل الألوان الخضراء والرمادية في تناغم ساحر.
كنا نسير عبر الوديان الضيقة، حيث أشجار البلوط والزيتون على مقربة من مقبرة “دير حنا” ترمي بظلالها على المسارات الترابية.
رائحة الأعشاب البرية، مثل الزعتر الكوردي والبابونج، كانت تملأ الهواء، ممزوجة بعبق التراب الذي بللته أمطار الربيع.
كانت الجداول الصغيرة تتدفق من الجبل، تغني أناشيد خافتة تذكرني بجدول دەنكارە في بستاننا.
كان هدفنا ليس مجرد الوصول إلى كهف “شيخ وسو رحمان”، المعروف بـ”ربان بويا”، بل الحج إلى قلب جبل سفين، حيث الأرواح تصلي والأحلام تتجدد. جدتي “حبيبة”، بصوتها الذي يحمل حكمة الأجداد، قالت لي قبل الرحلة: “ربان بويا” ليس كهفًا، يا ولدي، بل رحم الأرض، حيث تتجمع أسرار شعبنا وتنبض بالحياة.”
وهي تمسك يدي الطفولية، شعرتُ أن خطواتنا ليست مجرد سير عبر الوديان، بل عبور إلى فضاء ميتافيزيقي يربطنا بجذور كوردستان.
كما قال جلال الدين الرومي: “خارج حدود الصواب والخطأ، هناك حقل، سألقاك هناك.”
كان “ربان بويا” شيخ وسو رحمان “ذلك الحقل، ملتقى الروح والأرض.

بينما كنا ننحدر الوادي، مررنا بمقبرة مسيحية كبيرة، قبورها الحجرية مغطاة بالطحالب، تقف كشاهدة صامتة على أزمنة غابرة. في قلبها، كان “دير حنا” القديم، جدرانه الرمادية متآكلة لكنها متمسكة بالحياة كإرادة كوردستان. حوله، انتشرت أشجار زيتون معمرة، أغصانها الملتوية كأيدٍ تصلي، أوراقها الفضية تهمس بحكايات قرون مضت. تلك الأشجار، التي شهدت صعود وسقوط إمبراطوريات، كانت تذكرني بكلمات ألبير كامو: “في مواجهة العبث، التمرد هو خلق المعنى.” المقبرة ودير حنا كانا تمردًا ضد النسيان، تذكيرًا بأن كوردستان أرض تعايش، حيث المسيحي والمسلم، الكوردي والآخر، يتقاسمون التراب والذاكرة.

واصلنا السير، وكانت الطبيعة تتحدث بلغة الصمت.
أشجار البلوط والجوز ترمي ظلالها كأنها أحضان الزمن، والجداول الصغيرة تغني أناشيد خافتة، كأنها تهمس بأسرار زرادشت.
رائحة الزعتر الكوردي والبابونج تملأ الهواء، كأن الأرض تقدم نفسها قربانًا للحجاج.
لكن الرحلة لم تكن جسدية فقط؛ كانت بحثًا عن المعنى في عالم يبدو عبثيًا أحيانًا.
كنتُ أشعر، وأنا أسير مع عائلتي، أننا نتمرد على الزمن، على النسيان، على المنفى الذي سيأتي لاحقًا.
عندما اقتربنا من مدخل الكهف، رأيتُ حمامات جبلية بنت أعشاشها في ثغرات الجبل، كأنها حراس صغار للمزار المقدس.
زقزقتها الخافتة كانت كأناشيد ترحيب، كأنها تحمل أرواح الأجداد التي تحلق بحرية في سماء كوردستان.
تلك الحمامات، التي اختارت الصخر ملاذًا، كانت تذكرني بطير قبج—رمز التضحية والحرية—كأنها تقول: حتى في شقوق الجبل، الحياة تتشبث بالأمل. شعرتُ برهبة وجودية، كأنني أقف على عتبة الوجود نفسه.
كان المدخل ضيقًا، محاطًا بصخور رمادية لامعة، كأن الجبل يفتح ذراعيه بحذر، يدعونا إلى أعماقه لكن يحذرنا من أسراره.

في مدخل الكهف المحفور بالصخر، المكون من حجرتين، كان البئر القديم يقبع كشاهد على العصور، ونمت شجرة جوز عجوز، جذورها تتشابك مع الصخر كأنها تمسك بقلب الأرض.
تلك الشجرة، التي تحدت الزمن، كانت رمزًا للصمود الكوردي—جذور تمتد إلى الأبد، حتى في الظلمة. كما قال جان بول سارتر: “الحرية ليست في ما نفعل، بل في ما نختار أن نكون.” شجرة الجوز اختارت أن تكون شاهدة على أحلام شعبنا.
في الحجرة الأولى، كانت الجدران مبللة بقطرات الماء، تعكس ضوء الشموع التي أشعلها الزائرون كأنها كوكبة نجوم في سماء تحت الأرض.
رائحة الرطوبة والبخور تملأ الفضاء، وصوت الماء المتساقط من السقف كان كدقات قلب الأرض.
لكن ما أثار دهشتي كان الأحجار الصغيرة، أجزاء دقيقة ملتصقة ببعضها أو بجدار الكهف، كأنها تحمل روح المزار.
قالت جدتي “دايكه حبيبة”: “هذه الأحجار إشارات روحية.
إذا أردتَ أمنية، ادعُ شيخ “وسو رحمان، ربان بويا”، وحاول أن تلصق حجرًا بالجدار.
إن التصق، ستتحقق أمنيتك.
” بنظرة مليئة بالإيمان، طلبت مني أن أجرب.
بيدين مرتجفتين، حملتُ حجرًا صغيرًا، همستُ بأمنية لم أعرف كيف أنطقها، وضغطتُ الحجر على الجدار. لدهشتي، التصق! ..
حاول أفراد عائلتي بعدها، لكن أحجارهم كانت تسقط الا نادرا تلتصق، بينما كانت أحجاري، في كل مرة، تلتصق كأن الجبل نفسه يسمعني.

شعرتُ أنني مختار بطريقة غامضة، كأن الكهف يهمس لي بسر الحياة.
كما كتب غاستون باشلار: “الفضاءات التي نحبها تصبح جزءًا من كينونتنا.”
تلك الأحجار لم تكن مجرد صخور، بل كانت جسورًا بين قلبي الصغير وأبدية كوردستان.
وقفنا في وسط الكهف، حيث وضع جدتي شمعة بجانب الأخريات، وقال بصوت يحمل ثقل التاريخ: “هنا نصلي من أجل كوردستان، من أجل أبنائنا.
” كنتُ أنظر إلى الشموع، أتخيل أن كل واحدة تحمل حلمًا لكوردي—غادر أو بقي—كأنها أرواح ترفض النسيان.
كل شعلة كانت وعدًا بالحرية، كطير قبج يضحي ليحرر رفاقه من القفص. جدتي “دايكة حبيبة” أمسكت يدي، عيناها تلمعان كالشموع، وقالت: “هذا الكهف مثل طير قبج، يحمي أحلامنا حتى لو كنا في قفص الظالم.
” ثم بدأت ترتل أغنية قديمة، كأنها تتحدث إلى الجبل نفسه، صوتها يتردد بين الجدران كصلاة ميتافيزيقية:

يا سفين، يا حارس الأحلام
احفظ كوردستان من الظلام
في كهفك، نجد السلام
ونار نوروز تحمي الأيام

كانت الأغنية طقسًا يربطنا بالأجداد، بالأرض، بالحرية. شعرتُ أن الكهف يتنفس معنا، وأن الشموع ترقص مع صوت جدتي، بينما أصداء زقزقة الحمامات الجبلية تتسلل من الخارج، كأنها تنضم إلى الصلاة.
كان المكان معبدًا زرادشتيًا، حيث النار والماء والصخر يتحدثون لغة الوجود. ربان بويا، المحفور بالصخر، لا يزال مزارًا يستقبل الزائرين حتى اليوم، يحمل أحلامهم وأمنياتهم كما حمل أمنياتي يومها.
في تلك اللحظة، أدركتُ أن الحج إلى الكهف لم يكن للوصول إلى مكان، بل للعثور على أنفسنا—ككورد، كأحفاد كاوە الحداد، كحاملي نار نوروز.

في سيدني اليوم، حين أغمض عيني، أرى ظلال جبل سفين وأسمع صوت الماء في كهف ربان بويا.
أتذكر يد جدتي الخشنة، وشمعتها، وأغنيتها التي كانت كصلاة. أرى أبنائي—ريبين، ريناس، سروك—كأنهم يركضون في تلك الوديان، يحملون أحلام كوردستان في عيونهم.
كوردستان بالنسبة لي ليست أرضًا فقط، بل قلب ينبض في كل كوردي.
تلك الرحلة إلى جبل سفين لم تكن مجرد زيارة، بل كانت وعدًا بأن أحمل كوردستان معي، مهما ابتعدت.

عالم السحر: لوحة الذكريات:

عالمي الصغير كان مكتظًا بالسحر: الكوخ العتيق بشباكه الأزرق الباهت، وظل شجرة الجوز العملاقة التي تخيلتها ساحرة، وعين الماء الهادئة بجوار الجدول. في تلك الأيام، كنتُ أرى بستاننا كأنه لوحة “جنة العريف” لماتيس، حيث تتشابك الألوان الخضراء والحمراء في تناغم يخفي وراءه عالمًا من الأسرار. وكما كتب بول كلي: “الفن لا يكرر المرئي، بل يجعل الأشياء مرئية.
” كانت شجرة الرمان الحمراء تقف كضربة فرشاة جريئة في تلك اللوحة.
كنتُ أتخيل أن بستاننا مرآة لكوردستان بأسرها.
كل صباح، كنتُ أركض إلى عين الماء، حيث الفراشات الملونة ترقص فوق السطح المتلألئ.
كنتُ أعتقد أن الماء يحمل أسرار الجبال، وأن الفراشات هي أرواح الأبطال تحلق بحرية.
ذات مرة، رأيتُ اليمامة تهبط على شجرة الجوز، تزقزق بصوت يشبه أناشيد نوروز.
تخيلتُ أنها جاءت لتحكي لي عن كاوە، عن المقاومة، عن الحرية. كنتُ أجلس تحت الشجرة، أحلم بأن أكون كاتبًا يروي قصص شعبي، كما كان أبي يحلم بالكتب. كنتُ أرى في كل زهرة، في كل حجر، قصة تنتظر أن تُكتب.
كنتُ أعتقد أن جذور شجرة التوت تمتد إلى كل بقاع الأرض، وأن أوراقها هي سقف العالم.
وكما كتب جان بول سارتر: “الطفولة هي اللحظة الوحيدة التي نعيش فيها دون أن نحتاج إلى معنى.”
اليمامة كانت تسمع أحلامي عن أن أصبح كاتبًا، فترد بزقزقة تقول: “ستكبر وتنسى.”
لكنني لم أنس.
كان والدي، الموظف البسيط في المكتبة العامة، يحب الكتب رغم أنه لم يكن يستطيع القراءة بشكل جيد.
كنت أرى شغفه بالكتب كقصص لم تُروَ بعد، فأردت أن أكون صوت تلك القصص.

ظلال الخوف: بداية الكسر:…

لكن ظلالًا قاتمة زحفت نحو بستاننا الآمن.
وكما يذكر ألبير كامو في “الطاعون”: “الخوف من المجهول هو أكثر أنواع الخوف إيلامًا.”
ذات مساء، بينما كنتُ أجمع حبات التوت، رأيتُ دموع أمي تسقط على السلة كقطرات دهان زائدة على لوحة لم تكتمل.
الان تذكرتُ لوحة “الصرخة” لإدفارد مونش، حيث الوجوه تذوب في صمت مرعب والسماء تنزف ألوان القلق.
سمعتُ همسات الكبار عن “الملاحقات ضد الثوار”، وشعرتُ بأن بستاننا صار أشبه بتلك اللوحة: ألوانه مشوهة، وأشجاره التي كانت تغني صارت تصرخ صرخات صامتة.
كنتُ أسمع صوت الريح في الليل، كأنها تحمل أخبارًا من جبال زاغروس.
كنتُ أتخيل أن الأشجار تهمس لبعضها عن أيام قادمة، عن ظلال قد تطفئ نار نوروز.
لكن حتى في تلك اللحظات، كنتُ أجد ملاذًا في ذكرى كلمات جدتي: “كوردستان لا تموت، لأنها نار في قلوبنا.”
كنتُ أحمل هذه الكلمات كتعويذة، أتمسك بها وأنا أرى الخوف في عيون أمي.
اليوم، في سيدني، حياتي تشبه تلك اللوحة: جسدي مشظى بالمرض، وروحي ممزقة بالغربة. لكن الذاكرة، كضربة فرشاة جريئة، تعيد رسم شقلاوة، حيث اليمامة لا تزال تحلق.

ليلة النضج: أسئلة الفجر:…

كبرتُ فجأة في تلك الليلة.
بقيتُ مستيقظًا حتى الفجر، أتساءل: هل ستعود اليمامة؟
هل سنلعب حول عين الماء كما كنا؟
وكما كتب فان غوغ في رسائله: “هناك شيء من اللانهاية في لون السماء الزرقاء.”
نظرتُ من نافذة الكوخ إلى النجوم، وحاولتُ أن أرسمها في مخيلتي كاللوحات التي رآها أبي في كتب الفن، لكنها ظهرت كبقع داكنة، كتلك التي في لوحات فرانسيس بيكون، حيث الوجوه تُمسخ والأجساد تذوب.

صوت الأمل: راديو صوت كوردستان:…
الآن، وأنا أكبر من أبي حين رحل، ما زلتُ أسمع صرير الراديو القديم في منتصف الليل.
كان يضبطه على موجة “صوت كوردستان” ويصغي بجوارحه كأن الأمل يتنفس بين التشويش.
وكما كتب إرنست بلوخ: “الأمل ليس مجرد توقع، بل هو فعل مقاومة ضد الظلام.”
عيناه تتوهجان كجمرتين في الظلام.
في سيدني، أعيش على حافة الوجود، بين شقلاوة وسيدني، بين الحياة والموت.
الغربة هي حالة ليمينالية، فضاء بيني حيث الروح تتوق إلى الوطن لكن الجسد يقيدها.
كما قال الرومي: “أنا لست من الشرق ولا من الغرب، بل طائر من عالم آخر.”
اليمامة في ذاكرتي هي ذلك الطائر، تحلق فوق شجرة الذاكرة، بينما المرض يربطني إلى هذا العالم، يذكرني بأنني غريب حتى عن نفسي.

خاتمة: معجزة الذاكرة:….

اليوم، كلّما سمعتُ زقزقة يمامة أو أنغام “ئەرێ لەيلى”، أعودُ طفلًا تحت شجرة التوت، أو تائهًا في بستورة.
لكنّي أعرف أنّ بعض الطفولة لا تعود، وأنّ بعض الأشجار تموت وهي واقفة، تاركةً جذورها تعوي في التراب.
وكما كتب مارك روتكو: “اللوحة يجب أن تكون معجزة.”
لكن معجزتي الوحيدة الآن هي أن أتذكر ذلك البستان وتلك الحفلة دون أن أنكسر.

في سيدني، حيث الغربة تحاول أن تسرقني من نفسي، أجد كوردستان في ذاكرتي.
أرى شجرة التوت، أسمع زغاريد “بەستۆرە، أشم رائحة نار نوروز، وأتذكر ظلال جبل سفين.
أرى أبنائي—ريبين، ريناس، سروك—كأنهم يحملون تلك الذكريات، يزرعونها في أرض جديدة.
كوردستان بالنسبة لي ليست مجرد وطن، بل هي النار التي تحترق في قلبي، الشعر الذي كتبه بيرميرد، والتضحية التي يرمز إليها اليمامة.

أغمض عينيّ وأرى اليمامة وكأنها طائرٌ من لوحة “حديقة المباهج الأرضية” لـهيرونيموس بوش، حيث تختلط الفرحة بالرعب، والحلم بالكابوس.
لكن في تلك اللوحة، أجد نفسي، طفلًا تائهًا لكنه حر، كورديًا يحمل وطنه في روحه.

اشتياق…

إشتقت إلى نفسي، إشتقت إلى طفولتي البريئة،
إلى عبثي ولعبي وصراخي،
إلى تلك النسمات الحارقة الثلجية التي كانت تلسعني وتجمد أطراف أصابعي وأنا ذاهب إلى مدرستي، وكأني جندي في إحدى الثكنات العسكرية النائية،
كنتُ أمشي وتتراقص شفتاي من البرد وأنا أحمل تلك الكتب الممزقة ولا يكسو جسدي النحيف غير قميص أبيض وقد تلوث من الطين والمطر.
إشتقت إلى البساتين وأشجار الجوز والرمان على أطراف منزلنا العتيق،
أحنّ إلى مزار ذلك العصفور الصغير الذي دفنته منذ ٤٥ سنة.
إشتقت إلى صلاة العيد وغروب الشمس والأمسيات وضجيج المتسوقين والسياح ودخان المطاعم ورائحة العرق وغناء السكارى وابتسامات العشاق.

إشتقت إلى الأطفال بائعي النرجس والفواكه على أطراف الطرق والمقاهي،
ونظرات بائعات اللبن القرويات ووجوههن المملوءة ببساطة الحياة وإشراقات الأمل.
نعم، إشتقت إلى الكثير والكثير،
لكن جلُّ ما اشتقت إليه هي نفسي…
آه كم اختلفت عن ذلك الصبي…
وكم إختلفت الأيام….

بائعون من عالم آخر:….

ظهروا فجأة كشخصيات هربت من لوحة لماكس إرنست: بائع التوت العجوز، عيناه تشبهان بئرين جافين، وسلة خيزرانه المهترئة تتدلى منها حبات التوت كقطرات دم متجمدة.
كان يمد يده إليَّ كأنه يقدم لي قلب شقلاوة بدل التوت، بينما همس بصوت أجش: “خذها.. فهي آخر ما تبقى من ذاكرتك.”
بائعات اللبن القرويات، وجوهن تشبه أقنعة من طين الجبال، يرقبن المارة بعيون لا تبصر الحاضر، بل تخترق حجب الزمن.
إحداهن مدت إليّ كوبًا من اللبن، فوجدت فيه انعكاس وجهي—لكنه وجه ذلك الطفل الذي كنت في بەسۆڕە، غارقًا في ضباب نوروز الأبيض.

الطفولة كطقس جنائزي:…

دفنتُ عصفورًا ميتًا في بستان بيتنا القديم.
وضعت جسده الصغير في حفرة ضحلة، وغطيته بأوراق الرمان الجافة.
في تلك اللحظة، سمعتُ صوتًا يأتي من تحت التراب: “لماذا تدفنني؟ أ
نا ما زلت حيًا في مكان آخر.”
كنتُ أظن أن الطفولة جنازة لا تنتهي، لكني الآن أعرف أنها ولادة مقلوبة.
كل ذاكرة جميلة هي قبر نحمله في أعماقنا.
حتى روائح شقلاوة—رائحة القهوة المحروقة في المقهى القديم، وعطر التبغ في دكاكين العطارين—صارت أشباحًا تزورني في المنفى، كأنها تحمل أنغام “ئەی رەقيب” في طياتها.

المدرسة: سجن الزمن المعلق:…

المدرسة كانت تشبه سجنًا بنافذة واحدة تطل على جبال شقلاوة. كنا نجلس على مقاعد خشبية متآكلة، بينما كان المعلم يكتب على السبورة كلمات تذوب مثل ثلج دافئ.
في الفسحة، كنا نلعب بكرة مقطوعة، كأننا نحاول إصلاح شيء ما لا نعرفه.
ذات يوم، وجدتُ كراسة قديمة بين ركام الكتب.
كانت تحتوي على رسومات لي: منازل بلا أبواب، وأشجار بلا جذور، وسماء مليئة بعيون مغلقة. ربما كنتُ أحاول أن أخبر نفسي بشيء لم أفهمه إلا الآن: أن كل مكان نعيشه هو منفى مؤقت، لكن شقلاوة تبقى ملاذًا أبديًا في القلب.

الحنين كجريمة وجودية:…
الحنين ليس مجرد ذكريات، بل هو جريمة يُرتكب ضد الزمن.
نحن نسرق اللحظات الميتة ونحاول إحياءها في حاضر يرفضها.
حتى شقلاوة التي أحبها ليست هي ذاتها—لقد ماتت عندما غادرتها، وصارت جثة جميلة في متحف ذاكرتي.
في المنفى، كنتُ أرى شقلاوة في أحلامي: تظهر كمدينة طافية فوق بحر من الضباب، أسمع أصواتًا لكنها لا تصل إليّ، كأنما ينقصها الهواء الذي يموت في الرئتين قبل أن يتحول إلى كلام.
أبحث عن بيتنا القديم، لكن الشوارع تتشابه كمتاهة بلا مخرج، كأنها تهمس بأنغام “ئەرێ لەیلێ” لكن بلا كلمات.

أنا هو ذلك الظل…:
اليوم، أعرف أنني لستُ ذلك الطفل، لكنه ما زال يعيش فيّ كظل يرفض المغادرة.
كل كتابة عن شقلاوة هي محاولة لدفنه مرة أخرى، لكنه دائمًا يخرج من القبر، يحمل في يديه حبة توت متعفنة، ويقول لي: “هذه هي حياتك..
كل ما تبقى منها.”
ربما الوطن ليس مكانًا، بل هو اللحظة التي تدرك فيها أنك لن تعود، لكنك تحمل نار نوروز في قلبك.

ختام التأمل: حوار مع الذكريات:….

“أيتها الذكريات..
لماذا تسرقونني من نفسي؟
أم أنكم أنتم—نفسي الضائعة؟”
هذا التأمل يحوّل السرد إلى فضاءٍ مفتوح للتأويل، حيث الذاكرةُ والواقعُ يتصارعان مثل ظلَّين تحت شمس الغروب.
كل كلمة كتبتها هنا هي إبرة تخيط جرحًا.. لكن الجرح لا يندمل.
.

الخاتمة:

في سيدني، حيث تتساقط الساعات كقطرات زيت على لوحة مشوهة، أرى شقلاوة تتشكل من أنفاس الضباب.
اليمامة، طائر منسوج من دخان نار نوروز، تحلق فوق بحر من التوت الأسود، حباته تتساقط كدموع نجوم على رصيف المنفى.
شجرة التوت، التي زرعها أجدادي في تربة الذاكرة، تنمو الآن في صدري، أغصانها من أصداء زغاريد بەستۆرە ، وجذورها تخترق المحيطات، تصل إلى سفوح زاغروس حيث تهمس الجبال: “أنت لست غريبًا، بل ظل تبحث عن جسده.”

أقف على حافة الزمن، حيث السماء تنحني كمرآة مكسورة، تعكس وجهي—لكن ليس وجهي، بل وجه ذلك الصبي الذي ركض خلف بائعات النرجس، يحمل سلة توت كأنها كنز كاوە.
الجداول في شقلاوة، التي كانت تغني أسماء أبنائي—ريبين، ريناس، سروك—تتحول الآن إلى أوردة تنبض في جسد المنفى.
أراهم في الحلم، يرقصون في حلقة دبكة، لكن أقدامهم لا تلمس الأرض، بل تطفو فوق بحيرة من ضوء، كأنها خريطة كوردستان مرسومة بأنامل الريح.

في هذا الفضاء، حيث الواقع يذوب كشمعة في كهف ربان بويا، أدرك أن الحنين ليس ذكرى، بل بوابة. اليمامة تهبط على كتفي، لكنها تتحول إلى ريشة تحترق بنار زرادشت، ترسم في الهواء أبوابًا لا نهائية.
تلك الأبواب هي وعد بالفصول القادمة—رحلة عبر متاهات المنفى، حيث سأبحث عن كوردستان في شقوق الزمن، في أنفاس أولاد الشهداء، في ظلال الجبال التي لا تنحني.
سأحمل شجرة التوت كعصا، واليمامة كأغنية، وسأكتب عن الروح التي تتيه بين الحلم والحقيقة، بين شقلاوة وسيدني، بين النسيان والصمود.
كما قال ماكس إرنست: “السيريالية هي أن ترى العالم بعيون مغلقة.” وأنا، حفيد كاوە الحداد، سأرى كوردستان، حتى لو كانت مجرد ظل يرقص على جدار الوجود.
ولدت لكي أكتب…
وأموت لكي أكتب…
وكتبت لكي لا أموت….
——–
النص الرابع


استهلال: زنزانة النقاء المُمزق

في 18 سبتمبر 1986، في السادسة عشرة من عمري، صارت الزنزانة مرآة سريالية لروح طفل لم يُدنس نقاؤه بعد بفوضى العالم. جدرانها رمادية كضحكة جلاد يترنح في متاهة كافكائية، مبللة بدموع كبحتها خوفًا من أن تُفسر كانهزام، لكنها كانت أناشيد براءة تتحدى الهاوية.
رائحة الدم والعرق تنسج لوحة عبثية، وصدى السلاسل يرن كجوقة ديونيسيوسية مشوهة. لم أرَ الشمس طوال أيام السجن، فصار جسدي كشجرة جوز شاحبة، أغصانها تذوب لتصبح نورًا زردشتيًا يتحدى ظلمة اللاوجود. كنتُ أحلم بحقول شقلاوة، بمياه دەنگارە النقية المتدفقة من جبل سفين، كأنها أنفاس الأجداد، بشجرة بلوط عتيقة ترمز للصمود الأبدي، وبثمر الرمان والتين في بساتين ابي، رموز حنيني إلى وطن ينبض في اللاوعي. مرة، سمعت خرير عين كاني خومار، لكن دەنگارە كانت الأقرب إلى قلبي، نقاءً يروي ظمأ الروح.
كنتُ أتذكر أناشيد كاويس آغا، المطرب الكوردي من شقلاوة، أغانيه الوطنية كأنها نسيم زاغروس يحمل صوت الأجداد، يغني لكوردستان الحرة، يوقظ فيَّ أحلام الطفولة.
كنتُ أتذكر المكتبة العامة في شقلاوة، حيث قضى والدي سنوات يرعى أرواح الكتب. رفوفها الضخمة كانت تخيفني كطفل، كأنها بوابات إلى عوالم الفلسفة والعلم التي أحسست بعظمتها دون أن أدرك أسرارها.
الحديد علمني أن الهوية ديالكتيك دموي، خريطة تُرسم بدمي الذي سال كأناشيد نوروز المحترقة، ملتهبة، مريرة، ككوكبة نجوم في سماء منفية.

كنتُ أهرب إلى أحلام سريالية، أرفض الواقع كما رفض سارتر الوجود المُسلَّم به[^1]. أغمض عيني وأرى نفسي أطارد فراشات زجاجية تحت شجرة رمان تنزف نجومًا، أسمع خرير دەنگارە، أشم رائحة التين الناضج تحت ظل اشجار الجوز الذي يهمس بأناشيد الأجداد.
لكن السياط كانت تُعيدني إلى الزنزانة، إلى رائحة الدم، إلى واقع يمزق نقاء طفل لم يتعلم بعد لغة الفوضى. ميشيل فوكو قال: “السجن محاولة لمحو الروح عبر تأديب الجسد”[^2].
لكن في زنزانة صدام، كان الأمر إبادة أنطولوجية للهوية.
كل ضربة كانت رسالة: “كوردستان ليست موجودة.”
وكل إجابتي “نعم، أنا كوردي” كانت تمردًا وجوديًا، نار نوروز تشتعل في قلب طفل لم يفقد براءته.
أربعون عامًا مرت، لكن صوت السلاسل يرن كصدى جبل سفين، والسجن جرح يتنفس، ينبض مع خفقات قلب مريض، ويصرخ: “كوردستان لوحة مرسومة بدمك.”

التعذيب: تدنيس البراءة في مسرح العبث

التعذيب كان سيميائية العنف، تدنيس لنقاء طفل لم يتعلم بعد لغة الفوضى.
السياط كانت كمطارق تهدم جبل سفين، تاركة ندوبًا وتشوهات جسدية كخريطة مشوهة للهوية: عظام مكسورة، جلد ممزق كلوحة غويا سوداء، آثار سياط كأنها نصوص عبثية محفورة على جسد بريء.
لكن في أحشائي، كنتُ أرى كاوە الحداد، الأسطورة الكوردية، يقاوم[^3].
نيرانه المقدسة كانت تشتعل مع كل ضربة، مطرقته تهدم جدران الزنزانة في فضاء سريالي، كأنني أحارب إلى جانبه ضد ضحاك.
روحي كانت تحترق كنار إبراهيم، وأنا أهمس في يأس سيزيفي: “كوني بردًا وسلامًا.”
دمي كان يجري كأناشيد نوروز المحترقة، وأنا أصيح في ألم أنطولوجي: “ربي، اغفر لهم.” أنفاسي كانت تختنق كيونس في بطن الحوت، وأنا أردد: “اللهم أنقذني.” لكن الروح، رغم الألم، تحولت إلى نور زردشتي، ينطلق كنجمة في فضاء الحرية. “كوردستان وهم”، قالوا، وكل كلمة كانت سكينًا يغرس في صدري. الألم النفسي كان أعمق:
إهانات تجردني من إنسانيتي وطفولتي وكبريائي، ضحكات تملأ الزنزانة كأشباح بيكاسو، وصمت يخنقني كلوحة تجريدية.
في الزنزانة رقم 3، كان ابن عمي صالح يصرخ، صوته موجة صوتية في فضاء سريالي، لكنه استشهد، مصيره غير معروف، كأن روحه ذابت في ظلمة السجن.
كنتُ أتشبث بصورة شجرة التين، رمز الحنين، ثمرها يهمس بأناشيد الأجداد، لكن التعذيب شوه براءتي، جعلني لوحة متشظية، طفلًا منقوشًا بنكبات.

فيكتور فرانكل، في الإنسان في البحث عن المعنى، كتب:
“من يملك سببًا ليعيش من أجله، يستطيع تحمل أي كيفية”[^4].
لكن كطفل في السادسة عشرة، كانت كوردستان سببي، لكن التعذيب حاول سرقة هذا المعنى، مزق نقائي، زرع قلقًا وكوابيس في نفس لم تكن مستعدة للعنف. ج. م. كويتزي، في في انتظار البرابرة، وصف التعذيب كتحطيم للروح: “الألم هو الحقيقة؛ كل شيء آخر مشكوك فيه”[^5].
في الزنزانة، اصبح اسمي “تحسين الصغير” كنت الاصغر سنا بين ٣٨٠ سجين وصار الألم حقيقتي الكبيرة، لكن نار كاوە ونور زردشت منعاني من الانهيار.
نلسون مانديلا كتب: “السجن لا يكسر الروح، بل يُظهر قوتها”[^6]. لكن الثمن كان باهظًا: ذات مشوهة، جسد منقوش بنكبات.

ألبير كامو قال: “في أعماق الشتاء، اكتشفتُ أن بداخلي صيفًا لا يُقهر”[^7].
لكن في عبث سيزيفي، أتساءل: ماذا لو كان هذا الصيف ثقيلًا كلوحة مشوهة؟
السجن شوه براءتي، زرع كوابيس ترسم الزنزانة كساعة دالي ذائبة، اكتئابًا يخنقني كظلال المنفى، وتشوهات جسدية تذكرني بالسياط.
بعد أربعين عامًا، أعاني من مرض القلب، ضغط الدم، الاكتئاب، والسكري، أمراض تنبض كامتداد لتلك الزنزانة.
الأطباء في سيدني يقولون: “خذ دواء القلب، راقب سكرك.
” لكنهم لا يرون الجرح الأنطولوجي في الذاكرة المشوهة.

أنطونيو غرامشي كتب: “في السجن، تصبح الذاكرة سلاحًا”[^8].
كنتُ أحاول أن أجعل ذاكرتي لوحة مقاومة:
رائحة الرمان في شقلاوة، ظل شجرة البلوط على جبل سفين، خرير مياه دەنگارە، نشيد “ئەی رەقیب” كنجمة في سماء العذاب. لكن التعذيب حاول سرقة هذه اللوحة، جعلني أنسى نقائي. لكنني لم أنسَ.
كل ضربة جعلت كوردستان تنبض كلوحة تجريدية.

حوار مع جدي: تناغم النقاء والأبد

في ليالي السجن، كنتُ أهرب إلى حلم سريالي، حيث الزنزانة تذوب كساعة دالي وتصير فضاءً يتماوج بين العبث والمقاومة.
أتخيل جدي يجلس تحت ظل شجرة بلوط في قرية أسبينداره، القرية الذي يحرس أنفاس الأجداد، غليونه ينفث سحبًا تشكل خريطة كوردستان.
كنتُ أتساءل: ماذا سيقول لو رآني، طفلًا نقيًا أعاني في مسرح عبثي؟
فتخيلتُ حوارًا، كأن روحه تهمس من جبل سفين.

أنا: يا جدي، أنا في زنزانة، أُعذب لأنني كوردي. السياط ترسم لوحتي، أنزف كمسيح مصلوب، نيران إبراهيم تحرق جسدي، مياه المحيط تخنقني كيونس.
هل تستحق كوردستان هذا الدم؟

جدي: يا بني، أنت لست في زنزانة، بل في قلب كوردستان النابض، حيث مياه دەنگارە تروي نقاءك. دمك المصلوب شهادة كالمسيح، نيران إبراهيم تصقل روحك، أنفاسك كيونس تتحدى المحيط. الجلاد يرسم الألم، لكنه لا يعرف أن الروح الكوردية شجرة بلوط: تقاوم العواصف وتبقى صامدة.

أنا: لكنني خائف، يا جدي.
أحلم بأن أكون فراشة زجاجية، لكن الألم يجعلني شبحًا.
أشعر أنني وحيد، وأن الوطن لوحة بعيدة.

جدي: الخوف دليل نقائك. أنت لست وحدك. شجرة الرمان تنزف نجومًا، ثمرة التين تهمس أناشيد الأجداد، مياه دەنگارە تحمل أنفاسنا. كوردستان ليست لوحة بعيدة، بل جرح في قلبك يجعلك تقاوم.

أنا: وماذا عن المستقبل؟
إذا خرجتُ، هل سيعترف بي وطني؟
أم سأظل شبحًا في مسرح العدم؟

جدي: الوطن قصة ترسمها.
قد يخونك السياسيون، قد ينساك المجتمع، لكن كوردستان تعيش في نورك الزردشتي.
أنت لست طفلًا يُعذب، بل حلم يُزرع في تربة الأبد.

هذا الحوار كان ملجأي السريالي. صوت جدي كان كخرير مياه دەنگارە، يرسم أفقًا لطفل يحلم. مارتن هايدغر تحدث عن “الوجود المُلقى به”[^9].
لكنني كنتُ مُلقى به في زنزانة صدام، مسرح عبثي لا يعترف إلا بالعنف.
لكن الوجود الكوردي مقاوم، كما قال محمود درويش: “على هذه الأرض ما يستحق الحياة”[^10].

حوار مع أبي: مناجاة طفل في الظلمة

في لحظات اليأس، حين كانت الزنزانة تذوب كساعة دالي، كنتُ أهرب إلى حلم آخر.
أتخيل والدي في المكتبة العامة بشقلاوة، يقف بين رفوف الكتب، حارسًا لارواح العلم واسرارها. أتذكر يومًا قرأ لي فيه من كتاب مع “الله في السماء”، كلماته كانت كضوء يخترق ظلمة الطفولة.
في الزنزانة، صرتُ طفلًا يناجي أباه، أتوسل إليه ليخلّصني من الألم.

أنا: يا أبي، أنا في زنزانة، السياط تمزق جسدي، أنزف كأناشيد نوروز المحترقة.
أخاف أن أموت هنا، أن أفقد نفسي. هل تراني من المكتبة؟ أنقذني، يا أبي، أخرجني من هذا الجحيم!

أبي: يا بني، أراك في قلبي، في نور الكتب التي أحرسها.
أنت لست في زنزانة، بل في سماء روحك، حيث علّمتني مع الله في السماء أن الألم ممر إلى النور. السياط لا تستطيع كسرك، لأنك ابن دەنگارە، ابن كوردستان. أناشيد طاهر توفيق، مطربنا الكوردي، تتردد هنا، تحمل صوت المقاومة. تمسّك بنقائك، يا بني، فهو درعك.

أنا: لكنني أتألم، يا أبي. الظلام يخنقني، والجلادون يضحكون. أريد أن أعود إلى شقلاوة، إلى أحضانك. هل سأنجو؟

أبي: ستنجو، يا بني، لأن روحك نار كاوە لا تنطفئ. الكتب هنا تعلّمنا أن الحرية تولد من الألم.
أنت لست وحيدًا، أنا معك، وكوردستان في قلبك. ارفع رأسك، يا طفلي، فأنت حلم نوروز.

هذا الحوار كان صوتًا يخترق الظلمة.
مناجاتي لأبي، كضوء مع الله في السماء، أعادني إلى نقائي، جعلني أرى أن التعذيب لا يمكن أن يسرق كوردستان من روحي.

الخروج من السجن: خيانة وأمل متجدد

عندما فُتحت أبواب السجن، ظننتُ أن الحرية تنتظرني.
تخيلتُ أن أعود إلى شقلاوة، أجلس تحت شجرة رمان تنزف نجومًا، أزور مقبرة الزيتون حيث يرقد 23 شهيدًا، أسمع خرير مياه دەنگارە.
لكن الحرية كانت وهمًا سرياليًا. خرجتُ كشجرة جوز شاحبة، جسدي نور زردشتي يتلاشى، ندوبي وتشوهاتي خريطة للنكبات، أحمل دمًا سال كأناشيد نوروز المحترقة، لأجد مسرحًا آخر:
خيانة السياسيين ونكران المجتمع. كنتُ أتوقع أن أُستقبل كبطل، لكن وجدتُ أعينًا تنظر إلي كشبح.
“لقد عاد من السجن”، قالوا، لكن لم يسألوا عن التشوهات التي شوهت نقائي.

حنة أرندت قالت: “العنف يدمر الجسد، لكن السكوت يدمر الروح”[^11].
المجتمع الكوردي سكت عن لوحتنا. كنا، نحن الفقراء المهمشين، من رسمنا الثورة بدمائنا.
نحن من حملنا القضية، قاتلنا كبيشمركة تحت شجرة البلوط في جبل سفين وسماقولي وهيران ونازانين.
لكن السياسيين خانوا لوحتنا. أولادهم أصبحوا أثرياء، يعيشون في قصور، بينما نحن، الذين زرعنا بذور الوطن، بقينا أشباحًا في المنافي، نصارع الفقر، مرض القلب، ضغط الدم، الاكتئاب، والسكري. لكن وسط هذا الخذلان، وجدتُ أملًا متجددًا.
في المنفى، رأيتُ نوروز يُضاء في شوارع سيدني، نار كاوە تشتعل في قلوب الشباب الكورد. كوردستان لم تمت، بل تنبض في أحلام الجيل الجديد.

المجتمع وعبء الهوية

نحن، ضحايا الهوية الكوردية، كنا شهداء أحياء، لكن المجتمع لم يقرأ لوحتنا. في كوردستان، كان التركيز على النصر، لكن لم يكن هناك مكان للجرحى الذين شُوهت أرواحهم. كنا كأحجار الرحى:
نطحن القمح، لكن لا أحد يسمع صريرنا.
السياسيون خانوا دماءنا، أولادهم يتباهون بالثروة، بينما نحن، الفقراء الذين رسمنا الوطن، بقينا أشباحًا.
مقبرة الزيتونة، حيث يرقد 23 شهيدًا، شاهدة على خيانتهم، أرواحهم تهمس:
“نحن من دفع الثمن.”

في أستراليا، واجهتُ جهلاً آخر. المجتمع الغربي يعالج الجسد، لكنه يجهل الروح.
الأطباء يرون مرض القلب، ضغط الدم، الاكتئاب، والسكري، لكنهم لا يرون كوردستان في دمي.
أبنائي يضحكون: “يا أبي، هذه أسطورة!”
وكأن ندوبي وتشوهاتي لوحات خيالية.
كتبت في الجزء الأول من سيرة المغترب:
“كتبتُ كي لا أموت.. وبقيتُ أموت كي أكتب”[^12].
في المنفى، صرتُ أكتب قصتي، ليس لأعيش، بل لأحيي كوردستان في كلماتي، لأن الكتابة مقاومة، وأنين الغربة نشيد للوطن.

بول ريكور قال: “الذاكرة ملجأ الهوية حين يُنهب الوطن”[^13]. لكن ماذا عندما ينكر المجتمع ذاكرتنا؟
كنا لوحة في وادٍ لا صدى له.
لكن الأمل يولد من الرماد:
شباب كورد في الشتات يحملون نار كاوە، يزرعون بذور نوروز في أراضٍ بعيدة.

خاتمة: كرستال الوجود في سماء كوردستان

في لحظة تأمل، أقف على حافة المنفى، أنظر إلى ندوبي كما ينظر إنسان إلى كوكبة نجوم في سماء سرمدية.
هذه الندوب، هذه التشوهات، ليست خرائط للنكبات فحسب، بل كرستالات متوهجة، تلتقط ضوء الوجود وتكسره إلى ألوان الحياة. في جسدي، زنزانة صدام، لكن في روحي، نار كاوە تتراقص مع نور زردشت، كأنها رقصة كونية تتحدى العدم.
أرى نفسي، طفلًا في السادسة عشرة، يحمل براءة ممزقة، لكنه يزرع بذور نوروز في تربة الذاكرة. دمي، الذي سال كأناشيد نوروز المحترقة، لم يكن هزيمة، بل لحنًا سرياليًا، ينساب كخرير دەنگارە، يروي شجرة بلوطٍ تقاوم عواصف الزمن.

سارتر علّمني أن أرفض الوجود المُسلَّم به، لكن كوردستان علّمتني أن أكون الوجود نفسه:
جرحًا يتنفس، نورًا يتحدى الظلمة، لوحة لا تموت.
في المنفى، حيث الريح تهمس بأنين “كتبتُ كي لا أموت.. وبقيتُ أموت كي أكتب”
صرتُ قلمًا يكتب على صفحات السماء، حبري ندوبي، كلماتي أحلام شقلاوة. محمود درويش قال: “المنفى هو هذا المكان الأخير، والوطن هو هذا المكان الأول”[^14].
لكن أنا أقول: المنفى ليس مكانًا، بل مرآة كرستالية تعكس الوطن. كوردستان ليست أرضًا فحسب، بل فضاء وجودي، حيث يتحول الألم إلى نجمة، والندبة إلى قصيدة.

إلى أبنائي، ريبين، ريناس، وسروك، أنتم أناشيد كوردستان التي سميتها بحبي لوطني: ريبين، يا من ترى الطريق وتقود كنجمة زاكروس، ريناس، يا من تعرفين أعماق الروح وتسبح في مياه دەنگارە، وسروك، يا قائد المستقبل كبلوطٍ يتحدى العواصف—انظروا إلى ندوبي، فهي ليست جروحًا، بل أناشيد نوروز، بلورات تحمل نور زردشت، خرائط إلى شجرة الرمان التي تنزف نجومًا.
إلى الشباب الكورد: حملوا هذه الكرستالات، فهي ليست عبئًا، بل مشاعل تضيء درب الحرية.
أنا لست شاهدًا على سجن فحسب، بل على طفل قال “نعم” لكوردستان، وعلى شعب يرفض النسيان.
في سيدني، حيث أرى نار نوروز تتألق في عيون الشتات، أدرك أن الحياة ليست عبثًا سيزيفيًا، بل رقصة كرستالية، حيث كل ندبة هي نجمة، وكل جرح هو لحن. سأموت يومًا، لكن روحي ستبقى فراشة زجاجية، تحلّق فوق دەنگارە، تغني مع إبراهيم ويونس والمسيح، تهمس لجبل سفين: “كوردستان ليست حلمًا، بل نورٌ أبدي، متوهج في سماء الوجود.”
ساغني “” ئەی رەقیب ھەر ماوە قومی کورد زمان ‘ دینمان ئیمانم ھەر نیشتیمان”
حسێن خۆشناو – سیدنی – استرالیا
“”””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””
الهوامش

[^1]: جان بول سارتر، في كتابه الوجود والعدم، يؤكد أن الإنسان يصنع معناه عبر رفض الوجود المُسلَّم به، وهنا يعكس تمرد “خوشناو” على محاولات السجن لمحو هويته الكوردية.
[^2]: ميشيل فوكو، في المراقبة والمعاقبة، يصف السجن كآلية لتأديب الروح عبر الجسد، وهنا يُستخدم لتصوير محاولة محو الهوية الكوردية.
[^3]: كاوە الحداد، الأسطورة الكوردية، يرمز للمقاومة ضد الظلم، حيث أشعل النار في نوروز لإسقاط الطاغية ضحاك. هنا، يُستخدم كرمز للصمود الروحي أثناء التعذيب.
[^4]: فيكتور فرانكل، في كتابه الإنسان في البحث عن المعنى، يؤكد أن المعنى هو مفتاح التحمل، وهنا يُربط بكوردستان كسبب لمقاومة “خوشناو” .
[^5]: ج. م. كويتزي، في في انتظار البرابرة، يصور التعذيب كمحاولة لفرض الألم كحقيقة مطلقة، لكن الراوي يتحدى ذلك عبر رموز المقاومة.
[^6]: نلسون مانديلا، في الطريق الطويل إلى الحرية، يرى السجن كاختبار لقوة الروح، وهنا يُستخدم لتصوير صمود “خوشناو” .
[^7]: ألبير كامو، في العودة إلى تيبازة، يتحدث عن الأمل وسط اليأس، وهنا يُربط بالنور الزردشتي كرمز للمقاومة.
[^8]: أنطونيو غرامشي، في رسائل من السجن، يؤكد أن الذاكرة أداة مقاومة، وهنا تُستخدم لتصوير ذاكرة “خوشناو” كلوحة كوردستان.
[^9]: مارتن هايدغر، في الكينونة والزمان، يصف الوجود المُلقى به كحالة إنسانية يُلقى فيها الفرد في العالم دون اختيار، وهنا يُربط بالسجن كفضاء يتحدى كينونة “خوشناو” .
[^10]: محمود درويش، في قصيدة على هذه الأرض، يحتفي بالحياة رغم الألم، وهنا يُستخدم لتصوير صمود “خوشناو” رغم التعذيب.
[^11]: حنة أرندت، في عن العنف، تؤكد أن الصمت الاجتماعي يفاقم ضرر العنف، وهنا يُستخدم لنقد نكران المجتمع لتضحيات الراوي. [^12]: حسين خوشناو، في الجزء الأول من سيرة المغترب، يصور الكتابة كفعل مقاومة وألم في المنفى، وهنا تُربط بجهود الراوي لتخليد قصته.
[^13]: بول ريكور، في الذاكرة، التاريخ، النسيان، يرى الذاكرة كأداة للحفاظ على الهوية، وهنا تُستخدم لتصوير ذاكرة “خوشناو” كحصن ضد النكران.
[^14]: محمود درويش، في قصيدة في انتظار العودة، يصور المنفى كفضاء مؤقت مقابل الوطن الأبدي، وهنا يُربط بتجربة “خوشناو” في المنفى.
——————–
النص الخامس
 
فصل: ظلال الماضي في حاضر متعب
في أحشاء كوردستان، حيث الجبال تتربع كفلاسفة صامتين يحملون أسرار الوجود في طيات صخورهم كأنها نصوص غامضة تُقرأ بالعين الداخلية وحدها، محاطة بغيوم بيضاء تعانق قممها كأغطية من نور نقي ينعكس على الوديان كمرآة سماوية، انبثقت رحلتي الوجودية في عام 1986 – عام الانزياح بين السقوط كشجرة تتهاوى تحت ثقل الرياح العاتية والانتصار كنارة تتوهج في أعماق الظلام الأشد قتامة.
هؤلاء الحكماء الحجريون، الذين يقفون كشهود أبديين على تاريخ شعب، محفوفون بأشجار ذات أوراق نارية تشتعل بألوان حمراء وذهبية كلهيب رقصة سماوية تتمايل مع نسمات الريح، يعانقون السماء بأغصانهم كأذرع ممدودة ترنو إلى اللامتناهي، شاهدوا ميلادي مرتين: الأولى عندما خرجت من رحم أمي، حيث كانت الأرض تهز أعماقها بأنغام خفية تتردد كدقات قلب الأرض، والثانية عندما خرجت من رحم السجن، حيث كانوا يراقبونني كأنهم يسجلون كل خطوة في دفتر الزمن السريالي بأقلام من ضوء.
كنت أسمع همساتهم الليلية تتسلل إلى أذني كدعوة خفية أو تحذير عميق: “لا تثق بالسهول، فالحرية لا تنمو إلا بين الصخور القاسية”، مصحوبة بخرير جدول يتسلل كأنغام من عالم غيبي، كأن كل همسة كانت نبضًا يدعو إلى النضال أو يحذر من الخيانة التي قد تتربص في الزوايا المظلمة.
كما قال الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر: “الإنسان محكوم عليه بالحرية”، فإن هذه الأرض، بترابها المشبع بأنات التاريخ كأنها تتنفس ذكريات الشهداء الذين سقطوا دفاعًا عن هويتهم، ورياحها الحاملة لصرخات الأمهات كأناشيد لم تُكتمل بعد، لم تكن مجرد جغرافيا مادية، بل كونًا موازيًا يعكس تشظي الذات بين ماضٍ ينزف ذكريات كدماء حمراء على صخور سوداء وحاضر يعانق الفراغ كظل بلا جسد يتيه في متاهات الزمن.
حتى التراب هنا يحمل ذاكرة مختلفة، كل حبة رمل فيه تسجل قصصنا كـ كود مشفر لا يفك طلاسمه إلا من عاش بين الجرح النازف والجبل الشامخ، كأن كل خطوة كانت ترسم خريطة لروح تائهة على الطرق الترابية بين القرى، حيث كانت الريح تحمل أنفاس الأرض كرسائل سرية من الأجداد الذين تركوا أثرهم في كل زاوية.
الجبال، بروح زردشت التي تكسر الغيوم بقوتها الأزلية ووديانها التي تحتضن الأسرار كأحضان أم تُعانق أرواحًا تائهة تبحث عن ملاذ، كانت شاهدة على تحولاتي العميقة، محاطة بأكواخ طينية تروي حكايات القدماء كصفحات من كتاب مفتوح يُقرأ بالعين والقلب، حيث كانت جدرانها تعكس انعكاسات الشمس كمرآة للتاريخ الطويل والمعاناة العميقة.
كل حجر فيها يحمل سفرًا من أسفار الوجود المغلق، يتنفس كائنات سريالية تُهمس بأسرار الموت والخلود كأنها تروي قصصًا لم تُكتب بعد، كأنها تعكس فكرة أفلاطون في “الجمهورية” حين قال إن “نحن نعيش في كهف الظلال” حيث الواقع ليس إلا انعكاسًا مشوهًا، لكن كهفنا الكوردي كان مختلفًا – جدرانه صنعت من لحم ودم، وظلالنا كانت تصرخ بأسماء حقيقية لم تُمحَ، كأن كل صرخة كانت شهادة على وجودنا، وكل صوت يتردد كصدى في أروقة الروح العميقة.
هذه الرحلة، كما طرحها الفيلسوف الفرنسي ألبير كامو في سؤاله الوجودي: “لماذا تكون الرحلة إلى الذات هي الأصعب رغم أنها الأقرب؟”، تجد صداها الأعمق في التجربة الكوردية، حيث الشعب الكوردي الموزع بين أربع دول، المحروم من أبسط حقوق الهوية والاعتراف، يجسد بشكل فريد تلك المعادلة الوجودية: كلما اقتربت من ذاتك، اكتشفت كم هي بعيدة وغامضة.
الأدب الكوردي، بكل تنوعه من ملاحم أحمد خاني إلى سخرية عزيز نسين، يشكل وثيقة نفسية فريدة لهذه الرحلة، ليس مجرد تعبير عن الذات، بل محاولة مستميتة لإنقاذها من محو ممنهج، كما أشار عالم النفس كارل يونغ حين قال: “الذات التي لا تعرف نفسها تصبح لعبة في يد الآخرين”، وهذا بالضبط ما حاول الأدباء الكورد تجنبه عبر كلماتهم وصورهم الشعرية.
بداية تحت سماء مخادعة
من تلك البداية العميقة، انتقلت إلى صباح مشمس وهمي في شقلاوة، حيث كانت المدينة تتثاءب تحت ضوء خادع كمرآة تكذب وتعكس عالمًا سرياليًا مليئًا بالتناقضات، دخلت ثانويةالمعهد الإسلامي وأنا أحمل أحلامًا هشة كزجاج الوجوديات الأولى، تتراقص كأرواح خفيفة في ريح الزمن كأنها فراشات ذائبة في ضوء الشفق المتقلب.
ذلك الصباح كان يحمل رائحة الخبز الكوردي الذي كانت تخبزه أمي بيديها الدافئتين، مختلطة بألوان أوراق نارية تتوهج كشموس صغيرة في البراري الخضراء، ونكهة العشب البري الذي كان يملأ الهواء بنبض الحياة النقية، ورائحة دافئة مليئة بالذكريات التي كانت تملأ البيت كعطر الوطن الذي يعانق الروح، رائحة لن أشمها مرة أخرى بعد ذلك اليوم كأنها اختفت مع براءتي الأولى التي كانت تحميني من قسوة العالم.
لو كنت أعلم أن هذه ستكون آخر مرة أرى فيها شقلاوة ببرائتي الطفولية، لكنت شممت رائحة المدينة كلها—التراب الرطب بعد المطر، عبير الأشجار النارية التي ترقص مع ضوء الشمس، ونسيم الجبال الذي يحمل أنفاس الأجداد—وحفظتها في رئتيّ ككنز ثمين لا يُضيع، كأنني كنت أحمل صندوق أسرار سأفقده إلى الأبد في دهاليز الزمن.
الشوارع كانت مليئة برائحة التراب الرطب وزهرة شيلان بعد المطر، مختلطة بعبق نسيم جبل سفين الذي يحمل في طياته تاريخًا طويلًا، وصوت الديكة يمزج مع ترنيمة جدتي “حبيبة” التي كانت تُلقب كوردستان بـ”يا رَض الاجداد يا منبع الخير و الوداد”، صوتها يرتفع كموج يتكسر على صخور الزمن القاسي، مصحوبًا بغناء اليمامة في بستان أبي كأنها تُصغي إلى حكايات الطبيعة. لكن القدر، بيده السوداوية كفرشاة ترسم ظلامًا كثيفًا على لوحة البراءة النقية، كان ينسج لي رداءً من التشظي والألم، كأن كل خيط فيه كان يمزق جزءًا من ذاتي كما لو كانت روحي تتقطع إلى أشلاء صغيرة، وكأن كل نسمة هواء كانت تحذيرًا من المصير القادم الذي سيغير مسار حياتي إلى الأبد.
ظهر رجال الأمن التابعون للرائد البعثي الكردي الخائن “تحسين النقشبندي” مدير دائرة اجهزة الامن البعثي في شقلاوة ، تجسيدًا للعدم والخيانة. شواربهم، كخطوط سوداء، ترسم نهاية البراءة، كأنها سيوف تقطع خيط الحياة الناعم. أعينهم ثقوب في جدار الوجود، تطل على فراغ لا نهائي يبتلع كل أمل، كأنها نوافذ إلى عالم بلا أمل أو رحمة.
عندما أطبقت أيديهم الحديدية على معصمي، شعرت كأن الزمن ينزف من ساعتي البيولوجية، كدماء حمراء تسيل على أرض الذاكرة.
الساعات انقلبت إلى أنات تتردد في أروقة النفس، وكأن اللحظة تجسيد حي لقول سارتر: “الإنسان ليس شيئًا جاهزًا، بل مشروع يصنعه”.
، مشروع بدأ بقسوة لا تُطاق. سُحبت إلى سجن الوجود، مكان يشبه بطن الأرض المظلمة التي تبتلع الأحلام وتخنق الأمل، حيث الضوء يتسلل كشاهد زور يخشى مواجهة الحقيقة العارية، بين الدولاب الحديدية وبيدين مكتوفين وعينين مكفوفين لا استطع أن أرى أو أتحرك، كل ما استطعت هو أن أتنفس حتى انقطع النفس أثناء العذيب وتطاير روحي من نافذة السجن محلقة إلى جبل سفين كطائر يفر من قفصه.
ذلك المخلوق الأسمنتي الذي يتنفس بأنفاس مبللة بالخوف واليأس، كأن جدرانه كانت كائنات حية تبتلع الأصوات وترددها كصدى مشوه يعكس عالمًا موازيًا من الألم العميق، حيث كانت كل رطوبة على الجدران تحمل رائحة اليأس كعطر فاسد يملأ المكان.
الجدران الرطبة تنزف ذكريات من سبقوني في هذا المكان القاسي، كأن كل بصمة دم هي صفحة من مذكرات مفقودة تكتبها أقلام الظلام بيد غير مرئية، كأنها رسومات تعكس معاناة الأرواح العالقة في زمن متجمد، وكأن كل صوت كان يحمل صدىً لروح تائهة تبحث عن مخرج.
تحول جسدي إلى نص مفتوح تكتبه السياط بأحرف من ألم، كل ندبة جملة في قصيدة العذاب الطويل، كأنها لوحة تعكس معاناة الروح كما لو كانت تجسيدًا لفكرة مارتن هايدغر عن الجسد كساحة للكينونة التي تواجه مصيرها. في الليلة الثالثة، اكتشفت أن الجدران تُعيد إنتاج صرخاتنا كصدى شرير: كلما صرخت، يختزن الحجر صوتك ويُعيده إليك في الليل كهدية شيطانية تؤرق النوم، كأن السجن كان يلعب لعبة وجودية معي، وكأن كل صدى كان يحفر جرحًا جديدًا في الروح العميقة.
تعلمت أن أصرخ بصمت، كأن حنجرتي صارت قفصًا لعصافير ميتة فقدت أجنحتها، كأن صمتي كان لغتي الجديدة للبقاء وسط الجحيم، وكأن كل نفس كان صراعًا مع الزمن الذي يمر ببطء قاتل.
حتى الظل هنا له طعم مختلف، كأن الشمس تُصفي أشعةها قبل دخول الزنزانة فلا تترك سوى أشباح الضوء الخافت، كأن الضوء نفسه كان يخاف من مواجهة الحقيقة المريرة، وكأن كل ظل كان رسمًا لروح محاصرة تبحث عن حريتها.
كانت السماء تمطر دموعًا صامتة كأنها تبكي على مصيرنا المظلم، اختطفوا ثلاثمائة روح من شقلاوة، أجسادًا شابة كانت تتنفس الحياة بكل قوتها قبل أن تُلقى في زنازين أربيل الباردة.
تلك الزنازين، بجدرانها الباردة كالجليد ورائحة الموت العالقة التي تمزج بين الرطوبة الثقيلة ودماء الضحايا كأنها عطر الفناء، صارت مقابر صامتة حيث الصوت أصبح لغة الأنين فقط، وكأن كل زاوية كانت تحمل ذكرى لروح رحلت دون وداع.
ثلاثة ماتوا تحت التعذيب، أجسادهم انهارت كأوراق متساقطة في ريح قاسية لا ترحم، وثلاثة وعشرون صعدوا كأشباح ترفرف فوق تراب الوطن المكلوم، أرواحهم تتراقص مع الريح كأناشيد لم تُكتمل بعد، كأنها تطلب مني أن أكون صوتها الضائع، وكأن كل نفس كان دعاءً صامتًا يصعد إلى السماء.
خرجت من السجن، لكنني لم أعد الفتى الذي كنت عليه يومًا، بل شبحًا يحمل شظايا ذات متضاربة: ضحية ترتجف تحت ضربات كأنها أمواج في بحر اليأس العميق، مناضل يحمل السلاح بيد مرتجفة كأنه يدعو القدر للتغيير، وشبح يتجول في أزقة ذاكرته كأنه يبحث عن مخرج في متاهة سريالية لا تنتهي، حيث كانت كل ذكرى تتحول إلى شبح يلاحقني في الظلام كظل يرفض الرحيل.
رقصة الأرواح على حافة الجبل
من ظلام السجن الموحش، هربت إلى جبل سفين، حيث وصلت إلى هيران والقمر ينزف دماً أحمر على صدر الليل كلوحة سريالية تكتبها الطبيعة بخطوط حمراء متوهجة، كأن السماء كانت تمزج ألوان الوجود والفناء في رقصة غامضة تتمايل مع الريح، وكأن كل قطرة دم كانت نبضًا للأرض التي تتحدث بلغة صامتة.
الجبال هنا لم تكن مجرد ملجأ مادي، بل أمًا أخرى تحتضن جراحنا النفسية والجسدية، كأن كل صخرة كانت يدًا دافئة تمسح دموعنا الصامتة التي لم نجرؤ على إظهارها، محاطة بغيوم بيضاء تعانق قممها كأرواح متصالحة مع مصيرها، وكأن كل غيمة كانت مرآة تعكس أحلامنا الضائعة التي نرفض نسيانها.
كنا ننام على صخور دافئة ببطء، كأنها تحاول تعويضنا عن دفء البيوت التي سلبت منا بقوة الظلم، مع خرير جدول يتسلل كأنغام تُغني للروح المرهقة، وكأن كل نقرة ماء كانت دعوة للراحة التي افتقدناها، وكأنها كانت تُغني لنا أناشيد بديلة عن أغاني الأمهات التي تلاشت مع ريح المنفى.
الرجل في الزنزانة المقابلة كان يهمس باسم ابنته ‘نيشتمان’، صوتًا رقيقًا يخرج من فم جاف كأنه يحمل أملًا أخيرًا في عالم مظلم، لكن بعد أسبوع، صار الهمس أنينًا يمزج بين الألم الحاد والحنين العميق، ثم صمتًا مطبقًا كأن الروح تخلت عنه وتركته وحيدًا، وكأن كل همسة كانت صرخة محاصرة في الزمن الذي لا يرحم.
لكن اسم ‘نيشتمان’ بقي عالقًا في الرواق كفراشة علّقها الإعدام بدبابيس من حديد، كأنه رمز لكل الأرواح التي رحلت وتركت أصداءها تتردد في الهواء، وكأن هذا الصدى كان يرافقني إلى حضن الجبل حيث وجدت ملاذًا من عذاب السجن الذي لا ينتهي، حيث كانت كل صخرة تحمل نبضًا خفيًا للحياة التي كادت أن تنطفئ.
الجبل، بروح زردشت التي تراقب الزمن بصمت حكيم ووديانه كأحضان تُعانق الأسرار العميقة، كان كائنًا أسطوريًا يهمس بأسرار الموت والخلود كأنه يروي حكايات قديمة، محاطًا بأشجار ذات أوراق نارية تلمع كشعلة حياة في الظلام الدامس، وكأن كل ورقة كانت شعلة تضيء الطريق نحو الحرية المفقودة. انضممت إلى الپێشمەرگە، لم يكونوا مقاتلين عاديين فحسب، بل حراسًا لأسطورة تتهاوى تحت ضربات الزمن كأنهم يحمون كتابًا قديمًا من الاندثار في مواجهة العواصف، والسلاح في يدي لم يكن مجرد حديد بارد بل قلمًا يكتب حريتي بكلمات من نار، كأنه امتداد لروحي المتعبة التي وجدت فيه ملجأً من عاصفة الزمن القاسية، وكأن كل رصاصة كانت كلمة في قصيدة المقاومة التي لا تسكت.
كانت رائحة الأرض الرطبة تختلط برائحة البارود كعطر يمزج بين الحياة النابضة والموت القريب، وصوت الريح كان يحمل أناشيد غير مرئية تتردد في الفضاء، مصحوبًا بغناء القبج وصهيل اليمامة في الغابات كأنهما يصحبان الروح في رحلتها، وكأن كل صوت كان يحمل رسالة من الطبيعة تدعو للصمود في وجه الظلم.
الطبيعة نفسها كانت تغني معنا كرقصة وجودية تتحدى الموت، حيث كانت كل نسمة هواء تحمل ذكرى لأرض أصبحت أسطورة في أذهاننا.
هناك، في حضن الجبل الذي كان يبدو ككائن حي يتنفس معنا بنبض متزامن، التقيت أصدقاء طفولتي: سمكو، الذي كان يملأ شقلاوة بضحكته كنهر يروي الصحراء القاحلة بماء الحياة، لكنه الآن تحول إلى صدى يتردد في وادي العدم كأنه يغني قصيدة مفقودة لم تُكتب، كما كتب محمود درويش: “سنبقى نغني” كتعويذة ضد النسيان الذي يهدد وجودنا؛ كاروان، قلب جبلي صلب كالصخور التي تحمي الوديان، تحول إلى حجر يبكي تاريخًا منسيًا كأنه نصب تذكاري للصمت الذي فرض علينا، يحمل وجع الجبال في كل شقوق وجهه المتعب؛ ومشير، عيناه نجمتان تشتعلان بالأمل كشعلتين في ليل قارس يلف الروح، لكنهما انطفئتا كشعلة في عاصفة حين أُصيب بجروح قاتلة، تاركًا نظرة أخيرة كرسالة من العدم إلى العالم، كأنها ترجوني أن أحمل ذكراه إلى الأجيال. كان لقاؤنا كرقصة تذوب في دموع صامتة، كأن الزمن تجمد في حضن الجبال كلوحة سريالية تتكرر في الذاكرة، وذكرى ألعابنا تحت أشجار الجوز صارت أناشيدًا للموت الجميل الذي نتقبله، كأن كل ضحكة كانت نبوءة لما سيأتي من مصاعب، وكأن كل لعبة كانت تحمل رمزًا للمقاومة التي نشأنا عليها.
هذا الجبل، كما يقول الشاعر الكبير جگرخوێن، يحمل اسمي تحت حجارته كدليل على وجودي، فالذات هنا ليست كيانًا ثابتًا يقاوم الزمن بل تماهيًا مع الأرض التي ترفض النسيان.
حولنا، وقف المقاتلون القدامى، وجوههم كخرائط فلسفية حفرها الزمن بالتجاعيد والندوب كأنها قصص محفورة في الصخر، عيونهم محافل تحكي ملاحم النضال ضد الظلم المتواصل، كل نظرة تحمل ذكرى معركة أو شهيد كأنها تعكس فكرة هايدغر عن “الكينونة-إلى-الموت” كمواجهة أصيلة مع الوجود.
كانوا كأعمدة حية ترتكز على صدر كوردستان، يحملون في صدورهم ذكرى كل معركة وكل شهيد كأنهم جسور بين الماضي المجيد والمستقبل المجهول، أرواحهم كانت تتنفس مع الجبال في تناغم كوني، كل نفس كان تحية للأرض التي احتضنتهم في أحلك اللحظات. ونغني لأناشيد نوروز كتعويذات ضد النسيان الذي يهدد هويتنا، أصواتنا تتصاعد إلى السماء كدعاء يرفض الاستسلام مهما كانت الظروف، كأنها تتحدى الريح القاسية كرقصة وجودية لا تتوقف، مصحوبة بأنغام الطيور في الغابات وهي تُصغي إلى أحزاننا، كل صوت كان يحمل نبضًا للحياة الضائعة التي نطمح لاستعادتها. هذه الرقصة، كما في ملحمة “مم وزين” لأحمد خاني التي كتبها في القرن السابع عشر، كانت تضحية لتخليد الذات في مواجهة الزوال، حيث القلب الذي يرمى في النهر هو جوهر الهوية الذي يتحدى تيار التاريخ الجارف، كرمز للمقاومة الوجودية التي عاشها الشعب الكوردي عبر العصور.
مشهد سريالي على حدود الواقع
بعد فترة قصيرة في حضن الجبل، أرغمنا النظام البعثي على العودة باستخدام آبائنا كرهائن، أصواتهم المرتجفة عبر الإذاعات كانت سكاكين تُمزق القرار كأن كل كلمة كانت طعنة في قلبي العاري، كأنها تنقلني إلى عالم آخر حيث الواقع والحلم يتداخلان في صراع داخلي، كل صوت كان يحمل وجعًا يشق النفس ويمزق الروح. عدت إلى شقلاوة، لكنها لم تعد المدينة التي تركتها بفرح الطفولة؛ الشوارع التي كانت تمتلئ بضحكات الأطفال وأغاني النساء الناعمة، محاطة بأكواخ طينية تحكي سكون القدماء وتاريخهم، صارت كابوسًا يتحدث بلغة الغرباء الباردة، كأنها تحولت إلى لوحة سريالية مليئة بظلال بلا أجساد تتحرك في صمت، والناس يسيرون كأشباح بلا وجوه تعبر الزمن، عيونهم خالية من الأمل كبرك جافة تحت شمس قاحلة تحرق الأرض، كل خطوة كانت تذكيرًا بما فقدته من براءة وحياة. ذاتي، التي كانت مرآة محطمة تعكس شظايا مني تتفرق في كل اتجاه، أصبحت الآن تعكس وجهًا غريبًا لا أعرفه ولا أرغب في التعرف عليه، كأنني أنظر إلى شخص آخر يحمل ذكرياتي كأثقال تثقل كتفيه المرهقة، أصبحت ظلًا يبحث عن جسد في متاهة الوجود التي لا مخرج منها، حيث كانت كل ذكرى تتحول إلى شبح يلاحقني في الظلام كظل يرفض الرحيل مهما حاولت الهروب. هذا الاغتراب المزدوج، كما يشرحه عالم النفس إريك فروم في تحليله لأزمات الذات، هو فقدان الذات الحقيقية تحت ضغط الصورة التي يفرضها الآخر، حيث وجدت نفسي أنقش أحرف اسمي على الجدران كما فعل الشاعر ھەژار في محاولته للحفاظ على وجوده، قائلاً: “أرقُمُ على الجدار أحرفَ اسمي.. كي لا تبتلعَهُ ذاكرةُ الظلام”، لئلا تُمحى هويتي تحت وطأة الزمن والقمع.
عدت إلى المدرسة، لكنها لم تعد ملاذًا للتعلم والنمو، بل سجنًا جديدًا بجدران تحمل رائحة الخوف كأنها تتنفس ذكريات التعذيب الذي عشته، حيث كانت كل لحظة تذكيرًا بما تركته وراءي في حضن الجبال، وكأن كل ركن كان يحمل صدى لأنين الماضي الذي لا يرحم. زملائي، الذين شاركوني أيام النضال تحت وطأة الظروف القاسية، تحدثوا عن أحلام بعيدة عن الرصاص والسجون المظلمة، كأنهم يعيشون في عالم آخر ينبض بالحياة والأمل بينما أنا أعيش في كهف ظلال يحيط بي من كل جانب، محرومًا من خرير الجداول الذي كان يهدهد أحلامي وأصوات الطيور التي كانت ترافق صباحاتي، وكأن كل ضحكة كانت تذكيرًا ببراءة مفقودة أصبحت ذكرى بعيدة. ضحكاتهم، التي كانت تُشبه صدى المقاومة في الماضي، أصبحت تؤلمني كتذكير بشاب تلاشى مع الرياح القاسية، كأنني أسمع صدى نفسي الضائع يتردد في كل زاوية كأنه يناديني من بعيد في محاولة يائسة، يرجو عودتي إلى زمن مفقود كان يحمل الأمل، حيث كانت كل لحظة تحمل رائحة الأمل الضائع الذي لا أستطيع استعادته. كنت أجلس في الصف، أنظر إلى السبورة وأرى بدلاً منها وجوه الذين سقطوا في المعارك، عيونهم تنظر إليّ كأنها تطلب الخلاص من النسيان، وأسمع صوت التعذيب بدلاً من أنغام القبج التي كانت تطمئنني في الغابات، كأن الزمن تجمد في تلك اللحظات المظلمة كلوحة سريالية تتكرر في ذهني، كل صوت كان يحفر جرحًا جديدًا في الروح العميقة التي تحمل ذكرياتها.
المكتبة: طقوس دفن الذات بين السطور
من هذا الصراع الداخلي المستمر، لجأت إلى الكتب كملاذٍ أخير، ليست هروبًا إلى المعرفة البحتة، بل هروبًا من ذاتي التي أصبحت عبئًا ثقيلًا. من هذا الجسد الذي يحمل ذكريات السجون المظلمة والجبال الشامخة، من هذه الروح التي تشبه مرآة مشظاة تعكس وجوهاً لا أعرفها ولا أريد التعرف عليها، وجوهًا تتقاطع فيها صرخات التعذيب الرهيب مع همسات الجبال الهادئة كأنها لوحة سريالية تُمزج فيها الألم الجسدي بالأمل الروحي، وكأن كل انعكاس كان يحمل صدى لروح محطمة تبحث عن شظايا ذاتها. أقرأ كل شيء يقع تحت يديّ: روايات تذوب كالحلوى المرة على لساني، تاركة طعمًا يشبه رائحة التراب المبلل في شقلاوة بعد المطر، مختلطة بألوان أوراق الاشجار تعانق النسيم في ذاكرتي، كتب فلسفة تحاول تفكيك العالم بأسئلة معقدة بينما أنا لا أفهم نفسي ولا أعرف كيف أجيب عنها، كأن كل صفحة تحمل سؤالًا جديدًا يضيف إلى متاهتي الداخلية التي لا تنتهي، كل سطر كان يفتح جرحًا جديدًا في النفس الحساسة. الكتب كأصدقاء أموات يتحدثون إليّ من بعيد: “دوستويفسكي” يجلس في الزاوية المظلمة ويحدق بي بعينين تعرفان عمق اليأس الذي أعيشه، “كافكا” يهمس من وراء الظل كأنه يروي قصص الزنازين التي عشتها بنفسي، “نيتشه” يضحك ساخرًا كمن يرى عبثية كينونتي في هذا العالم القاسي، وكأن كل ضحكة كانت تعكس مرآة لروحي المتشظية التي لا تجد السلام. أحيانًا، أتخيل أن الكتب تتنفس بحياة خفية، أن صفحاتها تحمل أنفاس أرواح رحلت من هذا العالم، كأنها ترسل إليّ رسائل من عالم آخر مليء بروائح الغابات الخضراء، كل صفحة كانت تحمل همسة من الماضي الذي أفتقده.
لكن حين أغلق الكتاب، يعود الواقع كضربة ساخرة قاسية، كجدار السجن الذي يعود ليحاصرني بذكرياته المؤلمة، محرومًا من خرير الجداول الذي كان يروي روحي وروائح الطبيعة التي كانت تملأ صدري، كل رائحة كانت تذكيرًا بالحرية الضائعة التي لا أستطيع استعادتها. الجدران نفسها، الروائح نفسها—رائحة الرطوبة الممزوجة بدماء الذاكرة كعطر فاسد—والخوف نفسه يتسلل كظل يرفض الرحيل من حياتي، كل ظل كان يحمل شبحًا من الماضي يلاحقني. أحيانًا، أتخيل أن القراءة طقس جنائزي يومي أدفن فيه ذاتي بين السطور كل مرة، علّي أجد نسخة مني لم تُسجن في الظلام، لم تُجرح بأيدي الجلادين، لم تُحطم تحت وطأة التعذيب، نسخة كانت تركض على الطرق الترابية بين القرى بحرية، حيث كانت الأرض تهز أقدامي بنبضها الخفي الذي كان يمنحني الأمل. أدفن ذكرى الفتى الذي كان يركض خلف الفراشات في بستان الجوز بفرح الطفولة، والشاب الذي حمل السلاح في مواجهة الظلم، والرجل الذي صمت في الظلام خوفًا من مصيره، أتركهم يرتاحون بين صفحات “الأخوة كارامازوف” أو “المسخ” كأني أبني لهم قبورًا صغيرة من الورق الأصفر، كل قبر كان محاولة يائسة لاستعادة جزء من الروح الضائعة. لكن حتى في هذه القبور الورقية، أجد روحي لا ترتاح أبدًا؛ فكل سطر يستخرج مني جرحًا جديدًا، الكتب ليست ملاذًا بل مرآة قاسية تعكس تشظيي بلا رحمة، تدعوني لمواجهة ما هربت منه في محاولاتي اليائسة، كل مواجهة كانت صراعًا مع الذات التي أصبحت غريبة عني.
هذه المكتبة، كما في “مكتبة الأطياف” التي تخيلتها ، تحمل سيرًا ذاتية لم تُكتب بعد في أوراقها، حيث الحروف تنزف دمًا إذا نطقت بها بصوت عالٍ، كل صفحة كانت قبرًا لكلمات لا تُدفن بسهولة في النسيان.
الروحانيات: رقصة النور في أعماق الجرح
من هذا الصراع الداخلي المستمر، انتقلت إلى صمت الليل العميق حيث سمعت نداءً يتسلل كنسمة خفيفة من جبل سفين، حيث يكمن كهف “ربان بويا” كمثوى أثري يهمس بأسرار الروح كأنه يروي حكايات قديمة، متشابهًا مع كهف شاندار الذي احتضن أرواحًا قديمة في حضن الصخور قبل آلاف السنين، كل همسة كانت دعوة للتحليق فوق الزمن. ليس الشعر سوى ظلّ للحقيقة المطلقة، كما قلت من قبل مستلهمًا أفكار أفلاطون وهيغل في بحثهما عن المثاليات، فأجد نفسي أمام مرآة كونية تعكس أعمق أسئلتي الوجودية التي لا تكف عن التردد في ذهني، حيث يمتزج الحسّي بالمتعالي والمحدود باللامتناهي في رقصة روحية. لم أعد أرى الجبال كحجارة صامتة بلا حياة، بل كأعمدة نور ترفعني من رماد القيود الحديدية، محاطة بغيوم بيضاء تعانق قممها كأرواح متصالحة مع مصيرها، وجداول تتراقص بخريرها كأناشيد سماوية تهدهد النفس، وكأن كل جدول كان شريانًا للحياة التي بدأت تعود إليّ. يا قلبي، أنتَ لستَ هذا الجسد المثقل بالندوب والأمراض، بل سراج ينتظر لمسة الريح الإلهية ليضيء الظلام من حوله، وكأن كل نبض كان استغاثة بالنور الذي افتقدته.
في هذا الفضاء الصوفي العميق، أدرك أن التصوف الكوردي ليس مجرد مذهب روحي يقتصر على الطقوس، بل أنطولوجيا كاملة تبحث عن الجوهر الخفي عبر المظهر الخارجي، وعن الأزل السرمدي عبر الزمن المتغير، كما لو كانت قصائد ملايي جزيري تذوب فيها الحدود بين الذات الفردية والكون الشاسع. أنا أحب إذن أتجاوز وجودي المحدود، كما يقول الشاعر الصوفي الكوردي في تأمله العميق، في قطيعة معرفية مع العقلانية الغربية التي تبحث عن اليقين المطلق، بينما أنا أبحث عن الحقيقة عبر القلب النابض بالإحساس. الكلمة ليست مجرد علامة لغوية جامدة، بل طاقة كونية حية، والصورة الشعرية ليست أسلوبًا بل رؤية شاملة، والقصيدة ليست نصًا مكتوبًا بل فضاءً ميتافيزيقيًا يحتضن الروح، كل همسة من الجبال كانت دعوة للانصهار في اللامتناهي الذي لا حدود له.
هذا التماهي مع الأرض، كما عبر الشاعر جگرخوێن في قوله: “إذا نسيتُ اسمي، ابحثوا عنه تحت حجارة دياربكر”، يجعل الذات جغرافيا حية تتنفس مع الطبيعة، حيث الجبل يهمس بالثلج النقي الذي يذوب ليصنع نهرًا يغسل الغربة العميقة التي أعيشها، كما قال الشاعر ھێمن في تأمله الروحي العميق.
الان في المنفى، حيث أضواء سيدني تبدو كأغلال من زجاج بارد تلقي بظلالها على روحي، بدأت أرى النجوم ليست كذبة سماوية، بل مرايا تعكس نورًا يسكنني من الداخل، وأتذكر أوراق الأشجار النارية التي كانت تضيء الوديان في كوردستان كشعلة أمل، وكأن كل ورقة كانت شعلة تحمل ذكرى الوطن الذي تركته وراءي.
أغلق عيني، وأرى جبلًا من نور ينبثق من صدري كمصباح يضيء الطريق، يحمل أرواح سمكو ومشير وكاروان وشهدا كوردستان الذين رحلوا، يرقصون كالدراويش حول شمس لا تُطفأ أبدًا، مصحوبين بأنغام اليمامة والقبج كأنها ترنيمة حياة، كل رقصة كانت تسبيحًا للحياة التي ناضلت من أجلها. كل جرح، كل دمعة، لم تكن إلا رذاذًا يروي شجرة الروح التي بدأت تنمو من جديد، كل قطرة كانت تحمل أملًا خفيًا ينبض في الصمت. الجرح هو الطريق إلى الشفاء، كما قال شمس التبريزي في حكمته العميقة، فكل ندبة في جسدي أصبحت نافذة تطل على غيب لا نهائي يمنحني الراحة، وكل نافذة كانت دعوة للتحرر من قيود الزمن.
في كهف “ربان بويا”، أسمع صدى الأرواح القديمة تتردد كأنها ترنيمة تعانق الريح الناعمة، كما لو أن شاندار نفسه يمد يده عبر الزمن ليعلمني أن الروح لا تعرف حدودًا جغرافية أو زمنية، كل صدى كان رسالة من الماضي يحملها إليّ. أجلس في الظلام، أدير دائرة صغيرة كما علمني الرومي في طقوسه الصوفية، وأسمع نبض الأرض يتردد في عظامي كأنه يتحدث إليّ، مصحوبًا بخرير الجداول الخفيفة كأنغام سماوية، كل نبض كان يحمل ذكرى للأرض التي تركتها وراءي في المنفى. الجبال لم تتركني رغم المسافات، بل أصبحت صوتًا يغني في أعماقي: “يا مسافر، لا تخف من الليل القاتم، فالنور ينتظرك في كل خطوة تعبرها”، كل كلمة كانت هدية من الروح التي لا تموت. أرواح الشهداء، تلك التي رقصت فوق تراب كوردستان في أيام النضال، تصبح الآن أنوارًا ترشدني في دروب المنفى، كل صرخة كانت تسبيحًا يعلو إلى السماء، كل دم كان نداءً للمنجاة من الظلم، وكل نور كان وعدًا بالحرية التي طالما حلم بها شعبي.
في تلك اللحظة السوريالية، حيث تذوب الحدود بين الحلم واليقظة في انسجام كوني، المادة والروح في تعانق عميق، الموت والحياة في صراع دائم، أصبحت ككاهن في معبد الكون الشاسع، أرسم بأحرفي أسرار الوجود كما فعل الشاعر “صافي هيراني” في رقصاته الكونية التي تحدت الزمن، وأستحضر الذات الإلهية كطقوس “عبد الله بةشيو” التي جمعت بين الأرض والسماء. الزمن هنا يتحول إلى دائرة لا تنتهي، والمكان إلى وهم يتلاشى مع كل خطوة، والوجود ككتاب شعر مفتوح حيث الذات تتأرجح بين الظهور والاختفاء في حركة دائمة.
أنا لست منفيًا في المعنى التقليدي، بل رحالة في ساحة الروح التي لا تعرف الراحة، حيث القيود تتحول إلى أجنحة تحملني، والظلام إلى مهد للنور الذي أبحث عنه، كل خطوة كانت رحلة نحو الذات، احتفالًا كونيًا بالوجود وتأملاً لا نهائيًا في الأسرار التي تحيط بنا، كما لو كانت رقصة صوفية على حافة العدم الذي يهدد وجودنا.
هذه الذات، كما يقول الفيلسوف بول ريكور في تحليله العميق، هي نفسها كآخر في تناقض دائم، فأنا كوردي بجذوري ومواطن دولة أخرى بجوازي، أتحدث عدة لغات في صراع داخلي، وأعيش تناقض الانتماءات الذي يشكل هويتي.
حوار الروح التائهة والجسم المعذب
من هذا التعانق العميق مع الروحانيات، دار حوار بين جسدي المثقل بالأمراض والألم وروحي التائهة في ليلة هادئة بسيدني، حيث أضواء المدينة تتراقص كأرواح ضائعة تبحث عن مكانها.
الجسم: “أنا من حملك عبر السنين الطويلة، يا روحي العزيزة. السكري ينهش عروقي كالنار التي لا تُطفأ، وأمراض القلب تضرب كالطبول في صدري بقوة لا تُطاق، وضغط الدم يضغط كأنه جبل ثقيل على كاهلي المرهق، والكبد، يا إلهي، يئن تحت وطأة الزمن الذي لا يرحم، والنكبات تنتشر كخريطة حرب على جلدي الذي أصبح سجلاً للمعاناة، والكسور من التعذيب لا تزال تتذكر كل ضربة تلقيتها في الماضي. أنا من عملت النهار والليل بلا كلل، حاملًا أحجار الحياة الثقيلة، حاصدًا الخبز لأبقيك حيًا رغم كل شيء، وها أنا الآن أنهار كشجرة جرداء فقدت أوراقها في الخريف. لماذا تتركينني أعاني وحيدًا في هذا العناء؟”
الروح: “يا جسدي العجوز الصامد، أنا لا أتركك أبدًا، بل أبحث عن ضوء في الظلام الذي ألقيتني فيه بسبب ظروفي. أحلم بجبال كوردستان الشامخة، بأوراق نارية تضيء الوديان كشعلة أمل، وأمنياتي ترقص كالدراويش حول شمس لا تُطفأ مهما طال الظلام. لكن العذاب يلاحقني كظل، ذكريات السجن المظلم، صرخات الشهداء الذين سقطوا، وأحلام تلاشت كالرماد في الريح. أنا تائهة بين الطموح للحرية التي حلمت بها وألم الفقدان الذي يعصرني، أريد أن أطير فوق الجبال، لكن أجنحتي مثقلة بأوزارك التي تحمل ذكريات الماضي.”
الجسم: “طيري إذن، يا روحي، لكن كيف أفعل ذلك؟ عظامي تتكسر كالزجاج الهش تحت ثقل السنين الطويلة، والعمل الشاق تركني كصخرة منهكة لا تقوى على الحركة. كل يوم كان معركة ضارية، كل لقمة خبز كانت انتصارًا صغيرًا، وكل نفس كان صرخة ضد الموت الذي يقترب. لكن الآن، أشعر بالانهيار التام، كأنني لم أعد أستطيع حملك في هذا العناء. ألمك يدميني بقوة، لكن ألمك يقتلني أكثر بمرارة لا تُطاق.”
الروح: “أشعر بك، يا جسدي الحبيب، بنبضك الضعيف الذي لا يهدأ وآهاتك الصامتة التي تخفيها. أحمل أحلامي كثقل يرهقني، لكنها أيضًا نور يضيء طريقنا معًا. أتذكر أيام الشباب، عندما كنت أركض خلف الفراشات بحرية، وأمنيتي كانت أن أرى وطني حرًا من القيود. الآن، أعاني بين هذا الطموح الذي لا يموت وجراحك التي لا تندمل، لكنني أرفض الاستسلام مهما كانت الظروف. دعنا نجد التوازن بيننا، أنا سأعانقك بنوري الخافت، وأنت احتملني بصبرك العميق الذي تعلمته من الجبال.”
الجسم: “التوازن؟ أنا أعاني كل يوم بلا توقف، كل دواء يذوب في دمي كالسم البطيء، وكل خطوة تكلفني أنفاسًا أقل فأقل. لكن إذا كنتِ ترين نورًا في نهاية النفق، فلأحملك قليلًا أكثر بقوة ما تبقى لدي. ربما، في هذا النضال المشترك بيننا، نجد قبرًا للألم الذي يعذبنا أو موطنًا للروح التي تبحث عن الراحة.”
الروح: “نعم، دعنا نرقص معًا، أنا وأنت، كالدراويش حول جبل من نور يضيء طريقنا. كل جرح سيصبح نافذة تطل على الأمل، وكل ألم سيكون خطوة نحو الشفاء الذي ننتظره. لن أتركك أبدًا، وأنت لا تيأس مني مهما طال الزمن. معًا، سنكتب قصة البقاء التي تحمل دموعنا وأحلامنا، حتى لو كانت مكتوبة بالدماء.” في تلك الليلة، شعرت كأن الجبال نفسها سمعت الحوار العميق بيننا، فهزت أغصانها النارية كتعويذة سحرية، وكأن الروح والجسم بدآ يتعانقان في صمت عميق، بحثًا عن سلام في عالم من الجراح التي لا تندمل بسهولة. هذا الصراع، كما عبر الشاعر في استعارته المؤلمة، يجعلني حذاءً ضائعًا يتجول بين الحدود بلا جواز سفر يحميني، لكن الرقص يعيد لي اتجاهي ويمنحني الأمل.
أربعون عامًا في مرآة الزمن ….
من هذا التعانق الروحي، انتقلت إلى سيدني حيث أضواء المدينة تتراقص كأرواح ضائعة تبحث عن مكانها في الفضاء، والضوء الأزرق لتلفاز الجيران يتسلل كسائل مشع يترك بصمة ضبابية على أرضية الشقة التي استأجرتها منذ ثلاثة أشهر وأربعة أيام، أرضية خشبية تبدو كأنها تحمل آثار خطوات أشباح من زمن مفقود تلاشى مع الريح، بعيدًا عن الطرق الترابية بين القرى حيث كانت الأرض تهز أقدامي بنبضها الخفي الذي كان يمنحني القوة. ذلك العدو اللطيف الذي يسرق ظلامي كل ليلة، كنت أحلم برؤيته في زنزانتي كدليل على وجود بشرية خارج جدراني المظلمة، لكنه الآن صار تذكيرًا بأن البشرية قد تكون أكثر برودة من السجن القاسي، كأنه يعكس عالمًا سرياليًا حيث الضوء يحمل الوحدة بدلاً من الأمل الذي افتقدته، وكأن كل وميض كان يحفر جرحًا في النفس الحساسة. ثلاثة أشهر وأربعة أيام من التحديق في سقف لا يختلف كثيرًا عن سقف زنزانتي في أربيل، إلا أنه هذه المرة من اختياري—اختيار يشبه عبءًا وجوديًا أضعه على كتفي كل صباح كجبل صغير ينمو مع كل يوم جديد، محرومًا من غناء الطيور الذي كان يملأ صباحاتي وخرير الجداول الذي كان يهدهدني، وكأن كل صمت كان يزيد من ثقل الروح التي تحمل ذكرياتها.
سيدني، بضجيجها الميكانيكي الذي يشبه أنين آلات حية تعمل بلا توقف وأنوارها الباردة التي تبدو كأنها تجمد الروح في قالب من الزجاج الشفاف، ليست مدينة تستقبلني بأحضان دافئة، بل مرآة تعكس ضياعًا لا أجد له نهاية في أفق بعيد، بعيدًا عن روائح الغابات الخضراء التي كانت تملأ رئتي وألوان الأوراق النارية التي كانت تضيء الوديان في ذاكرتي، وكأن كل رائحة كانت تحمل ذكرى للوطن الذي تركته وراءي. أكتب من أعماق أربعين عامًا من التشظي الداخلي، حيث المنفى هو العيش على حافة الهويات المتعددة، كأنني أعيش بين لغتين متناقضتين: لغة الذاكرة التي تتنفس تراب شقلاوة وروائحها، ولغة الواقع التي تُجبرني على أن أكون “قوة عمل” في آلة رأسمالية لا تعرف الرحمة أو الإنسانية. في أستراليا، تحولت إلى ظل يسير في شوارع لا تعرف اسمي الحقيقي، حيث شجرة الكينا لا تُحدثني كشجرة التوت في بستان أبي التي كانت تحكي لي قصص الطفولة، كل شجرة كانت مرآة تعكس غياب الوطن الذي أفتقده.
في حافلة المدينة، رأيت طفلة تلعب بدميتها ببراءة، فجأة، تحوّلت الدمية في عينيّ إلى حذاء صغير كان يرتديه مشير حين سقط في المعركة، أغلقت عينيّ في محاولة للهروب، لكن صورة الدمية-الحذاء ظلت تطفو كجثة في بحيرة ذاكرتي العميقة، كأن المنفى يحول كل جمال إلى ذكرى مؤلمة تعصر القلب، وكأن كل صورة كانت تذكيرًا بالماضي الضائع الذي لا أستطيع استعادته. أمراضي، كما وصفتها في تحليل النفسي، في قصائد المنفى—السكري الذي ينهش عروقي كالنار التي لا ترحم، أمراض القلب التي تضرب كطبول في صدري بقوة، وضغط الدم الذي يضغط كجبل على كاهلي المثقل، والكبد الذي يئن تحت وطأة الزمن الذي لا يتوقف، والنكبات التي تنتشر كخريطة حرب على جلدي الذي أصبح سجلاً للمعاناة. حين يقيس الطبيب الأسترالي سكري دمي، لا يعرف أنه يقيس حسرتي العميقة على وطن فقدته، كل قرصة إبرة كانت تعكس جرحًا في الروح التي تحمل ذكرياتها، وكأن الجسد أصبح سجلاً أمينًا لمعاناة الوجود كما رأى ألبير كامو في تأملاته الوجودية. هذا الاغتراب المزدوج، كما عبر الشاعر ھەژار في شعره العميق، جعلني أنقش اسمي على جدران المنفى كدليل على وجودي، لئلا تبتلعه الذاكرة التي تحاول محو هويتي.
الأمل، الذي كان يتغذى على أناشيد نوروز وهمسات الجبال كأنه نبض حياة ينبض في صدري، بدأ يذبل هنا كزهرة تُنسى في زاوية مهجورة من الذاكرة، كأن المنفى صار مساحة للصدق في عالم الزيف كما قال الفيلسوف ثيودور أدورنو في نقده للمجتمع الحديث.
أكتب بالكوردية كي لا أنسى جذوري، لكن اللغة نفسها أصبحت منفى أول وأخير كما قال الشاعر أدونيس في تأمله الشعري، حيث كل كلمة تحمل خيانة للوطن الضائع الذي أترك وراءي وخلاصًا في السطور التي أرسمها بدمي. الكتابة، كما علمنا موريس بلانشو في فلسفته، فعل مقاومة ضد النسيان الذي يهدد وجودنا، والذاكرة ليست مجرد حنين عاطفي بل مقاومة نشطة، بنيت وطني في صحيفة “الكورد” كأوراق نارية تضيء الظلام المحيط بي،
كل سطر كان رقصة وجودية تتحدى الزمن. السخرية، كما عند عزيز نسين في أدبه العميق، أصبحت سلاحي ضد العبث الذي أعيشه، حيث أضحك على دور البهلوان الذي ألعبه في هذا العالم الذي لا يرحم.
الهاتف على الطاولة صامت كحجر جامد، لكنه يبدو كشيء حي ينتظر لحظة الإحياء، كأنه يحمل أرواحًا تائهة تنتظر من يوقظها من النوم، كل صمت كان يحمل أملًا خافتًا. في الليلة الماضية، حلمت أنه رن بقوة، وكان صوت سمكو من الجهة الأخرى يقول: “لقد وجدنا المكان المثالي للمخيم، تعالَ نزرع الأمل معًا في الأرض”، صوته يحمل ضحكته القديمة التي كانت تملأ شقلاوة كنهر يروي الصحراء. استيقظت مذعورًا، لكنني وجدت الظلام يحيطني، والهاتف لا يزال صامتًا كجدار السجن القديم. لكن في تلك اللحظة، شعرت كأن الجبال نفسها سمعت حلمي، فهزت صخورها النارية كتعويذة سحرية، و الأمل بدأ يتسلل كنسمة خفيفة من جبل سفين إلى قلبي. أربعون عامًا مرت، لكنني أرفض أن تكون مرآة الزمن شاهدًا على النسيان؛ فأنا أكتب، أنقش اسمي على جدران المنفى كدليل على وجودي، وأحمل ذكرى كل شهيد كشعلة تضيء طريقي، حتى لو كان الطريق يقودني إلى قبري.
خاتمة: أنطولوجيا الجرح والميلاد
من هذه الرحلة عبر الذكريات والمنفى، انتقلت إلى أربعين عامًا مرت كأنها أبدية، أحفر في جسدي المتعب وروحي التائهة بحثًا عن جوهر أصبحت أراه نورًا خافتًا. في ليلة هادئة بسيدني، أغلقت عيني وانسللت في حلم صوفي: أقف على قمة جبل سفين، والريح تحمل أنغام القبج كترانيم إلهية. الجبال، كأعمدة نور، ترفعني، والأكواخ الطينية تروي حكايات الأجداد كأنها صفحات من كتاب مفتوح. أرى أرواح سمكو ومشير وكاروان ترقص كالدراويش حول شمس لا تُطفأ، وكل ندبة في جسدي تتحول إلى نافذة تطل على فضاء ميتافيزيقي حيث تذوب الحدود بين الحلم واليقظة، المادة والروح، الموت والحياة.
في هذا الفضاء السريالي، أصبحت كاهنًا في معبد الكون، أرسم بأحرفي أسرار الوجود كما فعل صافي هيراني، وأستحضر الذات الإلهية كطقوس عبد الله بةشيو. الزمن تحول إلى دائرة، والمكان إلى وهم، والوجود ككتاب شعر مفتوح حيث الذات تتأرجح بين الظهور والاختفاء. الجسد، رغم أمراضه، يحملني كجسر إلى النور، والروح تُضيئه كسراج في الرماد. لم أعد منفيًا، بل حارسًا لأرواح ترفض الفناء، كاتبًا لأشباح تعيش في كل حبة تراب من كوردستان. هذه قصتي، ميلاد مستمر حيث كل جرح سطر في سفر الحرية، وكل دمعة قصيدة تتحدى النسيان، وكل نفس وعد بالعودة في نور لا ينطفئ. كما قال ھەژار، حين تموت لغتي، سأحفر قبري بأظافري، فالقبر وطن أخير للكلمات التي لا تُدفن، وكما قال سارتر، الوجود يسبق الماهية، فأنا أعرف نفسي بالمقاومة لا بالاعتراف.
في النهاية، أترك لكم هذه الدعوة للبدء من جديد، كأننا نتعلم الأبجدية من جديد، ونفتح سقف إنسانيتنا لكل شيء…”
“الولادة من جديد”
حسين خوشناو
هَيَّا، خُذْ نَفَسًا
بُطْءً..
وَالْتَفِتْ إِلى السَّمَاءِ.
اِمْلَأْ عَيْنَيْكَ بِالضِّيَاءِ.
وَافْتَحْ أَبْوَابَ قَلْبِكَ.
حَوِّلْ كُلَّ الأَحْزَانِ وَالآلامِ فِي صَدْرِكَ
إِلَى سَحَابٍ، وَمَطَرٍ، وَثَلْجٍ، وَشَمْسٍ…
اِمْحُ مِنْ قَلْبِكَ
قَسْوَةَ الزَّمَنِ وَالنَّاسِ.
افْتَحْ صَفْحَةً جَدِيدَةً فِي تَارِيخِكَ.
أَعْطِ كَلِمَاتِكَ اسْتِرَاحَةً
وَاخْتَرِ الصَّمْتَ.
دَعْ عَيْنَيْكَ تُغَنِّي أَشْعَارَ الحُبِّ…
لِنَغْدُرْ هُنَاكَ عَلَى ذَاكَ الشَّاطِئِ مَرَّةً أُخْرَى..
لِنَبْدَأَ العَيْشَ مِنْ جَدِيدٍ.
لِنَخُطَّ خُطُوَاتِنَا الأُولَى كَالْوِلْدَانِ..
لِنُعَاشِرَ الحَيَاةَ كَأَنَّنَا نَتَعَلَّمُ الأَبْجَدِيَّةَ..
لِنَفْتَحَ سَمَاءَ إِنْسَانِيَّتِنَا مَرَّةً أُخْرَى
لِكُلِّ شَيْءٍ.
دَعِ الطُّيُورَ، وَالسَّمَكَ، وَالنَّمْلَ، وَالفَرَاشَاتِ
تَرْقُصُ مَرَّةً أُخْرَى فِي شَرَايِينِنَا..
لِنَفْعَلْ ذَلِكَ مَرَّةً أُخْرَى.
لِنُولَدْ مَعًا مِنْ جَدِيدٍ..
 
 
clip_image002 سيرة الاغتراب: حفريات في جسد المنفىclip_image002 سيرة الاغتراب: حفريات في جسد المنفى
 

Translation Service

Artboard-1 Translation Service



 

 

سوسان لي تصبح أول امرأة تقود الحزب الليبرالي الأسترالي

ا

ley-sussan-e1624595745621 سوسان لي تصبح أول امرأة تقود الحزب الليبرالي الأسترالي

لفرات خاص:  ستكون سوسان لي القائدة الجديدة للحزب الليبرالي إلى جانب المتحدث السابق باسم الطاقة تيد أوبراين الذي سيكون نائب القائد. جاء القرار بعد خسارة الائتلاف في الانتخابات الفيدرالية القاسية، حيث تغلبت السيدة لي على منافسها سيمون كينيدي في

 تصويت ال

قيادة بين أعضاء البرلمان من الحزب. الحزب الليبرالي، الذي أصبح الآن في المعارضة بعد تسع سنوات في الحكم، يتطلع إلى السيدة لي لإعادة بناء صورته واستعادة ثقة الناخبين قبل الانتخابات القادمة. السيدة لي، عضو البرلمان منذ فترة طويلة عن دائرة فارر ووزيرة الصحة السابقة، تعهدت بالتركيز على القضايا الاقتصادية، والمجتمعات الإقليمية، والمساواة بين الجنسين داخل الحزب.

الخلفي

  • من هي سوسان لي؟: سوسان لي (مواليد 14 ديسمبر 1961) هي سياسية Mariah Carey 2014ية أسترالية تمثل دائرة فارر منذ عام 2001. شغلت مناصب وزارية مثل وزيرة الصحة (2014-2017) ووزيرة البيئة (2016).

  • الأهمية التاريخية: لي هي أول امرأة تقود الحزب الليبرالي، وهو إنجاز تاريخي للحزب الذي تأسس عام 1944.

  • السياق السياسي: بعد خسارة الائتلاف في انتخابات مايو 2025، يواجه الحزب تحديات كبيرة، بما في ذلك انهيار التحالف مع الحزب الوطني ومنافسة المستقلين.

  • التحديات: تشمل مهام لي إعادة توحيد الحزب، مواجهة قضايا تغير المناخ، وجذب الناخبين الشباب من خلال إصلاحات داخلية.

التفاصيل الإضافية

  • تيد أوبراين: نائب القائد، وهو سياسي بارز في قضايا الطاقة، سيدعم لي في تقديم رؤية اقتصادية قوية.

  • ردود الفعل: أشاد البعض بتعيين لي كخطوة نحو التنوع، بينما طالب آخرون بإصلاحات أعمق داخل الحزب.

  • الخطوات المستقبلية: تتضمن خطة لي تعزيز تمثيل النساء وزيادة التركيز على القضايا الاقتصادية والإقليمية

نداء وطني الى الجاليات الكوردستانية في العالم

نداء وطني الى الجاليات الكوردستانية في العالم

 
أيها الأخوة والأخوات، يا أبناء شعب كوردستان العظيم، يا من تحملتم قرنًا من الظلم والقهر، يا من رويتم أرض الحرية بدماء مئات الآلاف من الشهداء، يا من صمدتم أمام الإبادة الجماعية، التهجير القسري، والاضطهاد العرقي، ولم تنحنوا أبدًا!
من ألمانيا إلى فرنسا، من السويد إلى هولندا، من بريطانيا إلى النرويج، من إيطاليا إلى بلجيكا، من النمسا إلى سويسرا، من الدنمارك إلى فنلندا، من اليونان إلى أستراليا، من كندا إلى الولايات المتحدة، وفي كل ركن من الشتات، ندعوكم، يا أبناء كوردستان، لتوحيد صوتكم ضد الظلم الجديد الذي تمارسه الحكومة العراقية ضد شعبنا في إقليم كوردستان.
إن قطع رواتب موظفي إقليم كوردستان، حق كفله الدستور العراقي بموجب المادة 14 التي تنص على أن “العراقيون متساوون أمام القانون دون تمييز بسبب العرق أو القومية”، هو خرق صارخ من الحكومة العراقية لهذا الدستور. فبينما تواصل الحكومة توزيع الرواتب في المحافظات الأخرى، قطعت رواتب موظفي الإقليم بحجج واهية ولأسباب سياسية تخدم أجندات خارجية، في محاولة خبيثة لقمع شعب كامل يطالب بحقوقه المشروعة. هذا الإجراء لا يختلف عن الإبادة الجماعية التي شهدناها في حلبجة، والأنفال، والمقابر الجماعية، وهو انتهاك واضح لقرارات المحكمة الاتحادية التي تنص على عدم إدخال رواتب موظفي الإقليم في الصراعات السياسية. إنه استمرار لسياسة الاضطهاد الممنهج ضد شعبنا الكوردستاني، شعب الجبال الذي لن يركع!
ندعوكم، يا أبناء كوردستان في الشتات، للخروج في مظاهرات جماهيرية سلمية وحاشدة خلال الفترة من السبت 28 يونيو إلى الجمعة 4 يوليو 2025 أمام مقرات الأمم المتحدة، البرلمانات الوطنية، والمنظمات الإنسانية في دول إقامتكم. ارفعوا علم كوردستان عاليًا، رمز نضالنا وكرامتنا، والتقطوا صورًا وفيديوهات للتظاهرات لمشاركتها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، لتكون هذه الفعاليات صرخة وطنية موحدة تندد بجرائم الحكومة العراقية وتؤكد تضامننا المطلق مع أهلنا في إقليم كوردستان الذين يواجهون هذا الحصار الاقتصادي الجائر. فليكن شعارنا: كوردستان حرة، كريمة، لا تنحني!
نداء خاص:
• إلى حكومة إقليم كوردستان وأعضاء برلمان الإقليم: نطالبكم بدعم هذه المبادرة الوطنية سياسيًا ودبلوماسيًا، لنقل صرخة شعبنا الكوردستاني إلى المحافل الدولية، وإحياء إرث شهدائنا بالدفاع عن حقوقنا.
• إلى ممثليات حكومة إقليم كوردستان ووكلائها الدبلوماسيين في ألمانيا، فرنسا، السويد، بريطانيا، إيطاليا، النمسا، أستراليا، الولايات المتحدة، وجميع الدول الأخرى: نطالبكم بالمساندة النشطة لهذه التظاهرات، والتنسيق مع الجاليات الكوردستانية لإيصال صوت كوردستان إلى العالم.
• إلى الأحزاب الكوردستانية: نطالبكم بتوحيد الصفوف وتعبئة قواعدكم لدعم هذه التظاهرات، فإرادة شعبنا الكوردستاني هي قوتنا الحقيقية.
• إلى القنوات الإعلامية الكوردستانية: نطالبكم بتغطية هذه التظاهرات، ونقل معاناة شعبنا الكوردستاني إلى كل بيت ومؤسسة في العالم.
• إلى المنظمات والتجمعات الكوردستانية في ألمانيا، فرنسا، السويد، هولندا، بريطانيا، النرويج، إيطاليا، بلجيكا، النمسا، سويسرا، الدنمارك، فنلندا، اليونان، أستراليا، كندا، والولايات المتحدة: نطالبكم بالتنسيق مع الجاليات الكوردستانية لضمان نجاح هذه التظاهرات، لنثبت للعالم أن شعب كوردستان لا يموت!
أماكن التظاهرات (28 يونيو – 4 يوليو 2025):
• ألمانيا: أمام مقر الأمم المتحدة والبوندستاغ في برلين، ومكاتب المنظمات الإنسانية في كولونيا وهامبورغ.
• فرنسا: أمام مقر الأمم المتحدة والجمعية الوطنية في باريس.
• السويد: أمام البرلمان السويدي في ستوكهولم ومكتب الأمم المتحدة في مالمو.
• هولندا: أمام البرلمان الهولندي في لاهاي ومكتب الأمم المتحدة في أمستردام.
• بريطانيا: أمام البرلمان البريطاني في لندن ومكاتب منظمات حقوق الإنسان.
• النرويج: أمام البرلمان النرويجي في أوسلو.
• إيطاليا: أمام مكتب الأمم المتحدة في روما.
• بلجيكا: أمام مقر الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة في بروكسل.
• النمسا: أمام البرلمان النمساوي في فيينا.
• سويسرا: أمام مكتب الأمم المتحدة في جنيف.
• الدنمارك: أمام البرلمان الدنماركي في كوبنهاغن.
• فنلندا: أمام البرلمان الفنلندي في هلسنكي.
• اليونان: أمام البرلمان اليوناني في أثينا ومكاتب المنظمات الإنسانية.
• أستراليا: أمام البرلمان الأسترالي في كانبيرا ومكتب الأمم المتحدة في سيدني.
• كندا: أمام البرلمان الكندي في أوتاوا ومكتب الأمم المتحدة في مونتريال.
• الولايات المتحدة: أمام مقر الأمم المتحدة في نيويورك ومكاتب منظمات حقوق الإنسان في واشنطن.
نطالب المجتمع الدولي والمنظمات الإنسانية بالتدخل الفوري لوقف هذه الانتهاكات وضمان حقوق شعبنا الكوردستاني في إقليم كوردستان. إن دماء شهدائنا لم تذهب هدرًا، وصوتنا لن يُخمد، وسنواصل النضال حتى تحقيق الحرية والكرامة على أرض كوردستان!
شعب كوردستان الحي لا يموت!
للتنسيق:
تواصلوا مع المنسق العام للحملة، حسين خوشناو، عبر:
• واتساب: +61414702241
• البريد الإلكتروني: husseinkhoshnow@gmail.com
للتنسيق في كافة الدول: تواصلوا مع المنظمات الكوردستانية المحلية وممثليات حكومة إقليم كوردستان في بلدانكم.
المنسق العام: حسين خوشناو
11 يونيو 2025